محمد المخلافي في إحدى ليالي عدن الدافئة، في فبراير عام 2004، كانت تلك آخر ليلة لي في المدينة التي احتضنتني لسنوات. كنت قد أنهيت دراستي الجامعية وحصلت على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي. في تلك الليلة اجتمعنا، أنا وأصدقائي، في شقة صديقي معتصم العديني في العمارة المثلثة بخور مكسر. امتلأت الغرفة بالأصدقاء، تبادلنا الأحاديث ومضغنا القات، واسترجعنا أجمل لحظاتنا في الجامعة. كنا نتحدث عن الماضي ونرسم ملامح المستقبل، وبين الضحكات كان يختبئ في داخلي حزن الفراق. كنت أعلم أنني على وشك مغادرة المدينة التي فتحت لي أبوابها حين قدمت إليها من قريتي الصغيرة في مخلاف شرعب شمال تعز. في عدن درست وعملت مسؤولًا إعلاميًا في مكتب مدير الأمن، ومحررًا صحفيًا في صحيفة "اليمن تايمز"، كما عملت لفترة قصيرة مسؤولًا إعلاميًا في المركز الثقافي الفرنسي. في هذه المدينة نسجت صداقات لا تُنسى، وعشت قصة حبي الأول تحت أشجار الكلية، ذلك الحب الذي لم يُكتب له أن يكتمل، لكنه ترك أثره في قلبي. غادرتُ عدن متجهًا إلى صنعاء، لكن قلبي ظلّ هناك. في صنعاء عملت مترجمًا ومحررًا في صحيفة "أخبار اليوم" لفترة، ثم انتقلت إلى صحيفة "اللواء". كما عملت مرشدًا سياحيًا في شركة "العالمية للسياحة"، وهناك أتيح لي أن أزور معظم المدن اليمنية. كتبت حينها تقريرًا بعنوان: "رحلة سياحية من حجة إلى حضرموت: آثار ومعالم ناطقة بالإبداع اليمني"، تناولت فيه المواقع الأثرية والأماكن السياحية، وسلّطت الضوء على عادات وتقاليد الزواج في مختلف المدن اليمنية. كانت أيامًا جميلة، مليئة بالتجارب والذكريات، أيقظت في داخلي شغف الاكتشاف، ومنحتني شعورًا عميقًا بأن اليمن كتاب مفتوح على الجمال والتنوع. تزوجتُ وبنفس يوم الزواج حصلت على وظيفة في وزارة التربية والتعليم، تركت العمل في السياحة واتجهت إلى التدريس في مدرسة الثورة بقرية حدة. في تلك الفترة التحقت بدورة تدريبية في طرق التدريس من قبل الاتحاد الأوروبي، وكانت تجربة غنية أفادتني كثيرًا، ومهّدت لي فرصة للعمل في معهد "مالي"، الذي كان يُعدّ آنذاك من أقدم وأفضل معاهد تعليم اللغة الإنجليزية في صنعاء، وكانت رواتبه تُصرف بالدولار. كنت أدرّس في الفترة الصباحية بمدرسة الثورة، ثم أواصل عملي بعد الظهر في المعهد. عشت حينها حياة هادئة ومستقرة، توازن فيها الاستقرار العائلي مع النجاح المهني، وكانت تلك المرحلة بالنسبة لي من أجمل محطات العمر. خلال تلك الفترة، حصلت على منحة دراسية من منظمة DAAD الألمانية، وكانت المنح تُقدَّم عن طريق وزارة التربية والتعليم. جهّزت كل وثائقي وقدمتها إلى مكتب الوزارة، الذي كان من المفترض أن يرفعها إلى السفارة الألمانية. لكننا فوجئنا لاحقًا بأن المكتب لم يُبلغنا بضرورة الحصول على موافقة مسبقة من إحدى الجامعات التي نرغب بالدراسة فيها، فاضطررت إلى تأجيل المنحة إلى العام التالي. كان شعور الإحباط حينها كبيرًا، لكنه لم يُطفئ رغبة التعلم في داخلي. في العام الذي يليه، وخلال فترة التقديم، اضطررت للسفر إلى القاهرة في رحلة علاجية. عدت بعدها إلى وطنٍ على أعتاب مرحلة جديدة من الفوضى، تحت مسمى ثورات الربيع العربي، التي انزلقت فيها العديد من البلدان، بما فيها اليمن، إلى دوامة من الأحداث والتغيرات العميقة. بدأ العمل يتدهور تدريجيًا، قدمت طلبًا للعمل في مركز تعليمي آخر وقُبلت براتب مرتفع بالدولار. لم يمض سوى أربعة أشهر حتى بدأت الحرب في اليمن، فتوقفنا عن العمل لمدة سبعة أشهر دون راتب. اضطررنا للعودة إلى العمل رغم استمرار الحرب والقصف المستمر، لكن هذه المرة بالريال اليمني، وبنسبة أقل بكثير مما كنا نتقاضاه بالدولار. استمر الوضع بالتدهور تدريجيًا، حتى أصبح الراتب لا يكفي لتغطية احتياجات الأسرة. ولم يتوقف الأمر هنا، فقد تم أيضًا تخفيض رواتبنا بنسبة 20%، ليصبح من الصعب العيش في ظل الظروف القاسية التي تمر بها البلاد. إلى جانب عملي في التدريس، أواصل المساهمة في كتاباتي الأدبية من خلال نشر مقالات في صحف ومواقع محلية وعربية وعالمية، دون أي مقابل مادي. كما أعمل مترجمًا، وقد ترجمت حتى الآن خمسة كتب مقابل أجر بسيط، محافظةً بذلك على شغفي بالكلمة واللغة رغم كل الصعوبات، لأن الكلمة بالنسبة لي هي ملاذي. كثير من زملائي اضطروا إلى السفر خارج البلاد بحثًا عن فرص حياة أفضل، تاركين أسرهم وبلادهم لمواجهة معاناة الغربة. حتى أنا، قبل عامين، حصلت على فرصة عمل خارج البلاد وسافرت على أمل تجربة جديدة، لكنني لم أوفق، فعُدت إلى وطني مجددًا. بعد هذا العمر، تجد نفسك غير قادر على تلبية احتياجات أسرتك بالشكل المطلوب. بعد سنوات من العمل والاجتهاد، يبدأ التفكير في الاغتراب وبدء حياة جديدة، بحثًا عن فرصة لتحقيق الاستقرار وتأمين مستقبل أفضل. زميلي في العمل، في منتصف الأربعين، عاش حياة هادئة ومستقرة مع أسرته، قريبًا جدًا من أولاده إلى حدٍّ لا يكاد يفارقهم. كان حاضرًا في أدق تفاصيل حياتهم: لعبهم، ضحكاتهم، وحتى بكائهم. قبل أشهر قليلة، اضطر للسفر إلى بلد آخر، لأول مرة يتركهم. وحتى الآن، ما زال ينتظر الحصول على التصريح الذي يمكّنه من العمل. تخيّل هذا المشهد: طفل في الرابعة من عمره يركض نحو الباب عند سماع وقع خطوات أبيه، يمد ذراعيه الصغيرتين، ويكرر بصوت متهدج: "بابا… بابا… بابا…". يغمره الأب بين ذراعيه، يضمّه إلى صدره، ويغمض عينيه ليستنشق رائحته العذبة التي تتخلل كيانه كله. يتأمل وجهه الطفولي وملامحه البريئة، ابتسامته وضحكته، وحتى دموعه حين يُصرّ على مرافقته عند خروجه إلى العمل. لكن فجأة، يجد هذا الأب نفسه في بلاد بعيدة، وحيدًا مع ذكرياته، حيث تمتلئ كل لحظة تمرّ هناك بآلام الشوق وحرقة الفقد. يمضي الزمن… ثم يعود الأب من غربته محمَّلًا بالشوق والانتظار، ليكتشف أن ذلك الطفل الصغير قد كبر؛ تغيّرت ملامحه، وغلظ صوته، واتسعت خطواته. يقف أمامه حائرًا، يفتش في وجهه عن آثار ذاك الطفل الذي تركه صغيرًا، ويبحث في عينيه عن بريق البراءة الأولى. يا له من شعور قاسٍ وصعب، شعور يجمع بين الفرح والحزن في آن واحد! بفعل الحرب والفوضى والانقسام الداخلي والمكائد الخارجية على هذا الوطن، أصبح هم الإنسان فيه هو كيف يوفر ما تيسر من أجل البقاء، أو خوض مغامرة السفر بحثًا عن بصيص أمل، تاركًا وراءه ذاكرة المكان وروح الأحبة.