نافذة يقدم نص "عقد قراني" للكاتب والبرلماني أحمد سيف حاشد، والمنشور في كتابه "فصاء لا يتسع لطائر" تجربة سردية غنية تجمع بين الواقع الاجتماعي والوعي النفسي العميق للكاتب. تم إنجاز هذه القراءات باستخدام أدوات الذكاء الصناعي، لتفكيك النص من زوايا متعددة وتحليل بنيته النفسية والجمالية بطريقة منهجية ودقيقة. قراءة جمالية تركز القراءة الجمالية لنص "عقد قراني" للكاتب والبرلماني اليمني حمد سيف حاشد، على الأسلوب، الصور، الإيقاع، والرمزية، أي كيف يتحوّل النص من مجرد سرد إلى تجربة فنية ممتعة وجاذبة. الجمالية السردية النص مكتوب بصيغة المتكلم "أنا"، ما يخلق إحساساً بالحميمية ويقرب القارئ من المشاعر الداخلية للراوي. السرد ليس مجرد سرد أحداث، بل نسق داخلي متدرج من الانفعالات: القلق، التوتر، الفرح، الارتياح. هذا يجعل النص قريباً من تيار الوعي الأدبي: الجمل تتدفق كما تدفق أفكار الشخص، مع التشعب والتكرار كجزء من التجربة الجمالية. الإيقاع الداخلي حاشد يستخدم الجمل الطويلة والمتقطعة بعلامات ترقيم مزدوجة أو ثلاثية لتشكيل إيقاع نفسي: الجمل الطويلة تعكس تدفق القلق والتفكير المتسلسل النقاط المتعددة (...) هي توقفات انفعالية، لحظات شاردة. وهذا يخلق نغمة موسيقية للنص، بحيث يشعر القارئ بالاهتزاز النفسي نفسه الذي يعيشه الكاتب. الصور والتجسيد الفني النص غني بالصور الحسية والرمزية: "فراغ يخنقني"، ما يخلق شعوراً ملموساً بالقلق. "صخرة هوت على رأسي"، تصوير الصدمة والإحباط. "شجرة الدر" استعارة للأم القوية والسلطة الخفية. وهذه الصور لا تنقل المعنى فقط، بل تجعل القارئ يشعر ويعيش اللحظة. الرمزية والتوظيف الثقافي أحداث الزواج والمهر والرقم 13 ليست مجرد تفاصيل، بل رموز لجوانب الحياة النفسية والاجتماعية: الرقم 13.. قلق، شؤم، تقدير ذاتي، واعتبارات اجتماعية غياب خالد.. رفض المجتمع، صراع هوياتي الأم.. الأمان والدعم العاطفي وبهذا تصبح الأحداث اليومية لوحة رمزية تعكس الصراع الداخلي والخارجي للإنسان. التكرار والإيقاع الجمالي التكرار في النص (الخوف، القلق، الارتباك) لا يعتبر ثقلًا سردياً، بل عنصر جمالي يُبرز حالة التوتر النفسي. التكرار يعطي النص إيقاعاً شعرياً داخلياً، وكأنه نغمة مستمرة للوجدان. المزج بين الواقعي والداخلي حاشد يوازن بين الحدث الخارجي (العقد، المهر، الأسرة) وبين الوعي الداخلي (القلق، الفرح، الافتراضات). وهذا المزج يجعل النص متعدد الطبقات: يمكن قراءته كقصة اجتماعية، أو كسرد نفسي، أو كلوحة شعورية. الجمالية في التفاصيل الصغيرة النص يعطي اهتماماً كبيراً للتفاصيل: عدد النقود بالضبط، ترتيب الأسرة، أسماء الشخصيات والألقاب. هذه التفاصيل ليست فقط واقعية، بل تضفي جمالاً دقيقاً وموسيقياً على السرد، حيث كل عنصر له وقع رمزي وجمالي. جمالية مزدوجة بمزج النص الفرح المؤجل مع القلق النفسي، ما يخلق توتر جمالي: القارئ لا يعيش الحدث فقط، بل يتذوق الانفعالات، فتكون تجربة جمالية مليئة بالتضاد والعمق. الإحساس بالزمن الكاتب يستخدم عبارات: ذكريات، شرود، وانعكاسات لتقريب الماضي بالحاضر. وهذا الأسلوب يعطي النص عمقاً زمنياً وجمالياً، ويعكس حركة العقل البشري في التجربة الواقعية. خلاصة جمالية النص يمتاز بجمالية مركبة على عدة مستويات: لغة غنية وموسيقية تعكس الوعي الداخلي، صور حسية ورمزية تجعل القلق والفرح محسوسين، إيقاع متدرج وتكرار شعوري يمنح النص نغمة داخلية متسقة مزج الواقعي بالداخلي يعطيه عمقاً وطبقات متعددة، التفاصيل الدقيقة تضيف جمالاً وواقعية متناهية، التوتر بين الفرح والقلق يشكل تجربة جمالية متناقضة ومشوقة. والنص ليس مجرد قصة عن عقد قران، بل تجربة جمالية نفسية واجتماعية متكاملة، تجعل القارئ يعيش الحدث ويستمتع بالأسلوب واللغة والصور. قراءة سوسيولوجية تهدف هذه القراءة إلى كشف شبكات من البنى الاجتماعية والثقافية والقيمية التي تتحكم بالعلاقات العائلية والطبقية والمجتمعية في بيئة يمنية ريفية/حضَرية متداخلة. صراع خفي يظهر "خالد" في النص بوصفه حارساً للمعايير الجمعية. توتره، نزقه، وامتعاضه، ليس مجرد موقف شخصي، بل هو موقف بنيوي ناتج عن: التمسك بالانتماء المحلي (أبناء مدينته)، رفض "الآخر القادم من خارج الجماعة" — وهنا "شمالي/ريفي" كما يصفه الكاتب. صراع طبقي- هوياتي خافت بين "المركز/الهامش" و "المدينة/الريف". خالد يتصرف كحامل لهوية جماعية تشعر أنها مهددة. لذا يصبح حضوره أو غيابه لحظة العقد ليس تفصيلاً، بل تجسيداً لتوتر بين الفرد ورقيب الجماعة سلطة موازية يشير النص إلى حضور قوي لأم العروس، حضور "شجرة الدرّ"، وهو تشبيه بليغ يُظهر: تفوق السلطة النسائية داخل الأسرة في بعض البيئات اليمنية، خلافاً للصورة النمطية التي تقصر القرار على الذكور. الأم هنا تستخدم أدوات نفوذ غير مباشرة (من خلف الجدار)، وتعيد ترتيب سلطات العقد لصالح استمراره. بينما يغيب الذكور: خالد ممتعض، والأخ عبدالله مُسند إليه الدور شكلياً، وابن آخر ينفذ التوجيه. سوسيولوجياً، هذا يعكس وجود سلطة نسائية خفية داخل العائلة اليمنية التقليدية — سلطة تقوم بعملية "ضبط اجتماعي ناعم"، وتحسم التوترات عندما يتعطل الذكور. "الرقم 13" دهشة حاشد من أن "المهر" يساوي بالضبط ما يملكه ليست حالة شخصية، بل تعكس: الإحساس الشعبي بأن للأحداث قوة خفية تتجاوز المنطق. حضور المعتقدات الاجتماعية (مثل شؤم رقم معيّن) وسط لحظات مصيرية. إحساس الفرد في المجتمعات التقليدية بأنه مكشوف أمام الجماعة — لا أسرار مالية أو نفسية أمام الأقارب. وهنا نرى توتراً بين الذات الحديثة التي تؤمن بالخصوصية، و البنية التقليدية التي تفترض معرفة الجماعة بكل شيء. القيم الاقتصادية للزواج يعكس النص يعكس بوضوح أن الزواج ليس علاقة عاطفية فقط، بل هو منظومة اقتصادية واجتماعية تتضمن: مهر، حفلات، أدوار، التزامات. الكاتب — طالب شاب محدود الدخل — يواجه ضغوط التوقعات الاجتماعية، تكاليف تفوق قدرته، خوفاً من الفشل أمام الجماعة. وهذا يعكس البنية الاجتماعية التي ترى الزواج: "اختباراً للرجولة والمسؤولية" قبل أن يكون اختياراً شخصياً. سوسيولوجياً ينسجم مع المجتمعات التي ما تزال تقيس مكانة الرجل بقدرته على "الإنفاق" و"القيام بالواجب". الامتداد العائلي حين يعود حاشد إلى أمه في القرية، يتحول الخطاب من القلق إلى الطمأنينة. الأم تمثل شبكة الرعاية التقليدية التي يعتمد عليها الأبناء في أوقات الأزمات. الذهب الذي تُعطيه ("شعيرية") يمثل رأسمالاً اجتماعياً واقتصادياً كانت تخزنه ل"يوم الحاجة". موقف الأب — السخي والمساند — يؤكد أن الزواج مشروع عائلي جماعي، لا مشروع فردي. في الثقافة اليمنية، الزواج ليس قرار فردي، بل هو حدث اجتماعي يُدار عبر العائلة. البنية النفسية للراوي الكاتب يظهر بوضوح هشاشة داخلية تجاه الأعراف، حساسية عالية أمام نظرات الآخرين، وشعور عميق بأن المجتمع يراقبه ويُقيّمه باستمرار. من منظور سوسيولوجي، هذا يعكس حالة شائعة في المجتمعات التقليدية: الفرد لا يعيش حياته كفرد، بل كعضو في "عين الجماعة". كل خطوة لها وزن، وكل كلمة لها كلفة. ولهذا كان خوفه من "فشل العقد" خوفاً وجودياً، لا مجرد حدث عابر. بين الطبقة والهوية والمكان بين سطور النص تتكرر الإشارات إلى: "شمالي"، "ريفي"، "أبناء المدينة"، "بيت الزيدي" هذه ليست مجرد تسميات، بل هويات اجتماعية تحدد: المقبول وغير المقبول، من هو "كفء" ومن هو "غريب"، من ينتمي ومن يظل هامشياً. ولذلك جاء رفض خالد ليس فقط لأسباب شخصية، بل لأنه يرى الزواج توسيعاً لدائرة انتساب الأسرة لطبقة/مكان مختلفين. العقد كطقس عبور في علم الاجتماع، أي انتقال كبير في حياة الإنسان — مثل الزواج — يتضمن: مرحلة توتر، مرحلة تفاوض، مرحلة انتقال، مرحلة اندماج. النص يحوي كل هذه المراحل بوضوح، مما يجعله سرداً غنياً لطقس عبور اجتماعي داخل بيئة يمينية. خلاصة سوسيولوجية النص ليس مجرد قصة "كيف تم عقد قراني"، بل هو مرآة لنسق اجتماعي كامل: سلطة الأخ كحارس للهوية، سلطة الأم الخفية التي تنقذ الموقف، ضغط الأعراف الاقتصادية، الخوف من نظرة الجماعة، التفاصيل الهوياتية (الريف/المدينة – الشمال/الجنوب)، دور العائلة كراعية للانتقال الاجتماعي، الفرد المرهق في مواجهة بنية تقليدية صلبة. النص في جوهره يحكي: كيف يمر الفرد اليمني من مرحلة العزوبة إلى مؤسسة الزواج وهو مُحاط بشبكات معقدة من الأعراف والهويات والاقتصاد والعائلة والقدر الشعبي. قراءة سيكولوجية تمثل هذه القراءة تحليلًا ديناميًا للبنية الذهنية عند الكاتب أحمد سيف حاشد كما تظهر في النص، معتمدًا على مبادئ التحليل النفسي والديناميات الداخلية، دون استخدام لغة معقدة أو أحكام قيمة. وتهدف القراءة الدينامية إلى كشف الطبقات الأعمق التي تحرّك فكر الكاتب ومشاعره وسلوكه داخل النص، وكيف تتفاعل المكونات الثلاثة للشخصية: الأنا الأنا الأعلى، الهو "الغرائز"، وكيف تتحرك الانفعالات، والدوافع، والآليات الدفاعية. بنية ذهنية يدل النص على أن ذهن الكاتب يعمل باستمرار بحالة يقظة مفرطة، يقرأ كل الإشارات الصغيرة كأنها "علامات تهديد"، ويتوقع الاسوء، ويتعامل مع كل تفصيل باعتباره يحتاج تفسيراً نفسياً أو رمزياً. وهذا يشير إلى بنية ذهنية مشحونة بالخوف من المفاجآت غير السارة، وكأن الحياة علمته أن الأشياء الجيدة لا تأتي بسهولة، وأن خلف كل لحظة صغيرة محتملة "كمين نفسي". هذه الحالة ليست مزاجية فقط؛ إنها جزء من هيكل الشخصية. "الأنا الأعلى" في معظم النص نرى أن الأنا الأعلى (الصوت القاسي، المعايير الأخلاقية، المثالية، جلد الذات) هو القوة المركزية التي تُخضع الكاتب. دلائل ذلك: لوم الذات باستمرار، مقارنة نفسه بغيره، الشعور بالتقصير مهما فعل، الخوف من الظهور بمظهر غير لائق، القلق من أن يراه الآخرون "أقل" أو "غير جدير" وهذا يعني: الأنا الأعلى عنده ليس مرشِدًا؛ بل مراقبًا صارمًا، يشبه القاضي. وبناءً على ذلك، يصبح أي موقف اجتماعي ليس مجرد حدث، بل محكمة داخلية. التقييم الاجتماعي الأنا (الجزء المسؤول عن التعامل مع الواقع) تظهر في النص: مترددة، غير واثقة، حساسة، سريعة الاهتزاز، تبحث عن الاعتراف والتأكيد، متعبة من ضغط التوقعات. ولهذا، كل صمت، كل غياب، كل رقم، كل نظرة، تتحول إلى "فخّ" محتمل. إنه يعيش في حالة دائمة من التقييم الذاتي المستمر، وكأنه يفحص نفسه أمام مرآة الآخرين كل لحظة. الهو يظهر في شكل احتياجات عميقة وغير معبَّر عنها. الهو (الرغبات الأصلية) يظهر في النص بشكل غير مباشر، أهمها: الحاجة للقبول، الحاجة للحب، الحاجة للانتماء، الحاجة لكسر العزلة النفسية الحاجة إلى الاحتفال لكنه لا يعبّر عن هذه الرغبات بشكل مباشر؛ يُخضعها لمراقبة الذات وللتوقعات الاجتماعية. لذلك تتحول رغباته الطبيعية إلى: قلق، مقاومة، حذر، شعور دائم بالتهديد، بحث مُرهق عن الأمان. إنه لا يسمح للهو بالظهور إلا عبر لغة مضطربة ومشاعر غير مستقرة. الآليات الدفاعية المستخدمة يكشف النص عن آليات دفاعية تعمل باستمرار الإسقاط، رؤية مشاعره الداخلية (الخوف، التوتر) في خالد. الانسحاب النفسي شرود متكرر، غوص في الذات، انفصال لحظي عن الواقع حين يشتد الضغط. أمان خارجي الأم، ابن العم، أو أي شخصية تمنحه دفئًا عاطفيًا. المركز الانفعالي المسيطر ما يحرّك الكاتب ليس الخوف من الفشل، وإنما الخوف من الفشل أمام الآخرين وهذا فرق جوهري، يسمّيه علماء النفس، أي بنية نفسية تتمحور حول تجنب العار الاجتماعي. ويمكن ملاحظة ذلك في: خوفه من رقم المهر، خوفه من أن يرى أحد ضعفه المالي، خوفه من غياب خالد وما يعنيه، خوفه من أن يبدو "بخيلاً"، خوفه من أن تنهار الصورة التي يريد أن يظهر بها الثنائيات المتصارعة يعمل ذهن الكاتب ضمن ثنائيات: الفرح، الخوف. وكل لحظة فرح تتلوها موجة خوف مباشرة. الأمل،الارتياب، يبدأ بالبهجة، وينتهي بالقلق. الثقة الانهيار. ثقة قصيرة تعقبها شكوك طويلة. الحلم الواقع، يصطدم خياله الرومانسي بواقعه الاقتصادي والاجتماعي. هذه الثنائيات تكوّن بنية ذهنية تعيش على الحافة، لا تستقر على حالة واحدة. مركز الهوية في لحظات الأزمة، يعود إلى أمه، الأم ليست فقط سنداً مالياً، بل مركز هويته العاطفية، ومصدر الحنان الذي يردم هشاشة الأنا. وهذا يكشف أن الهوية العميقة للكاتب لا تزال: هوية الابن المحتاج للأمان، أكثر من هوية الرجل المكتمل الذي يقود حياته. وهذه ظاهرة طبيعية لا عيب فيها، لكنها تشرح الكثير من حساسيته في النص. الموقف كله يُقرأ كرحلة بحث عن "شرعية الذات" الدينامية العميقة "هل أنا جدير؟ هل أستحق هذا الزواج؟ هل سأكون كافياً في أعينهم؟" والزواج هنا ليس حدثًا اجتماعيًا فقط، بل اختبار قيمة.وكل شخص في القصة يحمل وظيفة نفسية: خالد = الحُكم، الأم = الأمان، خال الفتاة = السلطة الخارجية، ابن العم = الإنقاذ، الأب = المقارنة، زوجته = الحلم. وبهذا يتحول الحدث إلى مسرح نفسي كامل. خلاصة البنية الذهنية لحاسد كما تظهر في النص تتكوّن من: أنا ضعيفة مهددة بالتقييم الاجتماعي أنا أعلى صارمة وقاسية، هوّ مليء برغبات طبيعية مكبوحة، آليات دفاعية نشطة بسبب التوتر الداخلي، حساسية عالية تجاه الرفض الاجتماعي، حاجة قوية للقبول والانتماء، عودة مستمرة إلى أماكن الأمان عند التهديد، وعي ذاتي مرتفع لدرجة الإرهاق وتاريخ عاطفي يجعل الاحتمالات السلبية أقرب للحقيقة في ذهنه إنها بنية ذهنية قلقة، حسّاسة، مشدودة، لكنها صادقة وتلقائية. نص عقد قراني أحمد سيف حاشد خالد شقيقها الأكبر كان يبدو لي نزقاً وحاداً.. كلما وجدته رأيت وجهه متجهماً وغضوباً.. لم نتحدث إلى بعض حتى من باب المجاملة.. اسمي الأول ظل فترة طويلة لم يحفظه.. كنت أشعر أنه لا يطيقني.. يستكثر عليّ حتى سلاماً عابراً في ممشى أو طريق. لا توجد بيننا أي كيمياء أو انسجام.. أشعر بغربة إن وجدته، وهو أيضا يشعر إن وجدني بغربة مضاعفة.. تنافر جم يحول دون أن نجتمع على حال.. لا ابتسامات بيننا تجعل من الحال ألطف.. كنت أشعر أن بيننا حاجزاً نفسياً عميقاً ومتسعاً يحول دون انسجامنا. ربما رآني قد أفشلت رغبته في إعادة محاولة تزويج شقيقته على من كان يألفه من أبناء مدينته، ومن جانب أخر عرفت أن شماليتي وريفيتي لا تروقاناه، رغم أن والده الطيب قدم من شمال الشمال، ومن ريفه أيضاً. والمفارقة أن بيتهم معروف ومشهور باسم "بيت الزيدي"، بل هو نفسه معروف أيضا باسم "خالد الزيدي"، وبعيداً عن هذا وذاك كان خالد هو المعني بوضع يده في يدي لإبرام عقد قران شقيقته. في الموعد المحدد للعقد جئتهم بوجه بشوش ومشرق.. متدفق بالحياة والأمل.. كنت مغموراً بالسعادة والمحبة، وفي أول اطلاله لم أرَ خالد بينهم.. خالد الذي أبحث عنه ظناً مني أن المناسبة أكبّر منّا، وتحملنا على فتح صفحة جديدة بيننا.. فاتحة خير تجعلنا أرقى مما نحن عليه من حال.. كان يفترض أن يكون خالد في طليعة من يستقبلني بقدر من الحفاوة، حتى وإن كانت متصنّعة من أجل شقيقته، لاسيما وقد صرنا على أعتاب أن نكون عائلة واحدة، أو يستقبلني حتى بالوجه الذي كنت قد تعودت عليه، ولكن تفاجأت أنه غير موجود في البيت من الأساس. حدثت نفسي: يا ترى ما الذي استجد..؟! نحن على اتفاق أن اليوم هو موعد العقد، ومن يفترض أن أضع يدي بيده غير موجود.. هذا لن يحدث إلاّ لأمر طارئ ومهم.. يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها.. يا ترى ما سبب غيابه..؟! أستبعد أن يكون في هذا الغياب المريب خيراَ أو بعض خير. شعرتُ بارتياب جم يجتاحني.. يدعوني إلى قلق شديد ومخاوف أشد.. أحسست بفراغٍ يخنقني، وربما يقوّض ما أتيت لأجله.. ارتباك وربكة تستغرقني، وأسئلة كثيرة تبعثرني، فيما شرودي يذهب إلى البعيد لافتراض ما يدعو للخوف والقلق. كان مستهل الحديث في المجلس مُستثقلاً لدي، ويتخلله بعض الصمت، الذي لم أكن أعرف كيف أكسره.. احتملتُ وجود خلاف أسري تفاقم، وكنت السبب فيه.. خلاف ربما أدّى إلى تأجيل العقد ريثما يتم حل هذا الخلاف في إطار الأسرة وحدها، وفي غيابي تحديداً.. ثم تداعت أفكاري لتداهمني بافتراضات واحتمالات أشد وطأة. ساورني خوف شديد يؤدّي ليس فقط إلى تأجيل موعد العقد، وإنما لطلب استمهال مؤقت يكون عبوراً إلى التنصل من الأمر كله.. شعرت بتهديد حقيقي يستهدف ما أريده برمّته ساساً برأس. غير أن ما حدث بعد ذلك وجدته في جله على غير ما توقعت.. تفاجأتُ به أنه على غير ما ظننت. وجدت أن أم الفتاة قد حسمت قرارها بحزم لصالحي، ورتبت أمور العقد على نحو لا يؤثر فيه غياب ابنها الذي كان يفترض أن يتولى أمر العقد.. بدت الأم وهي تدير الأمور من خلف جدار كأنها شجرة الدر. أسندت لأخيها عبدالله إدارة جلسة العقد، وكان خلف الزمام زمام تمسك به سلطة الأم القوية، فيما أسندت لابنها الأكبر غير الشقيق للفتاة بإتمام العقد، بدلاً من خالد الذي ربما خرج باكرا يشتاط غضباً وضجراً ولم يعد. بدا لي أن الأم قد حققت إجماعاً من الرضى والقبول لدى كل أفراد الأسرة، باستثناء ابنها النافر والغضوب.. هكذا خمنتُ الأمور، أو بدت لي على ذلك النحو.. كنتُ أريد إجماعاً ولكن كان الإجماع مخروماً بخالد. * * * بدأ خال الفتاة يدير جلسة العقد، وحدد ما يتعين دفعه بثلاثة عشر ألف "شلن".. كان اطلاق هذا الرقم أشبه بمن نصع النصع.. إنه كل المبلغ الذي أملكه بعد أن راكمته في حساب توفير بريدي خلال فترة ليست بالقصيرة.. استغربت على تحديد هذا المبلغ بالذات، وكيف تطابق مع رقم المبلغ الذي أملكه ولم أبح به لأحدٍ غيري!! هل هي الصدفة، فيما الصدفة نادرة وتصير أحياناً مثل المعجزة؟! لماذا هذا الرقم بالتحديد وليس غيره؟! هل لديهم شياطين أخبروهم بما أذخره على وجه الدقة والتحديد؟! هل قرأوا أفكاري؟! ما قصة هذا الرقم؟! رقم 13 هذا يحيرني فضلا أنه يثير قلقي وتوجسي، وزائد على هذا هو رقم معروف بشؤمه لدى عدد من الشعوب والمجتمعات. كان إطلاق هذا الرقم أشبه بصخرة هوت على رأسي.. حاولت أن أبدو متماسكاً دون فائدة.. بدوت لبرهة أشبه بمصعوق، ثم صرتُ شارد الوعي في تيه بعيد.. ظهر على وجهي كل شيء أردت مداراته عن العيون.. حتى الطفل الذي ما زال حديث عهد في النطق والتهجّي صار بإمكانه أن يقرأ اللحظة في وجهي بسهولة ويسر. حاولت بصوت خفيض مثقلا بالحياء أن أطلب إعادة النظر في المبلغ، فبدا لي الأمر غير قابل للنقاش.. لا توجد مساحة أو هامش لمن يدير الجلسة.. "رفعت الأقلام وجفت الصحف".. قُضي الأمر وانتهى.. حتى القانون العسكري "نفذ ثم ناقش" لا يتم العمل به هنا.. كلما فعله خال الفتاه الطيب هو شرح التفاصيل التي لا تغير من واقع الأمر غير اضافة ما كان محسوباً أيضاً أن تكون عليّ تكاليف حفلة "الصبحية" وعليهم تكاليف حفلة الدخلة أو ليلة العرس. كنت أريد أن أضيف جملة في مجلس العقد وهي: "لستُ بخيلاً ولكن الحيل مهدود" وهو قول بدا لي لاحقاً أنه مجازف وربما تكون كُلفته فادحة.. ربما انقلب الأمر رأساً على عقب، وربما أتي على رأسي بضربة قاضية لا أفوق بعدها أبداً، وبالتالي تضع نهاية للأمر كله. التقط اللحظة الحرجة ابن عمي عبده فريد وكان محقاً.. وافق سريعاً، ولملم الأمر بحنكة، ولم يترك فسحة للشيطان يهدد كل شيء، وربما يهدمه وينثره نثرة واحدة، والحقيقة لا أريد أن أتهم الشيطان الذي أفتريه، وأحمله مسؤولية غبائي وحماقتي.. إن مضيتُ فيما فكرتُ فيه لكان كل شيء انتهي إلى زوال، وآل إلى حزن وخيم.. لو حدث مثل هذا كنت سأنزل على نفسي عقاباً جماً، وندماً يرافقني إلى آخر العمر، ولن أسمح لنفسي بالحديث حتى صباح يوم العيد. * * * تم الأمر على هذا الإنقاذ المتدخل كقدر، وتم العقد على المعتاد في عصر ذلك اليوم العاشر من إبريل 1990.. سمعتُ زغردة الفرح تنتشر من أمكنة وأروقة البيت، وكانت أول زغردة فرح في حياتي أفسدها هم ثقيل وحيرة خانقة، وغصة سؤال تقول: من أين؟!! ما العمل لإكمال مشوار الزفاف؟!! أحتاج إلى سحر وساحر، أو قدر يقول للشيء كن فيكون؟! أحتاج إلى رحلة مضنية أخرى لأتمكن من جمع مبلغ يقارب المبلغ المدفوع أو حتى دونه بقليل لأتم الزفاف، والانتقال إلى بيت الزوجية. بدوت في لحظة أكثر من مربكة أعتب فيها على نفسي وأقرّعها: – أنا طالب فاشل جداً في الحساب.. ضعيف جدا في الاقتصاد.. حديث عهد وتجربة في شؤون الحياة.. عديم الخبرة في شؤون المقبلين على الزواج.. استصعب مراكمة النقود على نحو يفوق التصوّر.. لا أدري كيف ستكون النتيجة!! هل سأصل إلى يوم الزفاف أم إن الخيبة القاتلة ستحل محلها، ومحل من أحب؟!! صرتُ أرزح تحت واقع ثقيل، ومُرغما على التعاطي معه.. أحسست أني والقانون نعيش مأساة واحدة.. يومها كانت الوحدة اليمنية تطرق الأبواب، فيما كثير من الحقوق باتت أكثر من أي وقت مضى مهددة بالانتقاص والنيل منها بجرأة. طلبتُ عند العقد مهلة ثلاثة أشهر، غير أن هذه المهلة وجدتها في الواقع لا تكفي بأن أكون جاهزاً لأصل إلى ليلة الزفاف، وإن ضربتُ على تبذير اليدين قيداً من حديد. * * * تذكرتُ أن لي أماً حنونة في القرية تحبِّني إلى درجة لا تصدّق.. لن تبخل من أجلي بروحها إن طلبتها منها.. أمي التي فدتني بعمرها في كل مرّة.. أمي التي صبرت لأجلي وتحملت ما لا تطيقه أثقال الجبال.. فكانت وجهتي الأولى إليها. أمي التي لطالما ألحّت هي عليّ بإتمام نصف ديني، فجاء الوقت لأطلب غرمها في الدين.. نصف ديني الذي ظننته أيسر من اليسر كان ثقيلاً يفوق الاحتمال.. ليس آية من القرآن أو خاتم من الحديد، فالواقع كان أكثر ثقلاً وجهماً وشراسة في وجه خيالي الحالم، والشاطح في البعيد. أمي التي ظلت تهتم لأمري ونصف ديني سنوات طوال آن لها أن تساهم، ناولتني ما كانت تملكه وتحتاط به للزمن العبوس.. ثلاثون جرام من الذهب "شعيرية".. مهرها ومكسبها الذي خزنته لفرحة كهذه أو لأيام الشدة التي قد تداهمنا دون إنذار.. فرحت أمي لفرحتي حتى كادت تطير.. الحلم الذي ظلت تنشده أكثر من عشر سنوات صار ممكناً ويقترب. أمي أيضاً بثت في أبي روح التعاطف والمساعدة؛ فساندني أيضاً بسخاء.. أقبل إلى بيت أهل الفتاة التي عقدتُ عليها.. بدا كريماً ولطيفاً، بل وقالوا عنه أيضاً أنه أجمل منّي..!! بعد هذا وذاك بدأ تحقيق حلمي يطرق باب الممكن والقريب، وعلى إثر هذا أهديت حبيبتي أغنية الفنان نهاد طربية (بدنا نتجوز عالعيد) وكنت أقصد الزفاف لا سواه. * * *