عبد الباري عطوان من الأمور الغريبة، او بالأحرى غير المعتادة، التي تصادفني في الكثير من أسفاري على متن الطائرات العربية، تكرُم بعض الطيارين بدعوتي إلى قمرة القيادة، من قبيل التحبب، والإعجاب ببعض مقابلاتي التلفزيونية، خاصة أيام العصر الذهبي لقناة “الجزيرة”، ومع قبولي “على مضض” لهذه الدعوات، لان المقعد الثالث خلف الطيار ومساعده دائما غير مريح، تتحول “القمرة” إلى ندوة سياسية أكون محورها مضطرا، وأنا الذي أريد أن ابتعد عن السياسة التي تطاردني حتى في الطائرة، التي تريحني حتى من إزعاجات الهاتف النقال، وتوفر فرصة ثمينة للقراءة لعدة ساعات. في آخر زيارة لي إلى اليمن، وبالتحديد في أيار (مايو) عام 2000 تلبية لدعوة للمشاركة في الاحتفالات بالذكرى العاشرة للوحدة اليمنية، دعاني الطيار اليمني، وكان من الجنوب، للانضمام إليه وزميله في قمرة القيادة، وامتدت الرحلة إلى حوالي 14 ساعة، حيث كانت الطائرة اليمنية من طراز قديم سحب من الخدمة، وكانت مثل قطار الصعيد “القشاش”، تتوقف في باريس ولارنكا القبرصية، قبل الوصول إلى صنعاء، وهذا التوقف ليس بسبب استقبال ركاب جدد، وإنما أيضا للتزود بالوقود. الكابتن كان لطيفا ومهذبا مثل كل أبناء اليمن، واذكر أن من جملة ما قال لي أن مطار صنعاء يعتبر الأصعب والأخطر في العالم من بين كل المطارات الأخرى، لأن العاصمة اليمنية محاطة بالجبال الشاهقة، وهو عبارة عن “حفرة” في وسطها، ويجب أن يملك الطيار، أي طيار، خبرات عالية جدا حتى يتمكن من الهبوط والإقلاع بسلام. *** تذكرت هذه القصة بعد توارد الأنباء عن بدء وصول آلاف الجنود من دول التحالف العربي (عشر دول) إلى مأرب استعدادا لخوض معركة صنعاء الفاصلة التي ستحدد نتيجتها مصير الحرب الحالية في اليمن لمصلحة هذا الطرف أو ذاك. مصر التي قال رؤساؤها، الحالي والسابق والأسبق، إن قوات جيشها للدفاع عن أرضها فقط في الرد على أي شخص يجرؤ على المطالبة بالالتفات إلى الجرائم الإسرائيلية في الجوار الفلسطيني، أرسلت 800 جندي مجهزين بالدبابات والعربات المصفحة ناقلة الجنود، أما دولة قطر فأعلنت عن إرسال ألف جندي، وتردد أن السودان يعتزم إرسال ستة آلاف، ولم نسمع من القيادة المغربية أو الأردنية أي تصريحات حول عدد الجنود المغاربة والأردنيين الذين سيرسلون إلى اليمن تلبية للنداء السعودي. عدد الجنود يحدد حجم الالتزام بالتحالف ومهمته ومكانة دولته، فقطر التي لا يزيد عدد سكانها “القطريين” عن ربع مليون نسمة، أرسلت ألف جندي، بينما اقتصر عدد نظرائهم المصريين الذين يملكون أقوى الجيوش في المنطقة وأكثرها عددا على 800 جندي فقط، ولا نعرف لماذا يبزّ السودان الجميع بإرسال 6000 جندي، ولا بد أن لدى الرئيس عمر البشير حكمة وتفسير لا نعرفهما. تصريح المسئول المصري الكبير الذي نقلته وكالة أنباء “رويترز″ العالمية وقال فيه بالحرف الواحد “إرسالنا هذه القوات كجزء من الدور المصري البارز في هذا التحالف العربي الذي يحارب دفاعا عن الدول الشقيقة.. وأي جندي يقتل يعتبر شهيدا من اجل مصلحة الأبرياء”. هذا التصريح توقفنا عنده بتمعن لسبب بسيط، وهو إننا اعتقدنا أن هذه القوات المصرية ستقاتل في مكان آخر غير اليمن الذي ما زلنا نذكر جيدا انه بلد عربي، بل أصل العرب، وصححونا اذا كنا مخطئين. لا نعتقد أن المملكة العربية السعودية التي تملك أقوى سلاح طيران في المنطقة، وجيشا جرى إنفاق مئات المليارات من الدولارات على تسليحه على مدى السنوات الخمس الماضية بأحدث الأسلحة والدبابات الأمريكية والأوروبية تحتاج إلى 800 جندي مصري، أو ألف جندي قطري، فالحكمة من إرسال هذه القوات هو توفير “مظلة عربية” لحربها في اليمن، و”توزيع″ دم اليمنيين الذين سيسقطون في هذه الحرب على “القبائل” العربية، أو أكثر عدد ممكن منها. فإذا كان الهبوط في مطار صنعاء في قمة الصعوبة، فإننا لا نعتقد إن الحرب البرية التي تقف العاصمة اليمنية على أبوابها ستكون اقل صعوبة، وسهلة الحسم، أو هكذا يقول المنطق الذي تعززه الوقائع على الأرض، فالجنوب اليمني بالمقارنة متجانس السكان، وأرضه، وخاصة مدينة عدن، سهلية على عكس صنعاء والمحافظات اليمنية الشمالية الأخرى ذات الطبيعة الجغرافية والديمغرافية “الوعرة” جدا. التصعيد العسكري ربما لا يكون الطريق الأمثل والأقصر للوصول إلى فرض الحلول السياسية، أو الاستسلام، بالأحرى، على الطرف الآخر الضعيف، مثلما يعتقد أصحابه، فالنتائج ربما تكون عكسية تماما، فاستعادة عدن لم تؤد إلى عودة الرئاسة الشرعية والهدوء والاستقرار بالتالي، فهذه هي اليمن، ومن لم يقرأ تاريخها جيدا سيصاب بخيبة أمل كبرى. التحالف “الحوثي الصالحي” لا يملك قدرات دفاعية لمواجهة القصف الجوي المستمر، منذ ستة أشهر بأحدث الطائرات، وأكثر القنابل والصواريخ فتكا، ولكن الحال قد لا يكون كذلك عندما تبدأ المعارك البرية، ولا نستغرب انه يتحرق شوقا إليها، بالاستناد إلى ما يقوله المتحدثون باسمه في السر والعلن. وربما يجادل البعض بالقول إن هذه التصريحات “العنترية” من قبل التحالف “الصالحي الحوثي” هي من قبيل “البروبغاندا” الدعائية، تماما مثل تصريح أدلى به السيد محمد البخيتي احد قادة الحوثيين يوم أمس لوكالة انباء “تسنيم” الإيرانية، وقال فيه إن تحالفه يملك صواريخ بالستية يمكن أن تصل إلى الرياض ومدن سعودية وخليجية أخرى، وربما يكون بعض، أو حتى معظم هذا الجدل صحيحا، فالحرب النفسية من سمات كل الحروب وتلجأ إليه جميع الأطراف المتورطة فيها، ومن يتابع قناتي “العربية” و”الجزيرة” وشقيقاتهما يعرف ما نقول، والشيء نفسه يقال عن قناة “المسيرة” الحوثية التي تعتبر خيمة صغيرة جدا إلى جانب ناطحات السحاب التابعة للمعسكر الآخر، فلغة المال هي الأقوى في هذا الميدان، وربما ميادين أخرى كثيرة.