الكتابة حول سرديات التاريخ الموثق والمحكي لها أساطيرها وحكاياتها وقصصها العديدة، وما من شك بأن هناك تباينا واضحا في قراءتها والاتعاظ من دروسها، وتتعدد بطبيعة الحال حولها القراءات والاستخلاصات، لكن هناك إجماع بين المؤرخين الثقات والمثقفين ذوي الباع الطويل في الشأن الثقافي العالمي، بأن الحضارات والديانات الموثقة بالنقوش والكلام المنزل من عند الله أصبح الجدل الخلافي فيها محدوداً، وأنها أصبحت من مسلمات الفكر والتراث الإنساني، إما محاولة استنطاق التاريخ مرة أخرى، ما هي إلا ترف ثقافي، أو لَغو عديم الفائدة العلمية. واليمن بكل معطيات حضاراته أصبحت إحدى هذه المسلمات لأنه تاريخ موثق ومكتوب بالنقوش السبئية والحميرية، وأكدتها الرسالات السماوية بحروف من نور لا لَبْس فيها ولا جدال، وآخر هذه الرسالات ما ورد في كتابنا المقدس القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. إن الإشارات لمراجع التاريخ للأمم هي من بديهيات تثبيت الحق لأصحابه، ومرجع مهم لرصد سلوك الأمم والأقوام التي عبرت في مجرى رحلة الحياة السرمدية، وهذا الأمر أمر تذكرته جيداً، حينما كنت طالباً في أثنا مرحلة الدراسات العليا في جمهورية ألمانيا الاتحادية، إذ كان الأساتذة والمشرفين على مجموعتنا حريصين كل الحرص على مرافقتنا لزيارة المعالم التاريخية للقبائل الجرمان وزيارة المتاحف والقلاع القديمة لتثبيت الدرس الأول وهي مرجعية الأمة الألمانية بتاريخها الإنساني، مع أنهم لم يحظوا كثيراً بما حظينا به نحن اليمنيون من ترف لافت بذلك الكم من الشواهد التاريخية، من زمن تجاوز 3500 عام هي بداية الحضارة اليمنية الموثقة. وحينما يكون التاريخ شاهدا على الأمة أيٍ كانت هذه الأمة سنجد الإجابات الموضوعية يترجمها فعل الحاضر، وستتبعه النتائج الإيجابية لأجيالها المتعاقبة، ولكي لا يكون حديثي عائماً دون إسناد مُثبت بوقائع وشواهد من كنوز تاريخنا القديم، سأورد سبعة شواهد فحسب، مع أنني لو تركت للقلم حريته للكتابة في هذا المضمار الخصب لما توقف وقد يصبح عبئاً ثقيلاً على القارئ اللبيب. ما هي المعطيات السبعة التي أنجزنا بها تاريخ اليمن: أولاً : كسا الكعبة المشرفة أحد التبابعة اليمانيين (أحد ملوكها)، أي أنه أول ملك في التاريخ الإنساني يقوم بهذا الفعل المُشرف هو يمني، كما خُصِّص لليمانيين ركن بالكعبة المشرفة، اسمه الركن اليماني وهذه لعمري مكرمة التاريخ كله لليمانيين. ثانياً : اليمن أصل كل الهجرات العربية التي غطت جغرافيا الجزيرة وشمالها منذ الهجرات السامية الأولى وهجرة أبو زيد الهلالي، وحينما تفرقت أيادي سبأ بانهيار سد مأرب العظيم وإلى المدد الشبابي الكاسح في كل الحملات العسكرية في جيوش فتح أصقاع الأرض في الفتوحات الإسلامية، ووصلت هجراتهم إلى شمال أفريقيا وغربها، ولذلك يُنسب إليهم أنهم أصل العرب. ثالثاً : اليمانيون أول من خط بالحرف العربي اليماني، وهي حروف الخط المُسند التي كتبوا بها تاريخهم العسكري والسياسي والاقتصادي والقانوني، ووثقوا كل علاقاتهم من الهند شرقاً وحتى بلاد الرافدين شمالاً، وحتى لفرعون الذي أسس ملكه في أرض الكنانة وإلى شرق إفريقيا، نعم وثقوا تاريخهم لكي لا يغالطهم أحد في قادم الأيام. رابعاً: ذكر الله في محكم كتابه الكريم اليمن واليمينيين في أكثر من سورة وآية، منها سورة سبأ وسورة الأحقاف، وهذه مكرمة إلهية عظيمة لم يخص الله شعبا آخر بهذا السخاء العظيم. خامساً : حَكمت اليمن أعظم امرأتان بالتاريخ العربي في محيطنا العربي والإسلامي، وكان لحكمهن بصمة مؤثرة بالتاريخ الإنساني وهن الملكة بلقيس ملكة سبأ وعاصمتها مأرب، والسيدة/ أروى بنت أحمد الصليحي ملكة الدولة الصليحية وعاصمتها مدينة جِبلة، أحدى ضواحي مدينة إب. سادساً : خَص النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الشعب اليمني بأكثر من خمسة وأربعين حديثا نبويا شريفا صحيحا عن اليمانيين، وهذا لم يحدث في تاريخ أي شعب آخر في هذه الدنيا. سابعاً : تميز الشعب اليمني في الجزيرة العربية أنه أنجز ثورتين هما: ثورة 26 سبتمبر ضد النظام الأمامي البائد في شمال اليمن، وثورة 14 أكتوبر ضد الاستعمار البريطاني المحتل في جنوباليمن، وأقام الوحدة اليمنية المباركة في 22 مايو1990م، الذي تآمرت عليها دول الجوار العربي منذ اليوم الأول من قيامهما، ولا زال ذلك التآمر قائماً حتى لحظة كتابة هذه الأسطر. هذا بعض عطاء وسخاء التاريخ لليمانيين منذ فجر ميلاده بالماضي المُشرق، وهذا اليمن العظيم محدود الثروات، والمثقل بعدد كبير من الأميين من مواطنيه، ولا يمتلك إلا بنية تحتية متواضعة، ومستوى دخل الفرد فيه من أقل الدخول في الجزيرة العربية والعالم، وعصفت به الأزمات السياسية والاقتصادية كغيرها من دول ما سُمي (بالربيع العربي)، والآن يتعرض هذا البلد الفقير الم?سالم لعدوان سافر فاضح من قبل جيرانه (الأكثر ثراء في العالم ربما)، وبحلف أعرابي للأسف، وبغطاء أمريكي غربي، واستمر ذلك العدوان لأكثر من عام، ويتعرض لحصار غير مسبوق جواً، براً وبحراً، ومُنع عن الشعب الغذاء والدواء والوقود، ومحاصر إعلامياً على مستوى الإعلام العالمي بقوة ونفوذ المال المسموم، ومع ذلك تبرز سبعة معطيات تمثل خلاصة الصمود والانتصار العظيم للإنسان اليمني. إذاً ما هي المعطيات السبعة كعلامات شموخ النصر للحاضر؟ أولاً: أنها أول حرب بالتاريخ يجتمع فيها الأثرياء العرب، وتحت غطاء أعظم دولة إمبريالية بالعالم بحلفها غير المقدس ضد أفقر دولة بالجزيرة العربية وهي اليمن، ومع ذلك صمد الجيش اليمني والأمن واللجان الشعبية وجموع المواطنين لأكثر من عام في وجه همجية العدوان البربري. ثانياً : في أثناء الحرب العدوانية مُنذ انطلاقتها على اليمن قبل عام ونيف، تواصلت الدول المُصنعة للأسلحة بأنواعها في توريد الأسلحة لدول العدوان وبصفقات مُذهلة تجاوزت عشرات المليارات، وفي الوقت ذاته مُنع عن الجيش اليمني واللجان الشعبية استيراد حتى طلقة مسدس ماكروف وطلقة رشاش كلاشينكوف، ومع ذلك تستمر المقاومة للعدوان، أليس هذا من وحي أساطير السحر والمعجزات في الحياة اليمنية. ثالثاً : فُرض حصار جائر من الجو والبر والبحر، ومُنع عليه الدواء والوقود والغذاء، ومع ذلك تعايش وتكيِّف المواطن اليمني مع معاناة ما ينتج عن الحرب، وتكيفوا لمقاومة العدوان من كل الشرائح اليمنية، ولم تتوقف الحياة، بل أظهروا تضامنا داخليا وتعاونا وتآزرا قل نظيره مع النازحين الذين تجاوز عددهم مليونين وأربع مائة ألف ويزيد، ودون مساعدة تُذكر من أحد. رابعاً : قاومت الأسرة اليمنية العدوان بتطبيع الحياة برغم ضنكها وشظفها، فكانوا يرسلون أبناءهم إلى الجامعات والمدارس والمعاهد في ذروة قصف طيران العدوان على القرى والمدن، وكنا نستمع في صباح كل يوم جديد طيلة زمن العدوان نغمات حناجر أطفالنا، ونزداد معهم مع كل هذه الإشراقات الصباحية بجرعة وطنية تزيد الشعب اليمني صمودا وكبرياء، إذ كانت طالبات وطلاب المدارس يرددون اللحن الخالد للنشيد الوطني "رددي أيتها الدنيا نشيدي، ردديه وأعيدي وأعيدي، وأذكري في فرحتي كل شهيدِ،.... لن ترى الدنيا على أرضي وصيا"، وهذه الحناجر الشابة توصل صوتها لعنان السماء، ليُسمِعوا العالم أحد أسرار عنفوان اليمني في لحظة مقاومة العدوان. خامساً : وقبيل انطلاق العدوان وبتنسيق أو بدونه، غادرت كل الشركات العاملة في حقول النفط والغاز إنتاجاً وتصديراً، وتوقف معها ضخ العملات الصعبة إلى الموازنة العامة للدولة التي قدرها القائم بأعمال معالي وزير المالية الأستاذ/ محمد ناصر الجند، بحدود 10 مليارات دولار، وكانت تشكل ما يقارب من 70 % من إيرادات الموازنة العامة للدولة، ومع ذلك ظل موظفو الدولة كلها مع فئة المتقاعدين وغيرهم يستلمون رواتبهم إلى لحظة كتابة هذه الأسطر، وتصرف الرواتب في كل حدود الجمهورية اليمنية، بما فيها تلك المحافظات الواقعة تحت الاحتلال السعودي الإماراتي ومرتزقتهم وحلفائهم من تنظيم القاعدة والدواعش في كلٍ من عدن ولحج وأبين وأجزاء من الضالع وتعز وشبوة وحضرموت ومأرب، ألا يدل ذلك إلَّا على شيء واحد بأنها المعجزة اليمنية الخارقة في معالجة أهم وأخطر حلقات إثبات وجود الدولة بمسؤولياتها، مع أن هدف العدوان هو تدمير أسس ومقومات الدولة اليمنية، ولكنها لم تنجح. سادساً : تلاحم كل القوى الوطنية المقاومة للعدوان، وفي مقدمتهم حزب المؤتمر الشعبي العام، بقيادة الزعيم علي عبدالله صالح، وكل القوى الوطنية في الجبهة المقاومة للعدوان، وجماعة أنصار الله (الحوثيين) بقيادة الزعيم الروحي السيد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي. سابعاً : بعد عام من العدوان المتواصل الذي استهدف تدمير معظم البُنى التحتية وكل ما يتصل بمقومات استمرار الدولة، حتى ما بعد انتهاء الحرب، والقتل المتعمد للمواطنين المدنيين، بهدف كسر إرادة الشعب اليمني، إلا أن الجواب جاء مزلزلاً في يوم السبت الموافق 26مارس 2016م، ذكرى مرور عام على العدوان، إذ احتشدت الملايين من اليمنيين في ميادين العاصمة صنعاء وشوارعها وأزقتها وساحاتها، في مهرجان العزة والصمود لمقاومة العدوان، بين ميدان السبعين وساحات الكلية الحربية بالروضة، والمتفرع من شارع المطار، كانت الحشود الجماهيرية الهادرة تبعث برسائل متعددة، إحداها مفاده أن الشعب اليمني يتوق للسلام والحريّة، ولكنه سيستمر في مقاومة العدوان مهما كلف الثمن، وكانت رسالة قوية للأعداء وكل مرتزقتهم بالداخل والخارج، وهي رسالة للأشقاء العرب وللأصدقاء الذين أدانوا العدوان السعودي وحلفائه على اليمن، كما أنها رسالة للعالم قاطبة، بإبلاغهم بأن الشرعية الحقيقية هي في هذه الحشود الهائلة من الجماهير الرافضة للعدوان. نضع القارئ اللبيب أمام المشهد بتجلياته بمرجع التاريخ ومعطيات الحاضر، كي يستنتج بفطنته أن صمود اليمن هو القاعدة الأساسية في معادلة الحياة والموت منذ فجر التاريخ إلى يومنا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ? محافظ محافظة عدن – رئيس جامعة عدن