* كعقائدي ماركسي غالباً ما تستحضرني، وخاصة في أوقات الشدة بعض أكثر المشاهد رسوخاً في ذاكرتي والمتمثلة في انهيار المنظومة الشيوعية العالمية وسقوط حلف وارسو في شرق أوروبا وتفكك الاتحاد السوفييتي أواخر الثمانينات من القرن العشرين.. * كان المشهد مريعاً آنذاك وأكثر انفعالية بالنظر إلى نتائجه الكارثية المتمثلة في شقها الأول باختلال معايير التوازن الدولي لصالح نشوء القطبية الأحادية.. وفي شقها الآخر بانتكاس المسار الثوري والتحرري لقوى الشغيلة العالمية.. التي فقدت أهم ركائزها ومقوماتها الأيديولوجية والحركية والمادية على ضوء تفكك وتشرذم العديد من أدواتها الكفاحية بدءاً بالحزب الشيوعي السوفييتي ومجمل حلفائه من الأحزاب الشيوعية والعمالية الحاكمة آنذاك في الجزء الشرقي من أوروبا على غرار حزب العمال الاشتراكي المجري الذي تفتت تماماً آنذاك وتجزأ إلى عدة أحزاب وتيارات متنافرة قوضت ما تبقى من إرثه ووجوده الحركي ليصبح جزءاً من ذاكرة التاريخ الوطني.. وانتهاء بمجموعة الأحزاب والحركات الشيوعية والعمالية الثائرة في دول العالم الثالث من أقاصي أفريقيا وآسيا والعالم العربي إلى تخوم القارة الأميركية.. باستثناء الحزبين.. الشيوعي الكوبي بقيادة الرفيق الملهم فيدل كاستروا.. والاشتراكي اليمني اللذين صمدا أمام عوامل التشرذم المخيمة بقوة آنذاك ولأسباب عدة بالطبع.. منها نجاح الأول بقيادة الرفيق فيدل كاستروا بتحويل مشاعر الولاء الشعبي التي يحظى بها في محيط القوى والطبقات الجماهيرية الكوبية إلى تحصينات منيعة تقي نظامه الوطني حتمية السقوط.. ونجاح الآخر (الحزب الاشتراكي اليمني) في خضم تلك التحولات الكارثية بتعزيز حضوره وشرعيته الوطنية على كامل التراب الوطني عبر قيامه بتحقيق الوحدة اليمنية بالشراكة مع المؤتمر الشعبي العام في مايو 1990م، متوجاً من خلالها باكورة إنجازاته الملحمية والثورية.. * المفارقة العجيبة هنا تكمن في أن ذلك الحضور والنقاء الثوري والشرعية الوطنية التي اكتسبها الحزب الاشتراكي اليمني بقوة على امتداد مراحل العملية الثورية الوطنية باتت الآن جزءاً من ذاكرة التاريخ الوطني شبه المنسي والمغيب.. فالحزب الذي نجح في الصمود في وجه أعنف التحولات الأيديولوجية والطبقية التي عمت العالم أواخر القرن الماضي بصورة لم يفعلها حتى الحزب الشيوعي السوفييتي ذاته بوصفه القوة الطليعية المرشدة آنذاك.. والحزب الذي تأسس أصلاً وبنى ميراثه الثوري على مبدأ الوحدة والتنوع وفق شروط ومبادئ العمل الوطني الجمعي الذي حققه بصورة مبكرة من تاريخه، حينما ضم في جنباته مجمل فصائل العمل الوطني عام 1975م.. بات اليوم الفصيل الوطني الأكثر ضعفاً وهشاشة وتشرذماً سواء على صعيد حضوره المفترض في المعترك السياسي الوطني.. أو فيما يخص روابطه الكفاحية المهترئة والمفككة مع العديد من القوى والقطاعات الجماهيرية والشعبية.. ولأسباب عدة بالطبع أبرزها تلك المتمثلة بتبعيته المهينة للقوى العشائرية والراديكالية المتشددة داخل حزب الإصلاح.. بالإضافة إلى إخفاق قادته ومنظريه الملحوظ في استلهام النتائج السلبية والمباشرة لروابطهم الكفاحية المهترئة تلك مع العصابات اللاهوتية بالطريقة التي استوعبها الغرب ودول الجوار الإقليمي عندما أدركوا حجم المخاطر الناشئة والمحتملة على السلم الأهلي والدولي والإقليمي في حال أفلح هؤلاء في الهيمنة على مراكز صنع القرار السياسي في البلاد.. * وهذا عائد بالدرجة الأساس إلى رسوخ وتفشي ظاهرة الرتابة الأيديولوجية والفكرية المتحكمة على ما يبدو بصوغ رؤى وتوجهات المكونات القيادية العليا للحزب الاشتراكي إلى الحد الذي لم يعودوا قادرين فيه ربما على إدراك الفارق الجوهري بين مفهومي التقدمية والرجعية.. أو حتى التفريق ما بين لحية كاستروا المكسوة بشموخ وعظمة ثورة الكاريبي.. وبين لحية الزنداني المكسوة بالمكر والخبائث والعياذ بالله.. * وهو الواقع الذي يمكن قياسه بوضوح من خلال الإمعان بدقة في مظاهر العدمية واللامبالاة المخيمة بقوة على عقلية الرفاق في قيادة الحزب العليا بدليل أنه لم يبدر منهم حتى اللحظة ما يوحي بفهمهم المنطقي والمفترض لحجم المأزق الذي أوقعوا حزبهم فيه ولحجم نتائجه وتأثيراته الكارثية على حضور وتماسك الحزب ومستقبله السياسي.. باستثناء تلك الزفرة اليتيمة والمتأخرة التي أطلقتها ربما سهواً قيادة الحزب في حوالي منتصف العام الفائت والمعروفة بالنقاط العشرين وبالبيانين السياسيين اللذين صدر عنهم تباعاً خلال الفترة من 9/4/2012م إلى 3/7/2012م بما تضمناه من نقاط واشتراطات عكست بوضوح المخاوف الصامتة لنخبة الحزب القيادية، وربما سعيها المتأخر لاستعادة ولو جزء يسير من حضورهم السياسي والحركي المفقود في الوسط الجماهيري والقاعدي والشعبي..نظراً لما تضمنته تلك الدعوات من مغازلة صريحة للقوميين الجنوبيين في محاولة يائسة على ما يبدوا لاحتواء حراكهم الجماهيري الواسع والحد من استفحال ظاهرة العدمية السياسية والحركية والغياب شبه الكلي الذي يلف حضورهم المفترض في المعترك السياسي والوطني جراء غيابهم المبهم والطويل طيلة فترة العقد ونيف الماضية عن تبني هموم وقضايا الجنوبيين من جهة والقضايا الوطنية بصفة عامة من جهة أخرى.. بالإضافة أيضاً إلى رغبتهم المحتملة من وراء تلك النقاط المعلنة في التقليل من فداحة الثمن الذي سيتعين على الحزب الاشتراكي اليمني دفعه جراء أخطائهم على المدى الزمني الطويل على حساب إرثه وميراثه الثوري وروابطه الحركية والشعبية وحظوظه الحالية والمستقبلية في الإسهام بفاعلية في بناء منظومة النظام السياسي للمجتمع.. * ويبقى هاجسنا معشر العقائديين الماركسيين وبوصفنا نتاجاً لتجربة الحزب الثورية العظيمة مدفوعاً بالخوف والريبة من أن يتحول الحزب جراء هذا الانحدار الذي يعتري اليوم سير عمليتة السياسية والحركية في ظل انحراف وانبطاحية نخبته القيادية إلى نسخة مشهدية شبيهة بتلك التي طبعت مسار الحركة الشيوعية المصرية التي سبقت الجميع إلى هاوية التحلل والانحطاط العمدي.. عندما قضت بالسكتة الدماغية المفاجئة في منتصف السبعينات بعد نجاحها كحركة ثورية في خوض تجربة دمج ناجحة في يناير العام 1958م تم على ضوئها توحيد كافة فصائلها ومكوناتها المنقسمة والمبعثرة آنذاك تحت أشكال ومسميات عدة من بينها على سبيل المثال.. حزب طليعة العمال.. وحزب الراية.. والحزب الشيوعي المصري.. ورديفه المكنى بالحزب الشيوعي المصري الموحد.. إلخ. وذلك كنتيجة حتمية لمظاهر الفوضى الفكرية والخلل الأيديولوجي المتجذر آنذاك في وعي مكوناتها القيادية، وكذا الضعف الحاد في نسيج المبدئية والمسئولية القيادية بالصورة ذاتها التي تعتري اليوم نخبتنا المضطربة في أمانة الحزب العامة. وللحديث بقية... *رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن