لا تتمتع الحدود الدولية بصفة العدالة، ولكن اختلاف درجة فقدان العدالة التي تلحق بالدول ذات الحدود الموحدة أو المفرقة تؤثر تأثيراً كبيراً بحجم الاختلاف بين الحرية والظلم وبين التسامح والوحشية، وبين دولة النظام والقانون والدولة الإرهابية، وحتى بين السلام والحرب. إن أكثر الحدود جوراً وعشوائية هي تلك التي في أفريقيا والشرق الأوسط، وقد قام برسم الحدود الأفريقية أوربيون انتهازيون (لايعرفون حدود دولهم الأصلية على وجه الدقة)، هذه الحدود التي ما تزال مستمرة في قتل الملايين من شعوب الدول المتجاورة، أما الحدود الجائرة في الشرق الأوسط -والتي رسمها ترتشل- فقد أدت إلى كم كبير من المشاكل يفوق ما تتحمله شعوب هذه المنطقة. وبينما يعج الشرق الأوسط بمشاكل تتعدى مسألة الحدود الفاسدة -بدءا من الركود الثقافي مروراً بالمستوى الفاضح من انعدام المساواة إلى التطرف الديني المفرط- فإن المحظور الأعظم في عملية السعي نحو فهم قضية الانهيار الشامل في هذه المنطقة، لا يكمن في الإسلام بل في تلك الحدود العالمية المحرمة المريعة، والتي يقدسها الدبلوماسيون لدينا. وبالطبع، لا يمكن لأية عملية تعديل في الحدود -مهما كانت قاسية- أن ترضي أية أقلية في الشرق الأوسط، ففي بعض الحالات، تعيش المجموعات العرقية والدينية جنباً إلى جنباً وتتزاوج في ما بينها، وفي أماكن أخرى، لا يبدو بأن المجموعات المتحدة على أساس العرق أو الدين تنعم بالبهجة التي يتوقعها الداعون إلى مثل هذه الاتحادات، والحدود المرسومة على الخرائط المرافقة لهذا المقال تعوض المجموعات البشرية (المخدوعة): كالكرد، والبلوش، والشيعة العرب. لكنها لا تزال عاجزة عن إرضاء رغبات العديد من الأقليات: كمسيحيي الشرق الأوسط، والبهائيين، والإسماعيليين، والنقشبنديين. ويبقى ثمة خطأ راسخ لا يمكن التعويض عنه برقعة من الأرض، وهو: الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية البائدة ضد الأرمن. أما الآن، فإن تجاهل كل هذا الكم من الجور في الحدود، وعدم مراجعتها بصورة جوهرية، سيؤدي إلى أن هذه المنطقة لن تنعم بحالة من السلام تتفوق على ما نشهده حالياً. وحتى أولئك الذين يمقتون مسألة تغيير الحدود، سينخرطون بفعالية في إعطاء تصور أكثر عدلاً إن بقي الحقل ناقصاً، في عملية تعديل الحدود العالمية في المنطقة الممتدة بين مضيق البوسفور ووادي السند. وإذا قبلنا بفكرة عدم قيام الفكر السياسي الدولي بتطوير الأدوات الفعالة غير الحربية لإعادة ضبط الحدود الخاطئة، فإن الجهد العقلي المبذول للإحاطة بالحدود الحقيقية سيساعدنا –على الرغم من ذلك- في إدراك مدى الصعوبات التي نواجهها –وسنظل نواجهها- في هذا المجال. إننا نتعامل هنا مع تشوهات هائلة صنعها الإنسان بيده، وهذه التشوهات لا تزال مستمرة في توليد الحقد والكراهية ما لم يتم تصحيحها. وبالنسبة للذين يرفضون "التفكير في ما لا يمكن التفكير به" ويعلنون أن الحدود يجب أن لا تتغير، وما إلى ذلك من هذا الكلام، فهم يذكروننا بأن الحدود لم تكف عن التغيير خلال القرون المتعاقبة، فلم تكن الحدود يوماً من العناصر الثابتة، والكثير منها لا يزال يتغير إلى يومنا هذا، من الكونغو مروراً بكوسوفو وصولاً إلى القوقاز (كلما حوّل السفراء والممثلون الخاصون أعينهم ليدرسوا البريق المرتسم على أحذيتهم الأنيقة). آه، كدت أن أنسى سراً قذراً صغيراً يتعلق بهذه المسألة وعمره 5 آلاف سنة: أعمال التطهير العرقي. سأبدأ بالحدود التي يتحسس لها القارئ الأمريكي بشكل أكبر: فمن أجل منح إسرائيل أي أمل بحالة معقولة من السلام مع جيرانها، يجب عليها أن ترجع إلى حدود ما قبل حرب 1967، مع تعديلات موضعية ضرورية في ما يخص بالاحتياطات الأمنية المشروعة، لكن في ما يختص بقضية القدس ذات التاريخ المخضب بالدماء، فقد يحتاج الأمر لتحله الأجيال القادمة. وفي وقت حول فيه أطراف النزاع إلههم إلى طاغية مولع بالعقارات، نجد أن الصراع على الأراضي الخصبة يتميز بعناد لا يضاهى بما يمتاز به من طمع مجرد بالثروة النفطية أو النزاعات العرقية، لذلك دعونا نصرف النظر عن هذه القضية التي أشبعت درساً لوحدها، ولننتقل إلى القضايا التي تجاهلتها الدراسات. إن الجور الأكبر في الرقعة المظلومة الشهيرة الممتدة من جبال البلقان إلى جبال الهيمالايا يتمثل في غياب وجود دولة كردية مستقلة، فهناك حوالي 27-36 مليون كردي يعيشون في مناطق متجاورة في الشرق الأوسط (الأرقام غير دقيقة لأن الدول التي يعيش فيها الكرد لم تسمح بإجراء إحصاء نزيه). وبما أن عدد الكرد يتجاوز عدد الشعب العراقي، فإنه حتى التقدير الأقل لعدد الكرد يجعلهم أكبر إثنية لا تتمتع بدولتها الخاصة على مستوى العالم، وأسوأ من ذلك: أن الكرد تعرضوا للاضطهاد من كل حكومة سيطرت على هضباتهم وجبالهم منذ أيام الاحتلال الفارسي للمنطقة. لقد أهدرت الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفاؤها فرصة ثمينة للبدء في تصحيح هذا الجور بعد سقوط بغداد، فالمسخ الذي سيتكون من خياطة أجزاء غير متطابقة، سيؤدي بالعراق إلى الانقسام فوراً إلى ثلاث دول، لقد فشلنا في ذلك بسبب الجبن ونقص في الرؤية، فأجبرنا الكرد على تأييد الحكومة العراقية الجديدة، وقد استجابوا لرغبتنا بحزن عرفاناً بالجميل، ولكن أي استفتاء عام يجرى في المناطق الكردية سينتج عنه بالتأكيد نسبة 100% تقريباً من الموافقين على الاستقلال عن العراق. وكذلك سيكون الحال بالنسبة للكرد في تركيا، والذين تحملوا عقوداً من عنف الاضطهاد العسكرية وتهميشاً طويلاً من خلال تسمية جبالهم بجبال الأتراك في محاولة لتذويب هويتهم العرقية، وبينما خفت سيطرة أنقرة على الأكراد في العقد الماضي، فإن الاضطهاد عاد ليشتد على الكرد حالياً وبدا الخمس الشرقي من تركيا وكأنه منطقة محتلة، أما بالنسبة للكرد في سورياوإيران، فسيهرعون للانضمام إلى كردستان المستقلة إن استطاعوا، إن الرفض الذي تبديه الدول الديمقراطية الشرعية في العالم تجاه دعم قيام دولة كردية مستقلة هو ذنب يتعلق بحقوق الإنسان، وهو أسوأ بكثير من الانتهاكات الصغيرة التافهة التي تجذب انتباه وسائل الإعلام، وبالمناسبة: إن كردستان الحرة، الممتدة من ديار بكر إلى تبريز، ستكون أكثر الدول دعماً للسياسة الغربية في الرقعة الممتدة من بلغاريا إلى اليابان. إن تعديلاً منصفاً في حدود المنطقة سيترك المحافظاتالعراقية السنية الثلاث في دولة مقتطعة قد تتحد مع مرور الوقت بسوريا التي ستفقد شريطها الساحلي لصالح لبنان الكبير ذي التوجه المتوسطي (ولادة الإمبراطورية الفينيقية من جديد). أما الجنوب الشيعي في العراق القديم فسيشكل أساس الدولة الشيعية العربية التي ستحف بالخليج العربي. وستحتفظ الأرض بمناطقها الحالية، مع بعض التوسع باتجاه الجنوب على حساب المملكة العربية السعودية، ومن جانبها ستعاني السعودية -وهي دولة مصطنعة- من تجريدها من مناطقها بنفس القدر الذي ستعانيه باكستان. إن أحد الأسباب الأساسية للخيبة الإسلامية الواسعة يمكن في تعامل العائلة المالكة السعودية مع مكة والمدينة بوصفهما ملكاً خاصاً لهم، فوجود مقدسات المسلمين تحت سيطرة دولة قمعية يحكمها نظام يعتبر أحد أشد أنظمة العالم تطرفاً واضطهاداً -وهو نظام يسيطر على ثروة كبيرة جاهزة-، أدى ذلك إلى تمكين السعوديين من نشر نظرتهم الوهابية حول التعليم الديني والعقيدة المتعصبة بعيداً إلى ما وراء حدود دولتهم. إن تزايد ثروة السعوديين، وبالتالي، تزايد نفوذهم كان أسوأ شيء حدث للعالم الإسلامي منذ وفاة النبي، وأسوأ شيء حدث للعرب من الغزو العثماني (إن لم يكن الغزو المغولي). في الوقت الذي لن يؤثر فيه غير المسلمين شيئاً في مجال إدارة مقدسات المسلمين، تخيل معي كم سيكون ملائماً للعالم الإسلامي حينما تدار شؤون مكة والمدينة من خلال مجلس تداولي يتكون من ممثلين عن أكبر المدارس والحركات الإسلامية العالمية ضمن دولة مقدسة إسلامية -نموذج إسلامي ضخم عن الفاتيكان- حيث سيتكون مستقبل دين عظيم محل نقاش لا مجرد إلزام. إن العدل الحقيقي -الذي ربما لن نحبه- سيمنح حقول النفط الساحلية في السعودية إلى الشيعة العرب الذين تقع هذه الحقول في منطقتهم، بينما سيذهب الربع الجنوبي الغربي لليمن، وسيقتصر حكم آل سعود على البقية المتمثلة في المنطقة السعودية المحيطة بالرياض، وبذلك سيكونون قادرين على إلحاق أذى أقل بالإسلام والعالم. إيران، وهي دولة ذات حدود عشوائية، ستخسر جزءاً كبيراً من أراضيها لصالح أذربيجان الموحدة، وكردستان الحرة، والدولة الشيعية العربية، وبلوشستان الحرة، لكنها ستكسب المحافظات المحيطة بهرات في أفغانستان الحالية، وهي منطقة ترتبط بصلة وثيقة مع بلاد فارس تاريخياً ولغوياً، وفي الواقع، ستصبح إيران دولة للعرق الفارسي مرة أخرى، مع بقاء السؤال الصعب المتمثل في ما إذا كانت ستحتفظ بميناء بندر عباس، أو تتنازل عنه للدولة الشيعية العربية. إن ما ستخسره أفغانستان لصالح الدولة الفارسية غرباً، ستكسبه من جهة الشرق، حيث سيعود اتحاد القبائل القاطنة شمال غرب باكستان مع إخوانهم في أفغانستان (إن النقطة الجوهرية في هذا العمل تتمثل في رسم الخرائط لا بالطريقة التي نفضلها، بل بالطريقة التي يفضها السكان المحليون المعنيون بالأمر)، إن باكستان –وهي دولة مصطنعة أخرى- ستفقد منطقة البلوش لصالح بلوشستان الحرة، أما باكستان "الطبيعية" التي ستبقى في نهاية الأمر، فستتوضع شرق نهر السند، ما عدا نتوء متجهاً للغرب بالقرب من كراتشي. أما دولة الإمارات العربية المتحدة فسيكون لها مصير مختلط، كما هو حالها الآن، فبعض الإمارات قد ينضم للدولة الشيعية العربية مما يعطيها المزيد من السيطرة على الخليج العربي (وبذلك يرجح أن تكون الدولة الشيعية العربية عامل توازن مقابل الدولة الفارسية، أكثر من احتمال أن تكون حليفاً لها). وبما أن كل الثقافات المتزمتة هي ثقافات زائفة، فإن دبي -بالضرورة- ستحتفظ بموقعها كمرتع لعربدة المترفين. أما الكويت وعمان فستحتفظان بحدودهما الحالية. في كل حالة من الحالات، تتبدى خلال العملية الافتراضية لإعادة رسم الحدود صلات عرقية أو شعور طائفي، وفي بعض الحالات يتبديان كلاهما، وبالطبع، فإن أمكننا أن نستعين بعصا سحرية لتحقيق التعديلات التي ناقشناها فسنفعل ذلك بانتقائية شديدة، ويمكننا الآن أن نقارن الخريطتين المرفقتين (الحدود الحالية والحدود المقترحة) لنشعر شيئاً ما بالأخطاء الكبيرة التي تحفل بها الحدود الحالية، والتي رسمها الفرنسيون والانكليز في القرن العشرين لمنطقة كانت تكافح للنهوض من واقع الذل والهزيمة في القرن التاسع عشر. إن تصحيح الحدود بشكل تعكس فيه قدرة الشعوب، هو أمر قد يكون مستحيلاً اليوم، ولكن لأمد ما، وما يرافقه من دماء لن يمكن الحيلولة دون سفكها، ستنبثق حدود جديدة طبيعية، ولنتذكر: لقد سقطت إمبراطورية بابل أكثر من مرة. وإلى أن يحين ذلك، سيستمر جيشنا في قتال الإرهاب من أجل أمننا، ومن أجل السعي نحو الديمقراطية وإيجاد ممر إلى النفط في منطقة كان قدرها أن تتقاتل في ما بينها. إن التقسيمات البشرية الحالية والاتحادات الإجبارية الممتدة من أنقرة إلى كراتشي، جنباً إلى جنب مع الكوارث ذاتية المنشأ، توفر بيئة مثالية لحضن التطرف الديني الذي يمثل ثقافة إلقاء اللوم على الآخرين وتجنيد الإرهابيين. وأينما نظرت الشعوب بحزن نحو حدودها، فإنها ستبحث بحماس عن أعدائها. إن منطقة الشرق، بما تصدره من فائض الإرهابيين وشحيح الطاقة، تحمل تشوهات راهنة تعد بازدياد الحال سوءاً، دون أن يتحسن. وفي منطقة اعتنقت أسوأ أنواع الشعور القومي على الإطلاق، وتبنت أكثر أنواع الشعور الديني انحطاطاً بشكل يهدد إيمانها اليائس، فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها وقواتها المسلحة ستجد عدداً غير متناهٍ من الأزمات. وفي وقت يقدم فيه العراق مثالاً معاكساً مفعماً بالأمل -إن لم نخرج منه مبكراً-، نجد بقية دول هذه المنطقة الشاسعة تقدم المشاكل المتفاقمة على جميع الحدود. إذا لم يكن ممكناً تعديل حدود الشرق الأوسط الكبير بحيث تعكس الروابط الطبيعية المستندة إلى الدم والعقيدة، فيجب أن نتقبل حقيقة تنص على أن جزءاً من الدم المسفوح في هذه المنطقة سيكون على حسابنا نحن الأمريكيين.