لا يمكن للدولة المدنية الحديثة التي تنشد بناءها ثورة الشباب المجيدة، ان توجد دون استئصال حقيقي لمراكز القوى في الجيش والأمن، او على الأقل إنقاص أوزانها وتحجيم نفوذها بصورة تحقق غاية إخضاعها للدستور والقانون. ثورة الشباب المجيدة، تناضل الآن من اجل إسقاط مراكز القوى الحديثة، وتحديدا تلك التي تخلقت عقب استحواذ الرئيس (صالح) على مجمل السلطات السيادية اثر إنقاصه لأوزان شركائه القدماء في المركز المقدس. يدرك شباب الثورة، الا سبيل لانجاز أهم أهدافهم الثورية دون تفكيك المراكز النفوذية الحديثة (التوريثية) بوصفها العائق الأبرز الذي يحول دون بلوغ الثورة أعتاب النصر المستعصي، غير ان ذلك الإدراك الثوري لا يبدو مكتملاً حين يتعلق الأمر بمراكز النفوذ التقليدية القديمة التي تدأب بعض القوى الثورية لإشاحة الرؤية عنها وتبديد أي تركيز ثوري قد يطالها. في الواقع، تتفرع الرؤية لدى شباب الثورة الى فسطاطين، احدهما يدرك خطورة مراكز النفوذ التقليدية بذات ادراكه لمستوى خطورة المراكز التوريثية التابعة للأسرة الصالحية الحاكمة، والآخر يظن ان هذه المراكز التقليدية حليف استراتيجي للثورة وحارس أمين على أهدافها، وهو ما يعني انها لا تشكل خطراً على الثورة، ليس هذا فحسب، اذ يرى هؤلاء أيضا ان الحديث عن هذه المراكز يجسد تقويضاً للثورة وتامراً عليها وخيانة لها. وإذا كان أرباب الفسطاط الأخير لا يرون في المراكز التقليدية تهديداً حقيقا يستوجب اليقظة والاستعداد، فان أرباب الفسطاط الأول يحبذون تأجيل الحديث عن خطورة مراكز القوى التقليدية لحين نجاح الثورة في إقصاء مراكز القوى (التوريثية) الحديثة، وحسب هؤلاء فان عداء الثورة للمراكز القديمة قد يكون سبباً في استعصاء واستحالة بلوغ غاية النصر، إذ لابد أولا من تحقيق النجاح البائن ضد المراكز (التوريثية) الحديثة قبل التفكير في تحجيم القديمة وبالأخص تلك التي أعلنت تأييدها لثورة الشباب المجيدة. مخاوف ثورية تبددت سريعاً حين أعلن كل من الجنرال علي محسن الأحمر والشيخ صادق الأحمر عن تأييدهما للثورة الشبابية، ظن البعض لبرهة ان الثورة قد اختطفت تواً، وتحولت الى أداة لتصفية الحسابات بين مراكز النفوذ السلطوية بشقيها القديم والحديث. احتدم الجدل وقتذاك، وأخذت صيحات التذمر والقلق تتعالى بنسق منتظم، وبدأ لبرهة ان الثورة لم تعد فعلاً عفوياً كما أراد الثائرون لها ان تكون. لم يدم التذمر طويلاً، ا سرعان ما اتبع الجنرال محسن والشيخ صادق، إعلانهما، بالتأكيد على أنهما لا يسعيان لاختطاف الثورة ولا يتطلعان الى قيادتها. لقد أكد ذلك مراراً، لدرجة ان الشيخ صادق الأحمر تعهد بذلك على الملأ وأما عدسات التلفزة الفضائية. حينها فقط تراجعت نبرات التذمر الثورة، ورغم ان القلق ظل حاضراً الا ان ثنائية التفهم والاستيعاب سرعان ما وجدت طريقها الى عقول الشباب. التزامات وضمانات خطية في الواقع، لم يكن حدث الانضمام من قبل الجنرال والشيخ قابلاً للاستيعاب على الصعيد الثوري لولا جهود أحزاب اللقاء المشترك التي أسهمت في تبديد المخاوف واحتواء ردود الأفعال التلقائية على الحدث. التطابق في الرؤى والتوجهات بين المشترك من جهة والجنرال والشيخ من جهة أخرى، لم يجسد دافعاً وحيداً لجهود التبديد والاحتواء المشتركية، فالجنرال علي محسن حين أعلن تأييده للثورة الشبابية أصر على تقديم التزامات وضمانات خطية للمجلس الأعلى لأحزاب اللقاء المشترك تؤكد - على نحو غير قابل للتشكيك- بأنه جاد في إسناده للثورة وعدم الالتفاف عليها او استخدامها كمطية لإعادة إنتاج الذات سلطوياً في مرحلة ما بعد النجاح المستعصي للفعل الثوري. بهذا نال محسن وصادق ثقة الثوار سيناريو إبداء حسن النوايا، لم يقتصر على ذلك فحسب، إذ ألح القائد العسكري العتيد على تضمين التزاماته الخطية بنوداً أخرى ذات طابع تطميني لعل أبرزها بند ينص على رغبته في التقاعد عقب تحقيق النصر للثورة المجيدة.. بالتزاماته تلك، نال الجنرال محسن ثقة معظم القوى الثورية، وهي ثقة سرعان ما تعززت حين تنازل محسن لوزير الدفاع السابق عبدالله عليوه عن حقه الطبيعي والواقعي في رئاسة المجلس العسكري الأعلى لجيش الثورة الذي جرى تأليفه تحسباً لأي مواجهات عسكرية مع فلول الحرس الجمهوري. الشيخ صادق الأحمر بوصفه كبير حاشد وزعيمها، استطاع ان ينال الثقة الثورة أيضا حين تقدم بالتزام متلفز للثوار- عن نفسه وعن أخوته- يقضي بعدم السعي للتواجد ضمن التركيبة القيادية لنظام ما بعد الثورة وعدم التطلع للزعامة الثورة او محاولة إعادة إنتاج النفوذ الحاشدي على حساب قيام الدولة المدنية الحديثة التي ينشدها الثوار. إقصاء التقليديين مرهون برحيل التوريثيين بالنسبة للثوار، لا تبدو التزامات الجنرال والشيخ، قابلة للتنفيذ الا في حالة واحدة فقط، الا وهي نجاح الثورة في إقصاء مراكز القوى والنفوذ الحديثة المتمثلة بجيل الأبناء من الأسرة الصالحية الحاكمة، اذ لا يعقل ان يقبل الثوار بأي سيناريو إقصائي للجنرال محسن والشيخ صادق وإخوته في ظل وجود الأسرة الحاكمة وتحديداً رجال التيم التوريثي الذي يقودهم الوريث احمد (نجل صالح) بالاشتراك مع انجال عمه الثلاثة عمار ويحيى وطارق.. يصارع الجيل التوريثي في محادثات التسوية الجارية خلف الكواليس من اجل بقائه ضمن التركيبة القيادة لنظام ما بعد الثورة، مستنداً في ذلك إلى صموده أمام مد الثورة العاني وما يحظى به من إسناد لا مرئي من قبل المؤسسات السيادية في الولاياتالمتحدةالأمريكية وجناح الملك عبدالله في النظام السعودي. وبما ان الأبناء يرفضون قطيعاً القبول بأي تسوية يمكن ان تحولهم من شركاء إلى موظفين قابلين للعزل والإقالة والنقل، فان الحديث عن تنفيذ التزامات الجنرال والشيخ لا يبدو منطقياً البتة، اذ يجب ان يظل وجودهم قائماً لحين نجاح الثورة في التخلص من الأسرة الحاكمة وإقصاء الأولاد أولا.. وإذا ما تجاهلنا الرأي الشبابي الذي يرى في إقصاء مراكز القوى التقليدية خيانة ثورية، فان المبدأ الأنف يحظى بإجماع لافت لدى شباب الساحات، اذ ان التفكير بإنهاء مراكز القوى التقليدية في الدولة مهون بنجاح الثورة في إقصاء المراكز النفوذية الحديثة المتمثلة في الآسرة الحاكمة ورجال التيم التوريثي (الاولاد). السياسي يتأهب لملء فراغات القومي حين نتحدث عن مراكز القوى التقليدية في الدولة، لا تبدو المشكلة الفعلية منحصرة في الجنرال محسن والشيخ صادق وإخوانه، اذ ثمة معظلة تبدو أكثر عمقاً وتحذراً ألا وهي وجود رموز الحرس القديم من رجال الظل وتحديداً في جهاز المخابرات التقليدي المسمى (جهاز الأمن السياسي) في دولة كاليمن، يظل جهاز عتيد وتاريخي كالأمن السياسي محتفظاً بشبكة معقدة من النفوذ على المستويين المركزي والمحلي. ورغم ان الأمن السياسي تعرض- خلال العقد الأخير من حكم صالح- لاستهداف منهجي يترجم الرغبة الأمريكية الصالحية المشتركة في تفويضه وتحجيمه لصالح الجهاز الأسري ذي الصبغة المناطقية والتبعية الأميركية المطلقة المسمى (جهاز الأمن القومي)، الا ان الأمن السياسي لازال محتفظاً بوجوده الفعلي في معادلة الأمر الواقع على الصعيدين النفوذ والتنظيمي. وبالتالي فنجاح الثورة في إلغاء وحل جهاز الأمن القومي يعني ان جهاز الأمن السياسي سيملأ جميع الفراغات وسيستعيد جل السلطات وسيسعى لترميم مراكزه النفوذية بشقيها المحلي والمركزي. قيادة الجهاز هي المشكلة في شأن الأمن السياسي باعتباره احد المراكز النفوذية التقليدية الرئيسية في الدولة، لا تبدو المشكلة في الجهاز نفسه كمؤسسة وطنية تاريخية بنيت على أنقاض جهازي المخابرات في الشطرين الجنوبي والشمالي. المعظلة الحقيقة في الواقع تبدو منحصرة في القيادة التاريخية للجهاز ممثلة بالجنرال غالب مطهر القمش ومعاونيه. لنفترض جدلاً ان الثورة نجحت في إقصاء الآسرة الحاكمة وتم تنفيذ التزامات الجنرال محسن والشيخ صادق عقب انتهاء المرحلة الانتقالية وبقي اللواء القمش رئيساً لجهاز الأمن السياسي، هل تتمكن الثورة في هذه الحالة من تحقيق غايتها المتمثلة في بناء الدولة المدنية الحديثة. سبق لنا ان بينا في استهلال هذه الأسطر، حجم العائق الذي تشكله المراكز النفوذية اما أي توجه حقيقي لإنتاج دولة مدنية حديثة، وبالتالي فوجود القمش يعني بالضرورة الإبقاء على مركز نفوذي عتيد قادر على إعادة بناء مراكز نفوذية كبرى يمكن ان تعوق بناء دولة مدنية حديثة لا سيادة فيها سوى للدستور والقانون. بوسعنا الاعتراف مبدئياً ان غالباً يعد من اخلص رجال الدولة وأكثرهم حرصاً على البلاد وتفهماهً لمطالب الثورة والشباب، غير ان ذلك لا يعني القبول بوجوده على رأس جهاز المخابرات في حال نجاح الثورة في إقصاء الآسرة الحاكمة. صالح يهدد بإحراق القمش! حتى اللحظة، لم يعلن غالب القمش تأييده لثورة الشباب المجيدة، وذلك رغم موقفه البطولي الاضطراري في العدوان الغاشم الذي تعرض له منزل الشيخ صادق الأحمر بالعاصمة صنعاء. غير ان عدم إعلانه الانضواء للثورة لا يعني بالمقابل عدم تأييده لأهدافها من الباطن، فالرجل ذو توجه وطني، ومن القلائل الذين جاهروا برفضهم لمشروع التوريث ووقفوا بصمود لمجابهته ومقاومته لدرجة انه- أي غالب القمش- تحول شخصياً إلى هدف لقوى التوريث الرجعية التي حاولت اغتياله أكثر من مرة، وكان آخر تلك المحاولات ما تعرض له من قصف صاروخي أثناء وجوده في منزل الشيخ صادق الأحمر، هذا عدا عن التهديدات التي كان يتلقاها باستمرار والتي كان آخرها المكالمة التلفونية الشهيرة بينه وبين الرئيس صالح أثناء وجود غالب القمش في مقر القيادة المركزية للفرقة الأولى مدرع (مكتب علي محسن) قبل أكثر من ثلاثة اشهر، حيث هدده الرئيس- وفق مصادر مقربة من القمش نفسه- بالقول اذا لم تغادر مقر الغرفة حالاً فساحرقك براجمات الصواريخ أنت وعلي محسن.. القمش هل سيرافق محسن في تقاعده؟ بالنسبة لسلطوي ضد التوريث كغالب القمش، ثمة إدراك كلي لمخاوف شباب الثورة من استمراره على رأس جهاز المخابرات في مرحلة ما بعد نجاح الثورة بإقصاء الآسرة الحاكمة (الأولاد) وهو إدراك يجعلني اسأل صاحبه بالقول: لماذا لا تبادر يا سيادة الجنرال غالب بتقديم تطمينات الى شباب الثورة على غرار تلك التي تقدم بها كل من الجنرال محسن والشيخ صادق. من حق الثوار عليك، وأنت المساند لمطالبهم من الباطن، ان تقدم إليهم التزامات خطية بعدم رغبتك في استغلال الثورة لإعادة إنتاج سلطتك ونفوذك المرعب، ومن حقهم عليك وأنت السياق منهم إلى النضال ضد التوريث، ان تتعهد لهم برغبتك في اعتزال العمل المخابراتي بعد إقصاء الأولاد، لترافق صديقك (صاحب البلاد)الجنرال محسن في تقاعده الذي وعد بتنفيذه عقب نجاح الثورة. ادر كان الرجل ليس مجبراً على الالتزام بشيء لكونه لم يعلن تأييده لثورة الشباب المجيدة علناً، غير ان خطوة كهذه بقدر ما ستبدد كل المخاوف الراهنة تجاهه، فإنها بالقدر ذاته ستلحقه بموكب الرجال الإبطال الذين أعلنوا تأييدهم للثورة المجيدة وقدموا لشبابها وساستها في المشترك التزامات خطية بعدم رغبتهم في استغلال هذه الثورة او الالتفاف عليها او توظيفها لخدمة مأربهم الخاصة. وماذا بعد؟! بالطبع لسنا ضد وجود الجنرال القمش في نظام ما بعد الثورة، ولكن ينبغي ان يكون وجوداً شرفياً بعيداً عن العمل التنفيذي المخابراتي. هنا، بوسع القمش مثلاً ان يكون عضواً في مجلس الشورى او حتى في النواب وذلك لضمان حصوله على حصانة برلمانية تحميه من المساءلة القانونية والملاحقة القضائية، غير ان وجوده على رأس جهاز مخابرات ما بعد الثورة يظل مرفوضاً ان لم يكن بدافع الحرص على الدولة المدنية الحديثة التي ننشدها جميعاً، فبدافع الرغبة في التشبيب وإتاحة الفرصة لقيادات الصف الثاني في جهاز الآمن السياسي الذين ملوا من الانتظار لتحمل المسئولية. باختصار، لسنا نطالب القمش سوى بتعهد كذلك الذي قطعه الجنرال علي محسن الاحمر على نفسه، فهل هذا التطمين البسيط كبير من قائد بحجم القمش على رجال بحجم شباب الثورة وساستها في المشترك..؟ التأكيد هنا على رمزية التعهد ضرورية، اذ لا يمكن لشباب الثورة ان يسمحوا بتاتاً باقصاْ غالب القمش او الجنارل محسن او غيرهما من مراكز النفوذ التقليدية، وذلك قبل التأ:د من محاكمة ورحيل احمد علي عبدالله صالح وعمار ويحيى وطارق ابناء العمومة وكل من تلطخت ايديهم بدماء ثورتنا المجيدة وكفى! حسين اللسواس - [email protected] نقلا عن صحيفة حديث المدينة