مؤسف جداً أن يتكبَّل البعض باليقينيات والمسلَّمات.. ويشعر أن وجوده مرهون بوجودها، وأنه يحيا بها ولها، ويفكر ويتصرف ويتحدث باسم الحقائق المطلقة..! مرعب جداً أن يشاهد البعض هذه اليقينيات والمسلَّمات وهي تتهاوى وتتساقط واحدة تلو الأخرى، ويشعر أنه يضمحلُّ ويتلاشى على وقع تلاشي واضمحلال مقدساته التي توحَّد بها كامتداد لكيانه وذاته..! أشعر بالشفقة لأسارى أفكارهم وأيديولوجياتهم، وأذوب تعاطفاً مع كلِّ من يشعرون بأنهم سقطوا لأن رموزهم وأنظمتهم أو حتى أصنامهم وخرافاتهم سقطت تحت عجلة الزمن والتاريخ المندفع إلى الأمام دون أن يعبأ بهم أو بكونهم يتهشَّمون تباعاً على إيقاع تحوُّلاته المتتابعة.. لا يأبه القائمون على الإعلام أن ديكور دوران الكرة الأرضية خلف مذيعي نشرات الأخبار، يعني نسف كون بأكمله في رؤوس الذين يعيشون في كون وهمي تقف فيه الأرض مسطحة ثابتة بين قرني ثور ..! كثير من الرفاق الذين يؤمنون بالماركسية أكثر من ماركس، شعروا باليُتم والضياع إثر إعلان سقوط التجربة الشيوعية في السوفييت، وانهاروا مع انهيار المعسكر الشرقي سابقاً، وما زالوا يناقشون ما حدث في جوٍّ جنائزي حزين..! التجربة القومية التي بدأت بجمال عبد الناصر، وانتهت في مشنقة صدام حسين وقبو القذافي.. خلفت جماهير واجمة تعيش بعدها خارج الحياة، في ذكريات لا تنتهي، وبكائيات لا تتوقف على حائط رماد.. "الإخوان المسلمون"، وهم جماهير غفيرة عاشوا طويلاً على حلم أن يسقط سواهم ليصعدوا، سقطوا قبل أن يتمكنوا أو يُهنَّأوا بالصعود. مواقفهم المهتزة المتناقضة مع الشرعية في مصر وضد الشرعية في سوريا، مع الوحدة في اليمن ومع الانفصال في فلسطين، ضد الثورة في السودان، ومع الثورة في ليبيا، مع الثورة السلمية في "مذبح"، ومع الثورة المسلحة في "الحصبة"!! .. مع كل شيء وضد كل شيء.. هذا الارتباك الواضح محاولة يائسة لتجنب الاعتراف بسقوط أكذوبة الإسلام السياسي على أيديهم بشكل أسرع وأفدح مما تصوره ألدُّ خصومهم..!! نحن نعيش في عصر السقوط، عصر ملعون، سقطت فيه حتى القيم والثوابت والأخلاقيات، سقطت فيه الحقائق والأكاذيب، الأقنعة والوجوه، الكفر والفكر والإيمان والطمأنينة بغبائها المريح القديم..!! بعد سقوط اليمين واليسار والوسط، الجماهير العربية اليوم عبارة عن أفواج هائلة من فلول وبقايا أنظمة وأيديولوجيات رحلت إلى الماضي دون أن توجه أتباعها إلى المستقبل.. عقيدة الفلول، بطبيعتها كمشاعر اليتامى والثكالى، مفعمة بالحنين إلى الماضي ومثقلة بالذكريات.. وليست على ما يرام مع المستقبل، إن لم يكن الخوف والقلق تجاهه هو الذي يتملُّكها.. وكما هو الحال في اليمن لا أحد من القوى المهمة تبحث عن مستقبل نسبي مختلف يتسع للجميع، الكلُّ يبحث عن نفسه في الماضي، وإعادته وتأبيده.. السلفي يريد العودة إلى ما قبل التاريخ، الحوثي يريد العودة إلى ما قبل الجمهورية، الحراكي يريد العودة إلى ما قبل الوحدة، المؤتمري يريد العودة إلى ما قبل الثورة، الناصري يريد عودة الحمدي، رجلا لكلِّ المراحل، الإصلاحي يريد الاستحواذ على كلِّ شيء، كما يريد عودة "مرسي"، الاشتراكي لا يريد شيئاً، الإصلاح يريد نيابة عنه..!! *صحفية اليمن اليوم