كانت الصورة ولا تزال بالنسبة لي كخادم مؤلمة وأكثر مأساوية من مغبة الوقوع في براثن قبيلي جائع يعتمر جنبية وبندقية في طريق مهجور. ففي ظهيرة يوم الجمعة تاريخ 03/06/2011م وبينما كان الرئيس صالح وأغلبية رجالات الدولة يقفون بخشوع في حضرة الرب لإداء صلاة الجمعة في الجامع الملحق بدار الرئاسة ..كان دوي الانفجار وتناثر أشلاء القتلى والجرحى يبشر بعهد جديد وقاتم بات يخيم على مستقبل الأمة والبلاد وبشعارات ثورية هذه المرة. وبغض النظر عن حجم التكلفة البشرية والمادية لذلك العمل الإرهابي الجبان "فإن المسألة الأهم في هذا الشأن تتمثل بحجم الأذى النفسي والمعنوي والأخلاقي الذي طال طموحاتنا كشعب ظل يتوق لعقود طويلة للخلاص من سطوة وهيمنة إرهاب القبيلة وقوى الإسلام السياسي الراديكالي الذين ما انفكوا يتلونون كالحرباء في حياتنا وطرق عيشنا وتقدمنا ..فتارة مع اليسار وتارة مع اليمين وتارة أخرى مع الشباب وقد يعتمرون غداً قبعة السيد نتانياهو وحزب الليكود معاً ..المهم هو أن يحكموا.. الخ ومع أنه لا جدال هنا في أن معادلة الصراع الدموي الناشبة تلك لم تكن في الأصل صراعاً قائماً ما بين دولة رجعية معادية للمفهوم الحضاري كما قد يتصور البعض .. وبين قبيلة ثورية قطعت شوطاً في التنصل من مفهومها العصبوي الفوقي .. بقدر ما كان صراعاً ناشباً ومعقداً في حقيقة الأمر ما بين دولة مؤسسات شبه عصرية تكافح لإخراج البلاد والمجتمع من كنف الوصاية القبلية الموروثة من حواصل القرون الوسطى "وبين قبيلة تتشيع قيم الدولة فيما يغتصب غلاتها حقوق وامتيازات المواطنة ويتغنون بشعارات الحرية في الوقت الذي يجهدون فيه بتحويل البلد بكامل هيئاته ومؤسساته إلى منظمة سياسية لملاك العبيد وأداة منتجة للفوضى والعبودية. وهو الواقع الذي يتبين بوضوح من خلال الإمعان بطبيعة التشكيلة السياسية والطبقية الهائلة التي باتت تتألف منها حالياً المعادلة الثورية المزعومة والمكونة '' باستثناء الشباب بوصفهم القوة الرئيسية المحركة للثورة وإن باتوا شبه مهمشين ..من منظومة واسعة من القوى والتيارات السياسية والحزبية والمجموعات المشيخية والجهوية والمذهبية إضافة إلى طابور خامس عريض من حزب السلطة الذين انشقوا عنه تباعاً ليلحقوا بالركب الثوري المشؤوم بكل سوءاتهم وإرثهم الانهزامي الطويل الذي اكتسبوه عبر عقود قاسية وطويلة من إسهامهم المباشر في حكم البلاد تحت عباءة المؤتمر الشعبي العام الذي انقلبوا عليه. وعموماً وبما أن واقعة تفجير جامع دار الرئاسة بتلك الصورة البربرية وإن كانت قد أثبتت من جهة أولى الطبيعة الجيوسياسية للصراع الناشب .. حيث ظن غلاة الراديكاليين في محيط القبيلة والإصلاح أن بإمكانهم القيام بضربتهم التصفوية الغادرة تلك ضد أركان النظام السياسي الحاكم ومن ثم الاختباء خلف الشرعية المزعومة للثورة الشبابية. إلا أنها لم تكن الحادثة الأولى بطبيعة الحال .. كون الفعل والنزعات الإرهابية والاحترابية ظلت هي العنوان الأبرز في مسار ما سمي زوراً بالثورة الشبابية وعلى امتداد المشهد الوطني. فالقتل وأعمال العنف والنهب والتخريب والتقطع والاغتيالات والاختطافات التي مورست ولا تزال تمارس من قبل بعض المجموعات الانقلابية في أكثر من مكان ومنطقة ومحافظة بطريقة لم تكن تعكس أي تفوق أخلاقي لدى مرتكبيها بقدر ما برهنت على تعطشهم اللامتناهي للدماء والدمار معاً وتناقضهم الصارخ مع طبيعة الشعارات السياسية والحداثية التي أفرطوا في ترويجها في مؤشر واضح على همجية ووحشية المسعى الانقلابي التي حكمت سلوكياتهم خلال أغلب المراحل المهمة من حركة الشباب الثورية المزعومة. وليس أدل على ذلك من موجات القتل والتصفيات الجسدية التي طالت وبالقرعة خلال العام الفائت 2011م عشرات الأبرياء من موظفي الهيئات القضائية والأمنية والمدنية في كل من صنعاءوتعز ..بالإضافة إلى أعمال القمع والتنكيل والاختطافات التي طالت الوطنيين ممن رفضوا مجاراتهم ..وصولآ إلى أعمال التجويع الجماعي والترويع المجتمعي الذي طال عشرات آلاف الأسر الأمنة بذرائع ثورية مبتذلة .. على غرار العملية المتمثلة بقيام إحدى المجموعات المسلحة بمحافظة تعز في الأول من أكتوبر الفائت 2011م باحتلال مكتب وزارة الخدمة المدنية.. وهو توقيت مقصود بالطبع كان الهدف منه الحرمان القسري آنذاك لعشرات الآلاف من موظفي الخدمة في المحافظة من تحصيل رواتبهم المستحقة وزيادة معاناتهم المعيشية والنفسية والمادية لفترة امتدت حتى الأسبوعين وهي الفترة التي احتاجتها سلطات المحافظة المحلية لمعالجة المسألة بصورة ثانوية حيث ظل الإشكال قائماً والخدمة المدنية محتلة وشبح الفاقة يهدد موظفي الخدمة المدنية في المحافظة ومناخات الرعب تتسلل كل يوم لتقض مضاجع الأمنين في بلد بدأ يتمزق بصورة فعلية تحت وطأة (الغضب الثوري) المشحون بجملة من شعارات (الوطنية العاطفية) المكرسة لإسقاط النظام ولو عن طريق التضحية بالأمة؟. وهي الخطوة التي تزامنت آنذاك مع إقدام أحد انتحاريي الإصلاح بتفجير نفسه داخل معسكر الأمن المركزي بالمحافظة في تعبير دقيق عن طغيان المفهوم الجهادي الدموي على الخيار الثوري التقدمي الذي فقد صلته بالطبيعة الشبابية السلمية التي باتت مركونة ومهمشة بأدواتها الثورية الشباب في ذاكرة الأحداث الوطنية المقصية والمغيبة.. الخ. وصولاً إلى عملية النهب والتقطع العلني التي استهدفت صباح يوم الثالث والعشرين من يناير الفائت 2012م وسط شارع (صخر) بالعاصمة صنعاء المواطن فيصل عبدالله من قبل أفراد يتبعون الفرقة الأولى مدرع وأمام الهلأ والملأ الذين بادروا بالاعتصام احتجاجاً على عملية السطو تلك بالصورة التي أوردتها صحيفة الشارع في عددها (224) بتاريخ 28/01/2012م. وهي أمور بات من الأهمية بمكان مقارنتها مع طبيعة النهج الثوري المزعوم والمعلن من قبل قيادة وأفراد الفرقة الأولى مدرع منذ أوائل العملية الثورية حيث تبدو الصورة متناقضة إلى حد بعيد مع نوعية الدعوات والشعارات والتوجهات الثورية التي رفعتها إلى جانب الشباب في ساحات التغيير الملتهبة بطموحات وأماني العامة؟ خصوصاً وأن التناقض لا يقف عند هذا الحد فقط، إذ إنه وبالإمعان في مسار العملية الثورية الوطنية خلال عام مضى سيتبين لنا أن ما حدث في شارع صخر وما حدث قبله بالصورة المبينة آنفاً لا يمكن تسميته انحرافاً ثورياً بالمعنى المجاز قياساً بحجم وضراوة العنف الثوري الذي مورس طيلة العام الفائت 2011م على امتداد المشهد الوطني، وإن كان أكثرها بشاعة ووضاعة وانهزامية.. ذاك المتمثل بحادثة تفجير جامع الرئاسة بما خلفته ليس فحسب من قتلى وأشلاء وضحايا وحقائق مغيبة..وإنما أيضاً من أجوبة ضرورية للعديد من الأسئلة الحائرة والملحة سواء على صعيد الشارع الشعبي والوطني الداخلي أو على مستوى الرأي العام الخارجي والإقليمي لمعرفة أبعاد الجريمة وحيثياتها وهوية المتورطين فيها. وهي أسئلة أعتقد أن الوقت قد حان فعلاً للرد عليها بكل وضوح وشفافية من قبل السلطات المهيمنة حالياً (حكومة باسندوة وعلي محسن الأحمر) لامتلاكها كل مقومات العمل البحثي والتحقيقي بالحرية والأدوات المطلوبة نظراً لسيطرتهم المطلقة على كل من وزارتي الداخلية والعدل كجهتين منوطتين بدرجة أساسية ببدء التحقيق في موضوع تلك الجريمة والجرائم الأخرى الملصقة زوراً بالنظام القديم وعلى رأسها مجزرة جمعة الكرامة ومحرقة تعز المزعومة ..وحتى يحين ذلك الوقت فما علينا سوى الانتظار والكفاح في سبيل نصرة الحقيقة. الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن