أحمد سيف حاشد كنت أذاكر دروسي بصوت عالٍ .. القراءة الصامتة أو حتى بصوت منخفض لا تروقني، فضلا أن حصادها شحيح و متلاشي و قليل الأثر .. مزاجي الصاحب لا تناسبه القراءة الصامتة التي لم يألفها، و لم يعتاد عليها، بل أجد أن القراءة الصموتة تتعس ذاكرتي و ترهقها، و تحتاج مني إلى نكز مستمر يفقد أهميته بعد قراءة صفحة أو اثنتين، فيدب في أوصالي الملل و السأم، و في أحوال أخرى يطيّر الصمت ذاكرتي في كل اتجاه، و أبدو كطفل صغير عديم التمييز، يلاحق ظل نحل تحوم على الأزهار، فلا يظفر بها، و لا يطول الزهر.. عندما أقرأ بصمت أجد نفسي كثير الشرود و الشوارد، و أحيانا يداهمني النعاس بعد ساعة إن طاب المقام، و في أخرى أشعر بملل يتمطى أوصالي، و تيه يجرفني بعيدا إلى حيث لا أريد .. أجد نفسي بعيدا عمّا أنا فيه، و بعيدا جدا عمّا أكون بصدد قراءته.. لا أدري كيف لازمني أسلوب القراءة بصوت عالي من الإعدادية، ثم وجدت نفسي في المرحلة الثانوية أكثر تعلقا به، و لا أجيد ما يناسبني غيره .. و في الجامعة، ثم في المعهد العالي للقضاء صارت طبيعة أو تحول إلى طبع لي في القراءة، لا أستطيع مفارقته، إلا لضرورة أو حتمية ملحة.. كانت نسبة استيعابي و أنا أقرأ بصوت عال أكثر بكثير مما لو قرأت بصوت منخفض، و كان تركيزي و أنا أقرأ بالصوت العالي أكثر بأضعاف من تركيزي و أنا أقرأ على نحو صموت .. و الأسوأ أن قراءتي الصموتة تجعلني أهدر كثير من الوقت، مقابل قليل من الفائدة، و أجد جل هذا التبديد أقضيه في ملاحقة شوارد ذهني التي تتطاير في كل صوب و اتجاه.. كنت أخرج من القسم الداخلي إلى الصحراء، و أذرعها طولا و عرضا و أنا أُذاكر دروسي بصوت عال، بل و أشير بالأيدي و الأرجل دون ارادة، و أسير بعض خطوات و أتوقف، و أكرر العبارات حتى أفهمها، و أحاول حفظها، و ما أن أنتهي من درس اكتب على كثبان الرمل (ربي زدني علما) و أحيانا أضيف (من المهد إلى اللحد) افعل ذلك بدافع وساوس محض يأخذ هو الأخر قسطه من وقتي المهدور، و بات من يراني عن بعد، و يشاهد حركاتي يظن إن بي مس من الجن، أو أنني بالفعل مجنون .. كنت أقرأ بفمي و يداي و قدماي و كل حركات جسمي و عضلات وجهي الشحوب الذي تلفحه الشمس و الريح، فتتحول قراءتي إلى ما يشبه القراءة الصاخبة المشبعة بالحركات و النشاط المقوي للذاكرة.. إنه جانب من اجتهاد وجدت نفسي فيه أفضل من أي وقت مضى اهتماما و مثابرة و بذل مجهود .. شعرت بأهمية التفوق، و تعاطيت مع طموحي، و ما أروم بمسؤولية أكبر.. في مدرسة "البروليتاريا" صرت أقدر أهمية التعليم، و أهمية الاطلاع و المعرفة .. و بدت الثقة بنفسي تزداد و المعرفة تطيب و تلذ كلما أمعنت في الدراسة و غرفت من المعرفة المزيد. *** يتبع ..