من نهاية التاريخ لفوكوياما الأمريكي من أصول يابانية إلى آخر الإمبراطوريات لبرجينسكي الأمريكي من أصول بولندية مضى عقدان من النشوة الأمريكية بسقوط الاتحاد السوفيتي التي اكتنفتها محطات من القلق والاضطراب وسوء اتخاذ القرارات التي لم تميز بين واجبات القوى العظمى في العالم في القيادة هل هي القيادة أم السيطرة.
لقد كانت الولاياتالمتحدة في مطلع التسعينيات مسكونة بنشوة الانتصار على الاتحاد السوفيتي وقد جاءت غلبتها غير متوقعة بسبب الانهيار من الداخل الذي أدى إلى تفكك منظومة الدول المنطوية تحت راية الأممية البلوريتارية التي دخلت في سباق محموم على اقتناء وصناعة أكثر الأسلحة فتكاً وبناء ترسانات وتحويل العالم إلى مكان لحرب باردة قسمت العالم إلى قطبين رئيسيين، لكن المعسكر الاشتراكي الذي بدا وكأنه يتدفق حيوية ويخوض غمار صراعات في كل القارات كان يعاني داخلياً من هشاشة في العظم ونقصاً في الذكاء السياسي عندما جمع بين آفتين مميتتين الأولى إطعام الفقراء في العالم ليس بحلم الاشتراكية وحسب، ولكن بتعزيز الثقة بهذا الحلم عبر مساعدات سخية تصل أحياناً إلى تولي رعاية. النخب يقبضون على زمام بلدانهم التي لا تتوفر فيها مقومات الحياة، كما إنه انزلق في الحرب الأفغانية عام 1979م التي استنزفت طاقته في إيصال المجتمعات السوفييتية إلى طور الرخاء المأمول، وما إن جاءت البروستريكا التي أخذت لنفسها قناع الإصلاح لكنها في حقيقة الأمر كانت رصاصة الرحمة التي أطلقها الأمين العام للحزب الشيوعي ميخائيل جورباتشوف. هذا الانهيار المباغت ولد مزاجاً أمريكياً متطرفاً بالتفاؤل.. لم ترى أمريكا نفسها قائدة للعالم وحسب بل عادت إلى تمائم الفلاسفة القروسطويين بأن أعلنت نهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية كتشكيلة اجتماعية وسياسية برهنت على صواب منظومتها الأخلاقية والسياسية والاقتصادية وكان فوكوياما المعبر عن هذا الغرور والتفاؤل الساذج في كتابه (نهاية التاريخ). تماماً بعد عقد واحد تقف أمريكا أمام تحدٍ متوقع يتمثل بقدرتها على الاختيار بين السيطرة المباشرة على العالم وإخضاعه لمشيئتها، وإعادة صياغة هياكله لتتوافق وذوقها التاريخي كإمبراطورية منفردة، وبين دورها القيادي للعالم نحو توازن بين الحضارات وشراكة في إنتاج القيم وتوسيع لانتشار قيم الإنتاج، وترسيخ أسس السلام العالمي. كانت أمريكا قد اختارت رئيساً هو جورج دبليو بوش الابن، وهو خير مثال لسوء التربية وهشاشة الشعور بالمسئولية، بالإضافة إلى انتمائه إلى تيار أصولي مسيحي يتعجل أوبة المسيح، ويقتبس من الأناجيل والكهان رؤى ومواقف وسياسات ستدفعه لابتكار كذبة اسمها الحادي عشر من سبتمبر ليترجم قرار اختيار السيطرة والاستيلاء على مكامن الثروات وأسواق العالم ومصائر الشعوب، انتفعت القوة المسلحة الأمريكية لتكون مخالب الدبلوماسية المنافقة نحو أفغانستان والعراق ووضع العالم وبالأخص الشرق الأوسط تحت السيطرة الأمريكية المباشرة، وما إن جاءت أزمة 2008م و2009م لتكشف أن القاعدة الاقتصادية للولايات المتحدةالأمريكية لا تستطيع تغطية حروب السيطرة وفي هذه الحقبة برز كاتبان مهمان، زبيغنو برجينسكي والمفكر اليساري تشو منسكي اللذان ظلا يقرعان أجراس التحذير والإنذار، ويدينان الخيارات الاستراتيجية التي توصف بالمهلكة للحكم الأمريكي. ها نحن في العام 2013م وبعد عقدين بالضبط يقدم برجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق رؤيته الاستراتيجية في كتاب جديد بالغ الأهمية قام دار الكتاب العربي بترجمته، يوجز برجينسكي فيه حقيقة أن أمريكا تتقهقر، والشيخوخة الاجتماعية في الولاياتالمتحدةالأمريكية تبلغ ذروتها بإحصاءات الولاياتالمتحدة وهزائمها الأخلاقية تجعل منها ليس فقط آخر الإمبراطورية الأقصر عمراً في التاريخ الإنساني. كيف ذلك؟ هو ما سنراه في تناولة قادمة.. *صحيفة اليمن اليوم