نبهان الفالحي في حياة الأمم، قِلَّةٌ هم أولئك الرجال الذين تُخلّدهم المواقف، ويصنعون من تضحياتهم جسورًا تعبر بها الأوطان نحو الحرية والكرامة. من بين هؤلاء القلّة، يتوهج اسم أمين بن حسن بن قاسم أبو رأس كأحد أبرز رجالات اليمن الذين ارتقوا بالموقف إلى مستوى القداسة، وحوّلوا التضحيات إلى أساطير خالدة. لم يكن الفقيد مجرّد مناضل؛ بل كان مدرسة في الوطنية، ورمزًا ناصعًا للتفاني من أجل الأرض والإنسان. حياته، التي ابتدأت في ظلمات السجون ودهاليز القهر، لم تكن سوى امتداد لملحمة عائلية ممتدة في تاريخ اليمن النضالي، حيث سطّر آباؤه وأجداده ملاحم كبرى ضد الاستعمار والإمامة، منذ الغزو العثماني الأول وحتى عهد الإمام يحيى. رفض جده القائد الملقب ب"البارود" صلح دعان، وقال للإمام يحيى: "ألم تعاهدني على ألا تصالح المستعمرين؟" فكان الثمن غاليًا… وكانت المؤامرة قد حيكت للتخلص من هذه الأسرة الوطنية الصلبة، كما تكشف وثيقة بخط يد الحاكم العثماني "أحمد فيضي" تطالب بإزاحة آل أبو رأس، وهو ما سننشره في وقت لاحق. أما أمين أبو رأس، فقد شبّ على ذات المبدأ… وحين انطلقت شرارة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، لم يتردد. مع القائد مطيع دماج، كان أول من حرّر مدينة إب من براثن الإمامة، ثم استُدعي إلى صنعاء، فأسندت إليه واحدة من أصعب المهام: تحرير صعدة من قبضة الحسن الذي كان مدعومًا من قوى أجنبية معادية للثورة. دخل صعدة ظافرًا، ثم توغل إلى الجوف، إلى دهم الحمراء، إلى عمق الأرض التي لم تطأها جيوش الإمام إلا بعد 15 عامًا من حكمه الاسمي. وكان على رأس جيش الجمهورية، المسنود من الزعيم العربي جمال عبد الناصر، يردد الصوت النقي لمرافقه الشهيد مبارك بن نورة: "أبو رأس قد أتى، فلا يعترضن طريقه أحد!" ثم عاد إلى برط، جبل الكرامة، ليكمل تطهير الأرض من جيوش الحسن المرتزقة. وحين استتب الأمن، عُيّن محافظًا للواء الحديدة، ثم عضوًا في مجلس الرئاسة، ممثلًا وطنه في المؤتمرات والمحافل الإقليمية والدولية، رافعًا راية الجمهورية بشموخ. وفي مؤتمري "ريدة" و"الغراس"، رفض ملايين الريالات التي عُرضت عليه ليبيع موقفه، وقالها مدوّية: "الجمهورية نظام عادل، ضحى اليمن بخيرة أبنائه لأجل إقامته." وفي ملحمة حصار صنعاء التاريخية عام 1968، لم يكن متفرجًا، بل كان مقاتلًا، محاربًا، متحديًا قوى الظلام التي أرادت إسقاط العاصمة. كان يرفض أن يُنادى ب"الشيخ"، ويقول: "أنا شيخ للكادحين فقط!" كان بسيطًا، متواضعًا، يحمل وجع الناس، ويتألم لألمهم، ويشاركهم لقمة العيش قبل أن يذوقها. وفي الخامس من نوفمبر 1968، حين كان الانقلاب وشيكًا، فتح بيته في حي "الصياد" بصنعاء لكل المناوئين، بمختلف مشاربهم، وحماهم من البطش، ووقف معهم موقف الأبطال… لكنه – ويا للأسف – جوبه بالجحود والنكران، بعد مماته، من بعضهم. لكنه، وبشهادة الموقف، باقٍ حيًّا في ضمير الوطن، حاضرٌ في ذاكرة التاريخ، خالدٌ في كل ضمير حرّ. لقد كان رجلًا لا يخاف في الحق لومة لائم، وكان شعاره قول المتنبي: مفرشي صهوة الحصان ولكن قميصي مسرودة من حديد وما بلغت مشيئتها الليالي ولا سارت وفي يدها زمامي ولأنه كذلك… سيظل أبو رأس أحد أعمدة التاريخ الوطني، ورمزًا من رموز التضحية والفداء، في زمن بات فيه الوفاء عملة نادرة.