مقتل وإصابة أربعة جنود في اشتباكات مع مسلحين خلال مداهمة مخزن أسلحة شرقي اليمن    حادث مروع .. ارتطام دراجة نارية وسيارة ''هليوكس'' مسرعة بشاحنة ومقتل وإصابة كافة الركاب    قتلوه برصاصة في الرأس.. العثور على جثة منتفخة في مجرى السيول بحضرموت والقبض على عدد من المتورطين في الجريمة    بعد القبض على الجناة.. الرواية الحوثية بشأن مقتل طفل في أحد فنادق إب    كان يرتدي ملابس الإحرام.. حادث مروري مروع ينهي حياة شاب يمني في مكة خلال ذهابه لأداء العمرة    الكشف عن هويات القتلى اليمنيين في تفجير حقل للغاز بطائرة مسيرة بدولة عربية (الأسماء والصور)    عشرات الشهداء والجرحى في غارات إسرائيلية على وسط وجنوب قطاع غزة    السلفيون في وفاة الشيخ الزنداني    مأرب تقيم عزاءً في رحيل الشيخ الزنداني وكبار القيادات والمشايخ في مقدمة المعزين    تعرف على آخر تحديث لأسعار صرف العملات في اليمن    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    قوات دفاع شبوة تحبط عملية تهريب كمية من الاسلحة    رفض قاطع لقرارات حيدان بإعادة الصراع إلى شبوة    قذارة الميراث الذي خلفه الزنداني هي هذه التعليقات التكفيرية (توثيق)    ما الذي كان يفعله "عبدالمجيد الزنداني" في آخر أيّامه    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    قيادي إصلاحي يترحم على "علي عبدالله صالح" ويذكر موقف بينه و عبدالمجيد الزنداني وقصة المزحة التي أضحكت الجميع    دوري ابطال افريقيا: الاهلي المصري يجدد الفوز على مازيمبي ويتاهل للنهائي    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    لا يجوز الذهاب إلى الحج في هذه الحالة.. بيان لهيئة كبار العلماء بالسعودية    عمره 111.. اكبر رجل في العالم على قيد الحياة "أنه مجرد حظ "..    آسيا تجدد الثقة بالبدر رئيساً للاتحاد الآسيوي للألعاب المائية    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    سلام الغرفة يتغلب على التعاون بالعقاد في كاس حضرموت الثامنة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باحث يمني يعد دارسة مستفيضة وعملاقة حول الطموحات والتحديات الخطيرة التي ستواجه السعودية في ضوء رؤية الإصلاح2030
بالتزامن مع المقابلة التلفزيونية للأمير محمد بن سلمان

بالتزامن مع اللقاء التلفزيوني الذي أجره سمو الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع بالمملكة العربية السعودية نشر الباحث الدكتور/ عبدالحي علي قاسم، وهو أكاديمي يمني وباحث في العلاقات الدولية والشئون الإستراتيجية، وكذلك عضو الجمعية العربية للعلوم السياسية , له العديد من المؤلفات والأبحاث المنشورة نشر دراسة حول – السعودية : طموحات وتحديات خطيرة في ضوء رؤية الإصلاح2030 وهي الدارسة التي ينفرد يمن فويس للأنباء في نشرها وقدمها كما يلي :
نبذة مختصرة للبحث
أخذت الرؤية الإصلاحية 2030 ورائدها الأمير محمد بن سلمان حيزا من الأهمية لدى الأوساط الصحفية والسياسية، وأضحت حين ظهورها، وما زال صداها مادة متداولة، وعالية الإثارة لدوائر تحليل صناعة القرار، وبنوك التفكير الإستراتيجي العالمية، من واقع المكانة التي تتبوأها المملكة السعودية، وتداعيات أي تغيير عميق فيها على مصالح الإقليم والعالم الحيوية، جرأة الإفصاح عن رؤية الأمير الشاب وقراراته بما تحمله من أبعاد ودلالات استقلالية، تثير ديمومة الإدهاش في منطقة متخمة بالأزمات، وتترنح في توترات صراعية تأبى مغادرة مربعاتها، فجاءت هذه المبادرة الإصلاحية في عمق التحولات، لتعصف بحالة الجمود الداخلي بمفاجآت غير متوقعة، فكان ذلك حافزا كافيا لسبر تفاصيل المتغيرات المختلفة لتلك الرؤية، أكانت ثقافية أو مؤسسية، والأهم من ذلك الغوص في المحور الاقتصادي، كمحور جوهري ورئيسي تقوم عليه بنية الرؤية ومؤشراتها. وفي ضوء متغيرات الرؤية انصب التركيز على التحديات الداخلية والخارجية الخطيرة لتلك الرؤية، مع الإشارة إلى بعض النقاط المهمة والخطيرة من واقع قراءة تحليلية رصينة لتلك الرؤية الطموحة من حيث مدى جديتها كضرورة اقتصادية وسياسية، أم أنها فقط نوع من إعادة انتاج بنية هيكلية اقتصادية لديمومة النظام والحفاظ عليه.
التحديات الخطيرة التي تواجه السعودية في ضوء رؤية الإصلاح2030
نظرة ثاقبة لمسيرة الطموح التي تجري بها رياح الأمير الشاب محمد بن سلمان تثير الكثير من هواجس الحدس المتفائلة، والريبة المخيفة في آن، فأن تناقش تفاصيل الطموح الإصلاحي وتداعياته، فأنت تستعرض شخصية لها عنوانها المهم والمركزي، كما أنك أمام دولة ليست بالهامشية بكل معايير الجغرافيا والاقتصاد، والثقل الحضاري والديني. فأبعاد الموضعة، والأهمية، والمكانة، تسلط الضوء على أي طارئ نوعي في أعلى هرم السلطة، ونوعية رؤيته وتبعاتها. أي تغيير في دفة القيادة وطموحاتها، تقرأ من الآخر الإقليمي والدولي بعين إستراتيجية "ثاقبة" و"محتاطة"، لا تستسيغ هامش المغامرة والطموح ولو كان بسيطا من دولة بحجم ومكانة المملكة العربية السعودية، وما يظهر لعيون الأمير الشاب من ابتسامات ومجاملات، وإطراء دبلوماسي لطموح مسيرته الإصلاحية، ومدى إعجاب البعض برؤيته وأسلوب تدبيره، لا يعدو في غالبه ضربا من نفاق يخفي في طياته خبث ولؤم، قد تدركه نباهة الأمير الشاب، بيد أن ملامسة حاسته السياسية لتفاصيل خطره، وخيوط مكره داخليا وخارجيا يضل نسبيا. المكان والزمان لا يساعد بسهولة تمرير الطموحات القاتلة من وجهة النظر الآخر المعادي، مالم تتسلح إرادة الأمير بالنباهة، والنضج، والتكيف المدروس.
تتزامن وصفة الإصلاح التي وضعها الأمير محمد بن سلمان قبل ما يربو على سنة، وتم الموافقة عليها، والمنطقة العربية تمر بمنعطف هو الأكثر خطورة وحساسية، ومثقل بأزمات حادة لم يسبق أن واجهة قوة عصفها دول المنطقة، وتحديدا المملكة العربية السعودية. فهذه الأخيرة تناور في أكثر من صعيد إقليمي ودولي، تحارب بضراوة في اليمن، وتعبئ أدوات الصراع في سوريا، تحاصر ماليا وسياسيا تغول ومخاطر حزب الله الذي اختطف لبنان، وتجد نفسها في مواجهة شاملة مع إيران على طول المنطقة وعرضها، عدى عن تهاوي غير مسبوق في أسواق النفط. إذا وضع جيوإستراتيجي اقتصادي وعسكري غير مريح، وينذر بمخاطر مريعة ما لم تأخذ بسنن التفوق، وآليات الإصلاح الأكثر نجاعة.
ومن رحم المخاطر، جاءت الحاجة لطرح رؤية الإصلاحات الاقتصادية النوعية، متوازية مع سياسة ولأول مرة في تاريخ المملكة تأخذ بزمام المبادرة في الدفاع عن أمنها، وتعريفه وفقا لصانع قرارها "العاقل"، كضرورة لوقف زحف المخاطر الخارجية عن تخوم عمقها الإستراتيجي بعيدا عن رؤية الآخر الغربي المتلون، وشراكته التي لا تستقر على حال، ويتبادل أدواره بين الرسمي والمجتمعي الحقوقي تجاه السياسة السعودية، ناهيك عن الموقف الروسي وترجيحه لكفة إيران واستخدامها كأداة لتطويع المملكة.
تأتي هذه الرؤية الإصلاحية أيضا كنوع من ردم الفجوة بين جيل المنتفعين المطمأنين للوفورات والامتيازات، وبين طموح الجيل الشاب، الذي يتطلع إلى مزيد من العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة، وترشيد إدارتها بكفاءة عالية بما يحقق أهداف التنمية الحقيقية البشرية والاقتصادية، وحق المشاركة المعقولة في إدارة الشأن العام، ومحاسبة الفاسدين، التي ظلت آمالا بعيدة المنال في ظل تراتبية وبيروقراطية القيادات السابقة.
متغيران مهمان في جدار التحول السعودي يمكن أن تعزى إليه ظاهرة التحول، وأي استجابة إصلاحية لها، فالطفرة التقنية الاتصالية بما تحمله من أفكار مستحدثة لا تقل تأثيرا في جدار التحول السعودي عن الطفرة النفطية، وكلاهما يمثل تحديا ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا لا مفر منه، ولا ريب من مواجهة قدره بحتمية التغيير الإصلاحي الذي يتوازى وحجم التحديات القائمة[1].
وعبثا أن يتم التعامل مع تلك التحديات بقدر من الممانعة والرفض، وحتى التوتر والتمرد يظل عديم النفع، إذ لا مناص من التغيير وقف رؤية تستلهم روح التحول الثقافي والاجتماعي بنوع من القراءة الواقعية والناضجة.
ومع ضغط الأضواء المعلوماتية الاتصالية للجيل الشاب، وسيل أفكارها المستحدثة، وخلخلتها لمجمل الانساق القيمية والمجتمعية، لا مناص من الاستجابة بشفافية لمفردات المطالب الشعبية في الحاجة لآليات التدبير الفعال والرشيد، لمواجهة الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، ومجابهة التحديات الخارجية المتفاقمة. إذ من غير المنطقي أن تقدم على سياسات نوعية تعزز من أمنك القومي، وتمارس دورك الريادي الفاعل، والقوي بدون أن ترسو على بناء مؤسسي وشعبي صلب، ومتماسك، وعمق إستراتيجي في محيطك غير قابل للتفكيك بسهولة.
كما أن من شأن غياب رؤية إصلاحية في واقع يزخر بالمخاطر والفساد التدبيري يمكن أن يفتح بابا من سخافة السجالات، ومثيرا حالة من اليأس والإهمال لدى المواطن السعودي. وفي ذات السياق، أتت تلك الرؤية الإصلاحية 2030، كخطوة تكيفية بنفس مؤسسي رشيد، تأخذ بعين الاعتبار تغييرا في الرؤى والآليات التي بها تعالج المشاكل الرئيسية للمملكة السعودية، تتجاوز من خلالها كافة الاخفاقات السابقة، والتلكؤات المتواصلة.
سوى أن هناك هناك تخوف من أن هذه الرؤية الإصلاحية لا تعدو عن كونها نوع من إعادة هيكلة البنى الاقتصادية التقليدية، لبعث روح قبول وديمومة النظام السياسي، وتحصينه في ضوء التحديات القائمة في أوساط المجتمع السعودي المغيبة إرادته الجامعة في هذا التغيير وأولوياته، كما أن هذه الرؤية تتقاسم تشاؤما قويا فيما يتعلق بقدرة الأمير على تنفيذ خطته الإصلاحية حتى ضوء التحدي الداخلي. وهنا نطرح بعض التساؤلات العميقة لخوض مضمار البحث وفق إطار منهجي واضح:
- هل رؤية الإصلاح التي وضعها الأمير الشاب محمد بن سلمان تأتي كضرورة مدروسة لمجابهة استحقاقات الداخل وتهديدات الخارج؟ أم أنها لا تعدو كونها نوع من إعادة انتاج بنية هيكلية اقتصادية لديمومة النظام والحفاظ عليه؟
- أيمكن لهذه الرؤية أن "تمر" أي تصبح واقعا ملموسا في ضوء التحديات القائمة الداخلية والخارجية؟
الإجابة على هذه التساؤلات، تلزمنا فهم، وتوضيح طبيعة الأهداف التي تسعى إليها هذه الدراسة، والوقوف بتمعن لمعرفة رؤية الإصلاح وواقعيتها، ورائدها الشاب عن كثب في ضوء "عصر أفكارها" و"مناقشة متغيراتها" الداخلية والخارجية، وسبر تفاصيل التحديات التي تواجهها داخليا وخارجيا.
لا تخلو هذه الدراسة من معالجة تحليلية واقعية تستوعب في متغيراتها المنهجية بعض الاقترابات المتعلقة بثقافة صانع القرار، وتقديره الفاعل لمصالح بلده في ضوء المعطيات الحيوية داخليا وخارجيا..شمولية الرؤية الإصلاحية مؤسسيا واقتصاديا وسياسيا، تجعلنا بحاجة ماسة لمعالجة تحليلية منهجية تكاملية مؤسسية واقتصادية، لملامسة الموضوع من جوانبه المختلفة، إذ لا يفي منهجا واحدا في مهارة كشف الزوايا المختلفة موضوعيا للبحث محل الدراسة.
أولا: إرهاصات التغيير ومخاطره
إن المتابع بعمق لطبيعة التوجه السعودي، وتداعيات ولو رمزيته يدرك حساسية أي تغيير في بلد مثل المملكة العربية السعودية لا سيما في أوساط العالم الغربي وتحديدا الولايات المتحدة، فلمحة مسحية لأهم الصحف الغربية حينها يدرك المتتبع مدى العصف القراءاتي والتحليلي المتسلح بترسانة شكوك وهواجس لا حصر لها، فالتحليلات الرصينة ذات الأبعاد الإيديولوجية حول النهج السعودي ورائده الشاب محمد بن سلمان، تشرح الأمير الشاب طموحه، وبداهته، وهامش ثقته، وانفتاحه على الآخر الإعلامي، ومدى جرأته في طرح مشروع رؤيته الإصلاحية المستقبلية، وتمريرها بعيدا عن رتابة وانغلاق من سبقوه حد أن فتح أبواب قصره للصحافة، ليضع أمامهم حروف رؤيته ببساطته وثقته المعهودة، وبعضل تفاصيل علاقاته العائلية ونزواته الغريزية كأب وقائد.
جرأة الإفصاح عن رؤية الأمير الشاب وقراراته بما تحمله من أبعاد ودلالات استقلالية، تثير ديمومة الإدهاش في منطقة متخمة بالأزمات، وتترنح في توترات صراعية تأبى مغادرة مربعاتها، فجاءت هذه المبادرة الإصلاحية في عمق التحولات، لتعصف بحالة الجمود الداخلي بمفاجآت غير متوقعة، رؤية أقل ما يمكن وصفها بأنها رصينة، وطموحة، وإيذانا بميلاد نظام إصلاحي يستعد لمغادرة مربع الهشاشة والشلل، ونمط التبعية التعاقدية التقليدية حيال القوى الأجنبية، بدون مبالغة في إبراز التناقض أو إغراق في كراهية الآخر، لكنه يرفض العيش على قارعة التهميش السياسي والاقتصادي، بحيث يصعب قراءة أثاره على المصالح الغربية، فقط بضرب من الشكوك التي لا مبرر منطقي لأخذها بذلك النوع من التخوفات، أو التساهل في التعامل مع مفرداتها الاقتصادية والسياسية.
مبعث الرؤية الإصلاحية عند ظهورها حسب بعض المحللين يعود إلى البحث عن خيارات إستراتيجية عوض التواكل على الصداقة المتهاوية مع إدارة باراك أوباما، وإمكانية لجوء الولايات المتحدة وبعض القوى الغربية للتضحية بالمتعاونين معها وتحديدا المملكة السعودية، وفقا لحسابات تقلص العائد من تلك العلاقة، أو طمعا في كثير من التنازلات والمصالح بفزاعة إيرانية أكثر إغراء عوض بقاء علاقتها السابقة بالحليف السعودي. من ناحية أخرى يرجع البعض ذلك الخيار الأمريكي إلى ضعف الأداء العربي، وقصور توظيف الإمكانات الوطنية[2].
وفي سياق ردود الفعل الإقليمية إزاء هذه الرؤية هناك من ابتسم النفاق، وتكلف تعفير أنف خبثه السياسي على بلاط السياسة السعودية خشية لقوتها، أو طمعا في جلب منافعها، غير أنه يخفي حنقه وغيظه، ويتربص الدوائر لإجهاض التوجه الطموح للأمير الشاب، أو على الأقل صرفه عن مساره الذي يغيض توجه بعض دول الجوار، ولا يتسق وتوجههم التقليدي العقيم.
العمق الإستراتيجي للمملكة مستهدف، والاستدراج وارد بحسابات هي الأكثر كلفة وخطرا، والانقسام قائم بين قوى مؤمنة بهذا الطموح الإصلاحي وتحالف "الحزم السليماني"، وبين قوى منخرطة في "مشروع التفخيخ" خارجية وداخلية لهذا الطموح ولو تزينت بمسوح الحزم وتغنت بمآثره، أو آثرت الصمت المريب. قوى ممانعة لأي نوع من السقوط في براثن إيران ومشروعها التدميري في المنطقة محل الصراع والأحداث الساخنة، وقوى تبارك بحقد ذلك السقوط خدمة لأسيادها.
ما يحاك من تآمر داخلي وخارجي لا يظهر حتى رأس جليده لتخوفه من طبيعة الرد السعودي بقيادة الملك سلمان وغضبته، بيد أن هناك تحركا محموما وخفيا في دوائر عربية وغربية لكبح ووأد هذا التوجه وفرملته، ونظرة تخوفهم تزداد بمدى عمق التنسيق والتحالف التركي- السعودي، إذ تصبح مهمة المواجهة وتكلفتها صعبة إن لم تكن محفوفة بمخاطر جمة، لذلك ينتظر طابور المكر والدسائس السياسية بشراكهم على قارعة المربع السعودي السياسي، وأرقام معركة اليمن مع إيران المرغوبة وأذرعها، أملا أن تعكس ردة قوية في جدار الدولة، التي يقف على رأسها الملك سلمان وابنه الطموح، أو تعثر مشروع الإصلاح الذي ينشده هذا الأخير.
لن تشفع كل مهارات بن سلمان وكفاءته في تخطي حاجز المخاطر إن لم يتكئ على جغرافيا، وإمكانات، وتعبئة عالية الكفاءة تحول وتصيده السهل من أجهزة الشر المترصده بمشروعه الإصلاحي. كما لا يكمن التحدي الرئيس لهذا المشروع، أو الرؤية الإصلاحية فقط في تداعياتها الخارجية الإقليمية والدولية، بل في حساسية النخبة الأميرية والنخب الاتكالية المتضررة من مثل هكذا رؤية، وخشيتها أن تلامس تلك التوجهات الإصلاحية عنكبوتها الفسادي ذو الامتيازات السخية، والتي ألفتها لعقود. فهامش الامتيازات التي تحضى بها النخبة الداخلية لن تتوانى في حمايتها حال تعرضها لأي تهديدات، وأكثر أنها مستعدة للنيل من هذا التوجه متى كانت الظروف مواتية، وهو ما يجب أن يحذره الأمير الشاب، ويتعامل معه بنوع من الدهاء والحزم. وغير بعيد أن التغييرات الملكية الأخيرة في جدار سلطة الأمن والسياسة، والإعلام والدبلوماسية قد جاءت على وقع حاسة المخاطر المحدقة بالإصلاح ورائده محمد بن سلمان.
ترجمة الطموح الإصلاحي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار القاعدة الصلبة المؤسسية والثقافية وعقيدتها الإصلاحية، فهل يتكئ الأمير الشاب على قاعد صلبة مؤسسية تتسلح بعقيدة الإصلاح التي يؤمن بها، أو على الأقل أن هناك قراءة مطمئنة وفقا لمؤشرات صحيحة لفريق عمله الإصلاحي لمجابهة منظومة التحديات الداخلية والخارجية؟
ثانيا: تحدي الثقافة السياسية
إن تقنية الاتصالات وأهميتها بما تحمله من أفكار مستحدثة أضحت تمتلك قدرة خارقة، وذكية في خلخلة بنى الأنساق القيمية والثقافية التقليدية الحاكمة لمجمل السلوك الاجتماعي بعيدا عن أساسات السيطرة والتوجيه العقيم[3].
وبذلك، فلديها القدرة الخارقة في التأثير على توجهات الأفراد وتشكيل رؤاهم الاجتماعية والسياسية، ناهيك عن كونها باتت أداة سهلة لتداول المعلومة والوصول إليها وبث الإشاعة، وممارسة التحريض على نطاق واسع، وإزاء هذه الواقع بادر الأمير محمد بن سلمان استجابة لقدر الانفتاح في رؤيته الإصلاحية.
وفي ضوء هكذا عصف معلوماتي، فإن أي تغييرات كبيرة مجردة من استحقاقات الخصوصية الشعبية والنخبوية، وغير مدركة لتداعياتها هي ضربا من المجازفة، وغالبا ما تتعثر، لذلك على جناب الأمير الشاب أن تكون حساباته مدروسة، ومتفهمة لتفاصيل الواقع النخبوي والشعبي، وحسبنا هنا استعراض جملة مهمة من عناوين الثقافة السياسية والاجتماعية للشعب السعودي، المعني الأول بتلك الرؤية وهدفها.
إن جزء كبيرا من ثقافة المجتمع السعودي وربما الخليجي إلى حد ما ترعرت في ظل سلطة أبوية عطوفة، لا تتحمل استقلالية مقلقة، أو اتخاذ قرارات تزيد من مسئوليات المواطن السعودي عوض عن تقليصها، فرفع الدعم الأبوي في ثقافة معظم الشعب، وتحديدا النخب المستفيدة ليس مناخا فردوسيا، وليس حلا لمعظم تلك النخبة والثقافة التي ألفتها[4].
إن تحدي فهم ثقافة المجتمع وجاهزيته لمحاكات الرؤية الإصلاحية بإيجابية، هي الطريق الآمن لطرح الرؤى الطموحة، وحمل الناس على تجشمها، وهذا ما يثير توجس الأمير محمد بن سلمان، وكشف عنه في مقابلته مع الواشنطن بوست في مدى محاكاة المجتمع السعودي لإصلاحاته الطموحة التي لا تحدها إلا السماء[5].
فهناك من يرى أن معظم المجتمع السعودي كغيره من المجتمعات الخليجية يرغب ويأنس تجاه أي مكرمات إعفائية سواء في التعرفات، أو دعم الأسعار وما سواها، ولم يتعود بعد على أن يكون مجتمعا قابلا لتحمل جزء كبيرا من تبعات معيشته المرهقة، وأنه لم يستعد بعد ليكون مجتمعا عصاميا، ومتفهما لانحسار دور دولة الرعاية، وتعويضها بكفاءة قبضته التنافسية. وحتى مع الطفرة الثقافية الاتصالية لم تسعف في خلق مجتمعا انتاجيا معرفيا بقدر ما وفرت مجتمع معولم استهلاكيا، غارقا في التواكلية، ومتمرد عن أي التزام.
ثمة من يرى، أن هناك ثقافة سياسية اقتصادية قائمة على بعض التواكل تطبع المجتمع السعودي، بحيث تركته كلا على دولته لعقود من الزمن، ومن باب القفز على الواقع الثقافي، أن نتخلص من تلك الآفة الثقافية والسياسية بدون ملامسة خيوط النضج الشعبي والنخبوي لضمان تفاعل شعبي واسع النطاق، والتأقلم مع تلك الرؤية الطموحة[6]. .
فنجاح أي ثقافة إصلاحية، وحمل الناس عليها، ومباركتهم لها منوط بمباركة النخبة والشعب لها، وتحديدا عندما تكون رؤية حادة الطموح، وتحف تنفيذها مخاطر إستراتيجية. فأن تكون هناك إرادة قوية من أعلى هرم السلطة، بأنه حان الوقت لانتشال ثقافة المجتمع من أتون ثقافة التواكل، والجهل الحقوقي إلى ثقافة الإصلاحات الحقيقية والعميقة وفق آليات ترشيدية، وإنتاجية، فتلك خطوة مهمة وضرورية، وتحديدا إذا أولت هذه الرؤية المجتمع هامشا في محورية المشاركة، وتحمل المسئولية المناطة، وإطلاق عنان قوة المجتمع الإبداعية مع الحفاظ على الأسس الاجتماعية والسياسية للشرعية القائمة، عندها يكتب لهذه الرؤية الإصلاحية الطموحة وافر النجاح.
إن ثقافة التواكل السلبية لا تضع فقط العقبات الحقيقية على سير الحياة الاجتماعية والتنفيذية، بل وأكثر تجاهل المجتمع لأهمية المسائل الرقابية في تدبير الشأن العام، وهو ما تهدف تلك الرؤية إلى الوصول إليها، إن آفة ثقافة التواكل المتفشية في المجتمع السعودي يصعب معالجتها بدون إصلاحات اقتصادية حقيقية، تستهدف التفكير المجتمعي وفق ترسيخ تأملاته، بأن لا رفاه دون مثابرة وإنتاج ومنافسة لا تقل عن مثيلاتها من المجتمعات المتحضرة، التي انعتقت من أزماتها بصيب المعرفة، والأخذ بسبل التحديث القائمة على الشفافية والشراكة الحقيقية في مكافحة الفساد.
إن مخاطر تشبع المجتمع بثقافة سياسية ضعيفة تقوم على التواكل تساعد في تنمية ثقافة اليأس "اصبر- واحتسب" في الأوساط المجتمعية من أي تغييرات عميقة، وهذا بدوره يساعد في ديمومة تفشي ظاهرة الوصولية وثقافة "شد لي واقطع لك" بين النخب التنفيذية واستشراء الواسطة والمحسوبيات، ومافيا التنمية، وارتفاع فاتورة التنمية مقارنة بالإنتاجية على الواقع، ومثل هكذا ثقافة تيئيسية متواصلة هي أهم عقبة تواجه الرؤية الطموحة للأمير محمد بن سلمان.. فهل ثمة مستفيد من هذه الثقافة السلبية في جدار الوعي الشعبي النازف والطامح في آن؟ لا شك أن هناك أصحاب الحظوة والثقة، ومافيا التنمية، وأصحاب الشبكات الاجتماعية الضخمة، ومافيا الواسطات والمحسوبيات، وبعض بيزنس الإعلام هم أبرز الدعاة في السابق إلى تكريس تلك الثقافة[7].
فهل لدى الأمير من رؤية واضحة للتعامل بحكمة مع كل تلك التحديات في أوساط النخبة لضمان تنفيذ مشروعه الطموح داخليا لإسناده في تحديات الخارج. لذلك على الأمير محمد بن سلمان أن يعمل على تبيئة ثقافة سياسية وإعلامية واقتصادية عالية تمكنه من التغلب على ثقافة اليأس المتفشية في المجتمع السعودي.
وفي سياق رؤية الإصلاح ثقافيا، عرجت الرؤية بعيدا، بحيث لا مس مسألة تنمية الكفاءات البشرية الوطنية، من حيث تهيئة العامل أو الموظف السعودي لسوق العمل، وتأسيس شراكات مع شركات القطاع الخاص كبرامج لتأهيل دخولهم إلى سوق العمل، وتخفيض البطالة .[8]
غير أن الرؤية جانبت، أو أغفلت أي اهتمام بتنمية الجوانب الاجتماعية التشاركية مع أهميتها، على الأقل لملامسة الوعي الحقوقي بشموليته، خصوصا والمجتمع يعاني من ثقافة تواكلية لا تخدم روافع الرؤية الاقتصادية على الأمد البعيد.
يمكن القول، أننا أمام مقاربة إصلاحية تصالحية بادرت بها تأملات الأمير محمد بن سلمان تتضمن إصلاحات اقتصادية حقيقية تعود بالنفع على الطبقة الواسعة من المجتمع السعودي مقابل زهد المجتمع لأي نوع من الإصلاحات السياسية غير المرغوبة، وتخليه عن المطالبة بها، كنوع من العقد الاجتماعي الجديد. الاهتمام بالجانب الحقوقي، تجفيف منابع الفساد، نهضة، وريادة مقابل تنازل عن بعض الحقوق السياسية، كمعادلة لاستقرار الواقع السياسي والاجتماعي، وبناء صرح مجتمعي وسياسي متماسك هو ما تعنية رؤية الأمير الشاب في جوهرها ومحتواها غير المباشر برأيي.
على أنه من الضروري استمرار الحوار المجتمعي بنفس علمي هادئ، وأسلوب نقدي إيجابي، لإنضاج الرؤى والفهم حيال كافة المتطلبات التي نحتاجها لإحداث نهضة سعودية كبيرة بتطبيق مثل هذه الرؤية التي أقل ما يقال عنها أنها نوعية، وأن يستند هذا الحوار على إدراك سيولوجي، انطلاقا من أن الثقافة تتكيف دائما مع الممارسة التشاركية.
وفي ضوء الظروف الداخلية التي تعيشها المملكة والتهديدات الخارجية التي تواجهها، قد يطرأ ربما تغيير ولو كان في أسوء أحواله طفيفا لثقافة وشكل النظام السياسي وهو ما يؤدي تلقائيا إلى تطور في ثقافة المجتمع السياسية والاقتصادية[9].
ثالثا: تحدي الحوكمة واستحقاقاتها في التغيير
إن معيار نجاح أي توجه إصلاحي جاد مهما تسلح بقوة الإرادة، وفوائض الموارد الهائلة هو مدى إدراكه لضرورة إنزال معايير الحوكمة في واقع الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، لضبط سير منظومة الإصلاحات وتحديدا في جانب النفقات العامة، وترشيدها، ووضع الرقابة الفاعلة موضع التنفيذ لضمان أن كل سير العملية الإصلاحية تمت وفق معايير الحوكمة واستحقاقاتها الرقابية.
كان ممتعا بشأن البيروقراطية عندما سمعنا الأمير يقول حينها: "نحن أعداء البيروقراطية السلبية، احنا نبغي بيروقراطية سريعة التي تساعد على اتخاذ القرار وتنجز القرار في الوقت المناسب، في ضوء خطوات إعادة الهيكلة الإدارية التي وجه بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان".ومشيرا إلى توجه المزاوجة السريعة بين الإصلاح السريع والإصلاح الجذري، إصلاح سريع في العام 2015- وإصلاح جذري في العام 2016.
نحن هنا لسنا في معرض التشكيك في قدرة الأمير، عدا أن السعودية مثلها مثل الكثير من الدولة النامية ما زال الفساد بتفاصيل ثقافته ينخر بنيان بنيتها الإدارية رغم الجهود الكبيرة في إنشاء المؤسسات الرقابية، وأهمها ديوان المراقبة العامة السعودي. والحوكمة من خلال التركيز على كفاءة الانفاق بمعاييره الدقيقة والمختلفة وفق مؤشرات النتائج العامة والخاصة، وفق موازنة تطبيق البرامج[10].
والتي يتم من خلالها المحاسبة الدقيقة عن الأداء[11]. كما أنها تعني اكتشاف أي انحرافات عند التنفيذ مرجعها إلى كفاءة قصور الانفاق "الإهدار"، أو إلى داعي اختلاس المال العام، ولتمكين ديوان الرقابة العامة من القيام بمهامه بفاعلية لا بد من تفعيل نظاما جيدا للقياس يمكنه من الحكم على فعالية الأنشطة والعمليات اللازمة لتحقيق الأهداف، وذلك لن يتأتي بدون إعمال مبدأ الشفافية والمساءلة "لتحقيق" و"تأكيد" ترشيد الإنفاق الحكومي من واقع أرقام الموازنة العامة، كونها الأساس في صناعة القرار المستقبلي الطموح للأمير محمد بن سلمان، والأداة المهمة في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والاستدامة طويلة الأجل. وتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي والنمو عالي الجودة والحفاظ عليهما.
معلوما، أن الحوكمة تعني تفعيل آلية الرقابة الفعالة والمساءلة، لذا، فإن سلامة ترشيد الانفاق العام تتطلب إدارة جيدة وطموحة لموارد الدولة، وتعبئتها بصورة جيدة، ومؤكدا، أن حضور الرقابة والمساءلة عن كيفية الصرف هي بمثابة الحارس الذي يحول وكل أشكال الفساد، وهدر المال العام. كما أن أهمية المساءلة تأتي من زاوية أن أي نظام رقابي لا يأخذ بعين الاعتبار أمر المساءلة والمحاسبة "الفاعلة" يظل نظاما ناقصا وفاقدا لمصداقيته الرقابية[12].
في تفاصيل الرؤية الإصلاحية، ومعالمها الرئيسية، تستشف أن هناك رغبة عارمة في إيجاد حلول واقعية للاختلالات الهيكلية القائمة، لكن، هل يكفي الرغبة الجامحة والطموحة في ابتلاع المشاكل؟ أم أنا تفاصيل الواقع يقول بخلاف ذلك؟ الرغبة شيء وتنفيذ الرؤى بكل تفاصيلها تواجه عوائق قد لا تسعف حتى الإرادة الحديدية بتخطيها. أعطى الأمير مؤشرات وضمانات بشأن توجهه الإصلاحي عند سؤاله عن مسألة تخصيص أرامكو والفوائد المتحققة، بادر بالقول "أهمها وأول شيء الشفافية".
من واقع المقابلة بشر الأمير بأن أرامكو بعد طرح أسهمها في السوق غير أرامكو التي ظلت معلوماتها وأرقامها مغيبة تماما عن المجتمع، وأنها سوف تصبح مادة رقمية ليس فقط في متناول الأبناك، بل وحتى المفكرين والمحلليين، بمعنى أن الشعب سوف يكون قادرا على المتابعة والمراقبة من واقع صعوبة إخفاء سر على مجتمع معولم قادرا على الوصول المعلومة بطرق مختلفة. المؤشر المهم في الرؤية السعودية الإصلاحية، هو وعود التمكين غير المباشرة للشعب من خلال الرقابة الشعبية التي تعني نوعا من الإصلاح السياسي، الذي تتطلبه نجاح الإصلاحات الاقتصادية وديمومتها، وهذا هو سر التحدي الذي سوف يواجه الأمير من واقع ثقافة المجتمع المتواكل سياسيا، وممانعة النخبة المستفيدة من واقع الفساد. وفي ضوء هكذا تحديات لن تأتي هذه الجهود الإصلاحية ثمارها بدون حضور فاعل لهيئة مكاحفة الفساد، وديوان المراقبة السعودي، والتخطيط الجيد بحيث لا تتضارب خطواته، وإعادة النظر في المدخلات البشرية الكفوءة والمخلصة لنجاح الرؤية الإستراتيجية للأمير الشاب، وتحصينها من أي مخاطر داخلية محتملة، وفي سياق المؤشرات المهمة في هذا الجانب تلك التغييرات التصحيحية الاحترازية المتتابعة، والعميقة في مفاصل الوظيفة العامة للملك سلمان في الجوانب المدنية والعسكرية والدبلوماسية، وأهمها إعفاء وزير الخدمة المدنية من منصبه وإحالته للتحقيق على أثر تجاوزات خطيرة ارتكبها، كما طال الإعفاء قائد القوات البرية من منصبه، وتعيين بدلا عنه الأمير فهد بن تركي، وفي الجانب الدبلوماسي أعفى سفير المملكة لدى واشنطن، واستبدله بالأمير خالد بن سلمان.
كما عين الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزيرا للدولة لشئون الطاقة، كعين حارسة للمورد الإستراتيجي. وطالت التغييرات إعفاء وزير الثقافة والإعلام عادل الطريفي، واستبدله بعواد بن صالح العواد. ناهيك عن جملة من القرارات المهمة في مراكز الدولة الحساسة، كإنشاء مركز للأمن الوطني وربطه بالديوان الملكي، وتعيين أحمد عسيري كنائب للاستخبارات العسكرية مع إحالت النائب السابق للتقاعد. كل تلك القرارات وغيرها تقرأ في ضوء المخاطر المحدقة برائد التغيير الإصلاحي، وأن هناك تدابير احتياطية لتحصين رؤية الإصلاح الجديدة، وضمان نجاح روافعها أمنيا وعسكريا واقتصاديا[13].
رابعا: التحديات الاقتصادية من واقع الرؤية الطموحة
على خلاف الدول المتقدمة، فإن الدول التي يشكل النفط جزء كبيرا من مواردها تكون أكثر تأثرا بمتغيرات السوق في خططها الإجتماعية والاقصادية، فالإصلاحات لا تشهد انتعاشا في ظل ازدهار متوسط أسعار النفط[14].
كما أن تهاوي أسعار النفط وتأثيرها على مسيرة التنمية في ظل ارتفاع نسبة المخاطر تدفع أحيانا بقوة نحو ضرورة الإصلاحات وتقليص النفقاط والبدلات وغيرها من وجهوه النفقات.
تأتي هذه الإصلاحات الذي يتبناها الأمير الشاب، ويدفع بمفرداتها بقوة موقعه في السلطة السعودية ربما في ضوء "رؤية فريدمان"، الذي ربط بين أسعار النفط ووتيرة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، فكلما ارتفع متوسط سعر النفط الخام، فإن حرية التعبير والانتخابات واستقلال القضاء وسيادة القانون تتعرض للتآكل، وعلى العكس من ذلك فإن انخفاض أسعار النفط يدفع الدول النفطية نحو نظام سياسي ومجتمع أكثر شفافية، هذه القاعدة طبعا لا تنطبق على الدول الراسخة في الديمقراطية. فارتفاع أسعار النفط والغاز في غالب الدول النامية يساهم في دعم التسلط والفساد[15].
لا يكفي الأمير الطموح أن يبادر فقط إلى بعض الإصلاحات الاقتصادية الترشيدية والتمويلية لوقف نزيف الاحتياطي النقدي وتآكله، بترشيد النفقات ورفع بعض الدعم عن الخدمات والسلع لتوفير عشرات المليارات، وخصخصة 5%من أسهم أرامكو كأهم إرث للدولة السعودية لتحريك السوق الإستثمارية، سمو الأمير معني بالإجابة على أسئلة مهمة وعميقة في جدار البناء الاقتصادي السعودي، فما هو فاعل بأرباب الفساد التجاري الإستثماري في الأوساط النافذة؟ والامتيازات التي تحضى بها، والضرائب التي تتهرب منها، واستحقاقات الشبكة المصالحية الكبيرة، ولعبة التسوية التي تمكنه من إنفاذ طموحاته الإصلاحية، فضلا عن شلل أو غياب المؤسسات الرقابية، لن أضع الكثير من الأسئلة حتى لا أبدو مثبطا أكثر من كوني معجبا وخائفا، بشأن الرؤية الطموحة.
1- أهم معالم الرؤية الاقتصادية
قبل الخوض في الصعوبات التي تواجه الرؤية الطموحة يجب أن نلامس رؤية الأمير، التي ظهر بها من خلال مقابلته من زاويتها الاقتصادية، حيث بدى في حديثه أمام شبكة "بلومبيرغ" أننا أمام أمير يمتلك جرأة الطرح في تقديم رؤية بديلة لا تعبأ بإثارة أي ردود داخلية، ويدرك بعمق ما يتكلم، وبلغة مهنية واحترافية دقيقة عندما استهل مقابلته بتشخيص دقيقا وعميق للداء الذي أصاب بنية التنمية في المملكة في تركيزه على أهمية فك الارتباط التنموي بالنفط، وسخف الاعتماد عليه في معركة المستقبل. مستدلا بمحاكات التاريخ، قائلاً: "الملك عبد العزيز والرجال الذين عملوا معه في كل أنحاء المملكة، لما أسسوا دولة ما كان فيه نفط. أسسوها بدون نفط وأداروا هذه الدولة بدون نفط، وعاشوا في هذه الدولة بدون نفط"، مؤكدا أن النفط ليس من دستورنا المستقبلي، وحالة الإدمان الخطيرة عطلت التنمية في كل القطاعات، لذلك لن نعول على أسعار النفط وتقلباتها بقدر اهتمامنا بأسس التنمية الحقيقية. هذا ما يمكن قراءته من مقابلة الأمير الطموح[16].
وفي أبعاد الطموح ذهب الأمير بعيدا، فهو يسعى إلى تميز وريادة تتجاوز حدود الإقليم، بمعنى الوصول إلى العالمية من خلال مؤشرات البيانات الأولية لصندوق استثماري يسيطر على أكثر من 10% من القدرة الاستثمارية في الكرة الأرضية. حدود تأثيره الكرة الأرضية وليس فقط المنطقة العربية [17].
وهنا نضع أبرز ما تضمنته الرؤية؛ " عند ظهورها رفع مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي إلى 65 في المئة، ورفع نسبة الصادرات غير النفطية إلى 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى زيادة نسبة الاستثمار الأجنبي من الناتج المحلي إلى 5.7 في المئة من 3.8 في المئة حالياً، ورفع مساهمة قطاع التعدين في الناتج المحلي الإجمالي إلى 97 بليون ريال بحلول العام 2020..
وزيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية من 163 بليون ريال إلى تريليون ريال، السعي إلى تأمين 9.5 غيغاوات من الطاقة المتجددة في 2023، ورفع مساهمة المنشآت الصغيرة والمتوسطة من 20 إلى 35 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، ورفع نسبة التمويل المخصصة لتلك الشركات من خمسة في المئة الآن إلى 20 في المئة، إضافة إلى معالجة البطالة بتوفير مليون فرصة عمل، ورفع مشاركة المرأة في سوق العمل[18].
فالرؤية الإصلاحية تستهدف فائض للمال من إيرادات غير نفطية، واستثمارها في الأرض والإنسان من باب الجمع بين الإكتناز والاستثمار، وعائده بطيء ولكنه طويل الأمد، كما أن تلك الرؤية تحاول الاستثمار في العلم كما تفعله الدول الغربية المتقدمة، فيعمل الشباب ليدخر من ناتج عمله وكفاءته ولا ينتظر الهبات المخدرة للطاقات والحياة[19].
وقد كشف الأمير في حوار مطول وشفاف مع وكالة بلومبيرغ أنه ينوي خصخصة 5%من شركة أرامكو مقابل زيادة الأصول الاستثمارية غير النفطية، وتكوين أكبر إئتلاف صناعي في العالم، إضافة إلى إصلاحات خفض جزء من الدعم عن أسعار البنزين والكهرباء والمياه، وفرض رسوم ضريبية على بعض السلع الكمالية، لتوفير ما يقارب 100 مليار دولار مع حلول العام 2020[20].
بعد حوالي أكثر من عام من تدشين الرؤية الإصلاحية رسميا، تحدث الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع الإعلامي داوود الشريان، بأن المملكة استطاعت أن تحقق مؤشرات مهمة وإيجابية رغم انخفاض أسعار النفط، حيث تم مضاعفة الإيرادات غير النفطية، وانخفاض نسبة العجز في الموازنة بنسبة 44%خلال الربع الأول من 2017 وأن تلك الإصلاحات جنبت البلد الانكماش المتوقع في كل المؤشرات، وأن هناك مشاريع تنموية قائمة تستهدف الحد من البطالة وانخفاضها إلى أقل من مستوى 7%وفق رؤية 2030، وأن هدفه القادم هو رفد صندوق الاستثمارات، واستثماره في تنمية استثمارية واسعة في قطاع التصنيع والإنتاج وخصوصا منه صناعة السيارات والانتاج العسكري الذي يستنزف ميزانية الدولة بشكل مهول، وسوف يتم الإنفاق عليها ما يقارب 50%من صندوق الاستثمارات المحلية. كما أشار إلى أن عودة الانفاق على البدلات هو نتيجة طبيعية لتحسن مستوى الإيراد[21]، وباعتقادي أن عودة الانفاق على البلدات هو نوعا من إعادة تقييم مرحلي للرؤية ومحاكاتها مبنية على تذمر في أوساط قطاع الموظفين .
2- تحديات الرؤية اقتصاديا
إن الإصلاحات الاقتصادية التي بادر بها الأمير محمد بن سلمان في إطار رؤيته الطموحة 2030 من قراءة أولية لمؤشراتها ومعطياتها، التي اتسمت بالشفافية تعطي انطباعا بأننا أمام خطة طموحة جدا ومدروسة، وأعتقد بأنه من المناسب في ضوء التحديات والمعطيات الخطيرة، والمنعطفات التي تمر بها الدولة السعودية والمنطقة أن يقوموا بإصلاحات هيكلية، وأن تكون لهم رؤية متقدمة وطموحة تتوازى وحجم التحديات، سوى أن تلك الطموحات مرهونة ببقاء اعتمادهم على النفط بدرجة أساسية خلال العشرين سنة القادمة، وإن قاموا بتنويع مصادر الدخل، بمعنى أن الحديث عن الفطام من تخدير النفط ما زال مبكرا.
نعم، هناك تحديات كبيرة اقتصادية وسياسية، ولكن وجود فائض كبير لدى المملكة العربية السعودية يمكنهم من التغلب عليها في ظل وجود إرادة قوية شابة، مسنودة بحوكمة فاعلة كما أشرنا سابقا. بمعنى أعمق أن الحوكمة هي أهم تحدي كما أشرنا سابقا في نجاح الرؤية، ودالة مرتبطة بأي نجاح مستقبلي من عدمه.
في ضوي معطيات علم الاقتصاد، أن فريق الأمير كانوا يتوقعون أن المملكة أمام دورة اقتصاد "انكماشية" ليست بالحادة، ناتجة عن تهاوي أسعار النفط بصورة مريعة، ناهيك عن التزامات المملكة المتزايدة على وقع الحروب والأزمات التي تعصف بالمنطقة، وأن رؤية الملك الشاب قائمة على معالجة دورة الانكماش، واستنزاف الاحتياطي، بحزمة إصلاحات اقتصادية استثمارية وإنتاجية "إنعاشية"، والتركيز على الموارد المتجددة ممولة من الموفورات والمدخرات السابقة، وأن خصخصة جزء يسير من شركة أرامكو يأتي في سياق مواجهة دورة الانكماش، والعجز الخطير، بيد أن التخوف الذي يمكن فقط لفت الانتباه نحوه هو أن إطلاق يد السوق الخفية في تحريك السوق الداخلية اقتصاديا يجب أن يكون محروسا بعين البصيرة، والذكاء، والعمق الاقتصادي، ومدركة لواقع المكمنات الاقتصادية للبلد، حتى لا يسهل اقتصاديا التلاعب بمتغيراتها الرئيسية حال غزو سوق أسهم أرامكو خارجيا، فتتكرر تجربة الأزمات التي مرت بها دول شرق آسيا.
والسعودية هي هدفا مرغوبا ومستهدفا أكثر من غيرها من الدول، ولا بد أن تحتاط أي رؤية وتدرس فرصها ومخاطرها بعناية بالغة، ووفق أرقام صحيحة، ورؤية اقتصادية ثاقبة بكادر يؤمن حقيقة بعقيدة الإصلاح، بصورة أوضح، أن لا نضع رؤية الإصلاح في سلة الخبير الغربي فقط!!فهناك قلق من الإفراط في الاعتماد على المستشارين الأجانب، خصوصا من لا يعيرون اهتماما للقضايا الثقافية والسياسية الحاكمة.
إن إطلاق يد السوق الخفية لتنمية الاقتصاد الاستثماري لها فعاليته النسبية وميزته اللامركزية، لكن ضبط عمل اقتصاد السوق الشارد والمشؤوم أحيانا، وإحضاع وحشيته الطبيعية في حق الفقراء لن تكون أحيانا في المتناول، وأكثر يمكن أن يكون أداة مخيفة للسلطة في خدمة النخبة المالكة والنافذة، وعجزه عن تقليص عدم المساواة، وربما تستحق عدم ثقة رجل الشارع إذا عكست الحدس المضطرب لهذه الظاهرة. فهل يمكن أن تحقق هذه الرؤية إعادة توزيع لملكية الرساميل؟ والنفوذ الطاغي للمساهمين وأتباعهم على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية[22].
صحيفة "سبوتنيك انترناشيونال" تناولت وصفة خصخصة جزء من شركة أرامكو بأنه قرار تاريخي، لكنها ترى أن قرارا تاريخيا بهذا الحجم هو تحدي كبير في أوساط العائلة المالكة نفسها، حيث يتطلب وقتا كافيا للأمير محمد بن سلمان وابن عمه، وائتلافا هائلا لدعم مثل هذا التوجه تقتضيه المصلحة الوطنية، كما أن هناك تحديات كبيرة تعترض هذا التوجه من قبيل أن اكتتاب أسهم الشركة يتطلب مستوى من الشفافية غير مسبوق للعائلة الحاكمة، وإلا فإن هناك مجازفة حقيقية للمستثمرين في شراء الأصول السعودية وفقا للدكتور شيريدان "تيتمان" مدير مركز الطاقة والابتكار في جامعة تكساس في أوستن، معللا ذلك بأن المملكة العربية السعودية بلد غير مستقر سياسيا مثل أي مكان في العالم، وتلك عقبة في وجه المستثمرين لا يمكن القفز عليها لشراء مثل تلك الأصول مهما كانت تبدو فرصة مغرية. ويرى أنه من غير المحتمل أن المملكة العربية السعودية سوف تخفف سيطرتها على الشركة بعد خصخصتها ذلك. وأن هناك تحالفا وثيقا بين سياسة الشركة وأهدافها وسياسة الحكومة السعودية. ناهيك أن هناك من سيعتبر خطوة مثل تلك بأنها علامة على الضعف تجاه أعداء المملكة العربية السعودية[23].
3- ضمانة الإصلاحات الاقتصادية مؤسسيا
النهج القيادي الجديد في المملكة يمثل نقلة نوعية مقارنة بالنهج التقليدي السابق، عدا أن الحديث عن إصلاحات اقتصادية بمعزل عن تطوير البنية المؤسسية للنظام تظل إصلاحات ناقصة المحتوى، وفاقدة للمعنى، وإن بدى الأمير واثقا من طموحه في مقابلته بقناة العربية، كرجل عملي، ويتابع على الأرض ويغوص في عمق العديد من المشكلات، ويميل للمكاشفة في حديثة عن أخطاء متراكمة في إدارة شؤون البلاد، على الأقل ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والتنموية، وعدم الشفافية في التعاملات الحكومية خلال عقود طويلة، وإن لم يطرق هذا الباب بشكل مباشر.
لكن ثمّة من يرى أنّ الاصلاح الاقتصادي لا بدّ أن يترافق مع إصلاح مؤسسي سياسي وإداري، وعلى صعيد حقوق الانسان و الشفافيّة ومكافحة الفساد[24].غير أن معطيات الواقع مرحليا تحتم الأخذ بالممكن، وعدم تجاوز مفردات الواقع، إذ لن نساعد هذا التوجه الجاد إذا ما تطرفنا في المطالبة بإصلاحات واسعة وجذرية في بنية النظام السياسي السعودي، كأن يكون هناك إصلاحات سياسية عميقة في ظل الأوضاع المحيطة بالمملكة والخطيرة[25].
وحده الدفع المؤسسي كفيل بأن يزلزل البنى السلطوية الفاسدة للنظام الاقتصادي بشكل مستمر. خصوصا عندما تصبح المؤسسة هي من تصوغ الأشكال المتنوعة لتنظيم المؤسسة والأسواق التي ترتبط بها المصالح المختلفة. إن مسألة المؤسسية مركزية لبناء مجمل النظام الاجتماعي، إذ أن الأدوار الاجتماعية التي تتحدد توضح العلاقات الاجتماعية والتوزيع غير المتساوي نسبيا للسيطرة على الثروات والقوانين[26].
نتفهم أهمية الربط الجدلي بين التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية كرؤية مكتملة، سوى أن رؤية اقتصادية بهذا المطوح تستحق التشجيع، والبناء عليها مستقبليا، فهذه خطوة مهمة وعميقة في مسيرة الإصلاحات المنشودة، وما تقتضيها نجاح هذه الرؤية من تغييرات في مراحل أخرى. بدون شك بأن من بادر بشجاعة، وثقة لمثل هذه الخطوة الإصلاحية أن يعززها بإصلاحات مؤسسية تحفظ روافعها البنيوية، وتضمن ديمومتها.
وهذا بدوره يدحض المشككين في أن هذه الرؤية في جانبها الاقتصادي لا تعدو كونها نوع من بث الحياة في مفاصل هيكل الدولة المتهالك، وتجديد يعيد للدولة بعض الحيوية التي فقدتها نتيجة لحالة الفساد الطويلة، ورتابة الآلة التقليدية، وعشوائية التدبير، وسوء التخطيط، وهذه المساهمة الإصلاحية هي نوع من إعادة إنتاج هيكلية للنظام للحفاظ عليه. عمق الإصلاحات وشفافية أرقامها، ومؤشراتها الاقتصادية الإيجابية التي أفصح عنها الأمير محمد بن سلمان بإرادته القوية الدافعة لها يجعلنا نتثبت بأننا أمام إصلاحات طموحة أكثر من كونها إعادة إنتاج بنيوية للنظام تسعى لتجديده والحفاظ على ديمومته، وبقاءه، مع الإقرار بأن جملة من الصعوبات تعترض سير هذه المسيرة الإصلاحية، ناهيك عن الحاجة الماسة إلى دراسة مفرداتها في ضوء الواقع السعودي كما هو ، وليس كما يجب أن يكون.
4- الأمن كدالة في الاقتصاد الاستثماري
نقطة في غاية الأهمية لا يجب أن نغفلها، وقد غابت في تفاصيل الرؤية، وهي معادلة الأمن الداخلي بتأثيراته الداخلية والخارجية، كدالة مفرطة الحساسية في طبيعة التنمية الاستثمارية وتحديدا منها الخارجية، وهذه هي الطامة التي يمكن أن تبدد أي طموح، وتذهب بجهوده أدراج الرياح، ووضع المملكة ليس مثاليا في الجانب الأمني شبه المخترق، أو الذي تستميت قوى إقليمية مثل إيران وأذرعها بجهود محمومة لنسف بنيته، ولك أن تتخيل أن هناك قوى دولية تتقارب مع إيران وتتعاون لتفخيخ ساحة المملكة أمنيا بتحريك الخلايا النائمة والمريضة، انتقاما لمثل هذا الطموح الحاد في رؤية قوى الهيمنة، لذلك لا بد لإدارة بن سلمان أن تتسلح برؤية أمنية طموحة تتوازى وطموح الرؤية الإصلاحية، وتضع الأمن كأولوية لنجاح مدماك التنيمة.
خامسا: تحدي العمق الإستراتيجي
أي قراءة طموحة للمستقبل لا تعير انتباه للمحيط الجغرافي وفق أرقام حساب إستراتيجية حقيقية، هي تذهب بعيدا عن أسباب النجاح، بل وتتجاوز منطق المجال الحيوي بكل معانيه الأمنية والدفاعية، لذلك فأي خطوات مهمة لتجاوز لغة الضعفاء التابعين المستسلمين لقدر الهيمنة الخارجية، هي بعد الإرادة الصلبة، والحدس الناضج معنية بتوفير عمقا إستراتيجيا يستعصي وأي احتمالية للتفكك.
كشف الأمير أن نفسه الإقليمي يتكئ على تنافسية عالية في الرؤية تقوم على أرضية صلبة. حيث ترتكز الرؤية التي عكستها رؤيته الإصلاحية على جانب الفرادة الشديدة في التنافسية، تقوم على ثلاثة مرتكزات، يؤكد فيها الأمير على أنه لا أحد ينافسنا عليها، وهي: العمق العربي والإسلامي (بوجود الحرمين الشريفين وكون الجزيرة العربية منبعاً للعروبة)؛ والقوة الاستثمارية العالمية (بوجود الإمكانيات الهائلة والعقلية الاستثمارية السعودية)؛ والموقع الإستراتيجي، بكون المملكة تربط بين ثلاث قارات عبر أهم ثلاثة مضايق بحرية في العالم ومرور البضائع بمئات المليارات[27]، وبدوري أقول أن ذلك ضربا من الحقيقة الفاقدة لبعض من محتواها الحقيقي، في ظل المخاطر المحدقة، هذا الموقع، والعمق الإستراتيجي ليس محصنا، وهناك قوى إقليمية تخترقه بقوة، وتتخلل معظم بنيته، وهو غير محصن تجاه أي من الفاعلين الدوليين أو الإقليميين، فإذا كان العمق الخليجي ذاته مختلا ومخترقا، فكيف الحال مع عمق عربي وإسلامي تعبث المخابرات الإقليمية والدولية بكل تفاصيله. يجب أن لا نطلق الآمال على عواهنها.
وبلمحة جغرافية لخريطة المملكة العربية السعودية، ومجالها الحيوي، فحزامها الجنوبي بكل معطياته الأمنية والإستراتيجية يقول أن اليمن هي العمق الإستراتيجي، والظهر والمدد، الذي يمكن أن تعول عليه إزاء أي طموحات كبيرة تتجاوز حدود الإقليم، فالسعودية تستطيع بما لها من تأثير فكري وقبلي أن تقلب موازين القوى في اليمن بما يخدم عمقها الإستراتيجي والأمني[28]، وهي مستمرة في ذات التوجه الإستراتيجي، سوى أن هناك حلقة كارثية في لعبة المخاطر المرتبطة بالعمق الإستراتيجي الجنوبي للملكة العربية السعودية منبعها دول، ظاهرها أنها دول تبحث عن غريزة الهيبة، لكنها في حقيقتها هيكل صوري هش، ومخترق، ومنطقة رخوة في الجسد الخليجي والعربي، تعبث بمقدراتها المخابرات الغربية، وتسيء استخدامها في غير صالح تحصين العمق الإستراتيجي، الذي يطمح إليه بن سلمان، بل وتهدد بنسف بنيانه من قواعده إن لم يتنبه لهذا الخطر، ويتعامل معه بنفس بالغ الحذر، لنضع الحروف على نقاط الحقائق مشروع الأمير بن سلمان طموح، وغير مرغوب لبعض قوى الهيمنة، وهذا ما دفع سابقا لتقارب غربي إيراني في المنطقة لوأد هذا الطموح تتولى بعض الدول العربية المخترقة تنفيذه، واليمن هو مربع الاستدراج، تدمير الوحدة والشرعية بفك ارتباط الجنوب، وتسليم الشمال لوكلاء إيران لتنفيذ مهمة الإطاحة بمشروع بن سلمان. ولمجابهة هذا التحدي فلا يجب أن يبقى هذا العمق اليمني مخترقا ومكشوفا، ومهتكا أوصال ولاءاته، أو منخورا بعمق التأثير الإيراني، فتلك طامة العمق الإستراتيجي السعودي، التي لا تؤهلها لأي دور قوي حتى على مستوى المنطقة، ناهيك عن تهديدات خطيرة لا تسعف كل تحالفاتها العربية والدولية أن تحول وتبديد مخاوفها المتفاقمة.
إن حجم قوة المعركة وضراوتها، وتكاليفها الباهضة، واستماتة لاعبيها في حسم المعركة كلا لصالحه، ناهيك عن موقع اليمن الإستراتيجي، وتضاريس بنائه تفي ب"أن أي مؤشرات تراجع لأحد أطراف الصراع يعني خسارة كبيرة في رصيده الأمني والإستراتيجي"، وسوف ينعكس حتما على بؤر المواجهة الأخرى في المنطقة سواء في سوريا أو غيرها من مواقع التدافع، وعلى هيبة الحضور، والنفوذ، والتأثير، والمصالح. وبما أن ميزان المعركة بدأ يرجح لصالح الشرعية والتحالف العربي والإسلامي بقيادة السعودية، وحصار الانقلابيين وتحديدا في الساحل الغربي وباب المندب، فمن الطبيعي أن ذلك خصما من رصيد النفوذ الإيراني، إن حضرت إرادة الحسم لقطع دابر الخطر الإقليمي بكل عناوينه، والقوى المتربصة خلفه[29].
لذلك لا مجال ولا خيار إلا أن تكون اليمن عمق إستراتيجي غير قابل للتفكك والتقسيم والتفتيت، وبدون ذلك فالحديث عن أمن المملكة، وقيامها بدور لا يحده السماء لا معنى له بدون تأمين حقيقي لهذا العمق. على المملكة أن تكون حاسمة تجاه أي عبث بالأمن الإستراتيجي لها في اليمن، أو تشجيع على التمرد على شرعية الرئيس هادي أيا تكن تلك الجهة لأن ذلك يؤذي المملكة، وينسف شرعية التدخل من أساسه، الذي جاء على أثر دعوة من الرئيس الشرعي للبلد عبدربه منصور، عدا أن كارثة التقسيم والفوضى لو سمح الله هو انتصار لأذرع إيران في اليمن، ولن تتحمل تبعاتها دولة مثل السعودية، وتحدي خطير سوف يصيب رؤية الأمير محمد بن سلمان بمقتل.
فيمن موحدا، هو حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لا لمصلحة اليمن، بل منظومة الأمن الخليجي والسعودية أولا، خصوصا في ظل التمدد الإيراني القائم. إن استمرار الانقلاب في صنعاء والأنشطة الانفصالية في الجنوب يهدد الشرعية، وعمليات التحالف برمتها. ولا خيار سوى دعم الشرعية المطلق لعودتها إلى صنعاء. حاسة الأمير معنية بالتنبه لبعض الحلفاء كما الأعداء سواء بسواء، فهناك من يضطلع بأدوار هي الأكثر خطرا على مستقبل المنطقة، وربيع إصلاحات بن سلمان مستهدف أكثر من غيره بأدوات هي أكثر خطرا وفتكا.
الربط بين نجاح توجهات بن سلمان الإصلاحية وأهمية تأمين العمق الإستراتيجي نجد بعض إيحاءاته في مقالة نشرها مدير مشروع الاستخبارات في "معهد بروكينجز" على موقع “المونيتور” الأمريكي، حيث أوضح أن السعودية وشركاءها في التحالف مصممون على حسم معركتهم في اليمن، والسيطرة على صنعاء بعد أخذها من يد الحوثيين.
معللا سبب إصرار السعودية على حسم المعركة في اليمن مرتبط بالأمير محمد بن سلمان، فتحقيق طموحاته في الوصول إلى عرش الملك مرهون بتحقيق انتصار ساحق في اليمن.ودون ذلك فكل الترتيبات التي يجريها للوصول إلى طموحه سوف تذهب هباء[30].
لا شك أن الحدود الشمالية تعني الكثير في العمق الإسترتيجي السعودي، سوى أن اليد الإيرانية ومن يتساوق وسياساتها في المنطقة قد عبثت تماما بذلك العمق، ونخرت أسسه، وأضحت منطقة رخوة وخطرة في جدار العمق الإستراتيجي العربي والسعودي على وجه التحديد، وبات يشكل رعبا إستراتيجيا يصعب السيطرة على زمامه في المدى المتوسط في ظل معطيات تجاذب إقليمية ودولية كبيرة، ناهيك عن وضع مشتبك ومتداخل الكل يلعب فيه، وحسابات السيطرة عليه كبيرة لن يكون بمقدور السعودية، وحتى مع تركيا الحليف إمكانية احتواء هذا العمق أو التأثير فيه لمصلحة العمق الإستراتيجي لكلا البلدين. عدا أن لعبة الانجرار أحيانا، والاستقطاب الحاد يقود إلى حرق كل السفن إن لم تكن هناك تفاهمات تقود إلى تسوية مرضية، عدا أن الموقف الوسطي أحيانا لا يسعف في تجنب المخاطر المدمرة ويستلزم الحسم مهما كانت التكلفة[31]. بعض المؤشرات المهمة في اختراق حاجز المخاطر في الحدود الشمالية مع العراق ببعض التفاهمات الدبلوماسية مع حكومة العبادي في ضوء حرص الجانبين على تحسين علاقاتهما تحت وقع المخاطر الأمنية وضرورة إيجاد نوع من الشراكة المستقبلية.
الوضع الإستراتيجي الشمالي للمملكة مازال مخلول أكثر مما يتوقع الكثيرين، ومخاطر انهيار حزام بنيانه كبير على المملكة، ولذا يمكن القول أن العمق السوري هو شوكة مؤلمة في خاصرة الطموح للأمير بن سلمان، ولا بد من استعاضتها بعمق "خليجي محصن" ويمني لا يقبل التفكك استعداد لمعركة المستقبل من قاعدة إستراتيجية صلبة.
لكن في المجمل يمكن القول أن الأمير بن سلمان قد نجح إلى حد ما في شد الحزام الإسلامي وتحديدا في شراكته الإستراتيجية مع تركيا وباكستان وهما ضلعان قويان، وفتح علاقات شراكة استثمارية قوية مع الصين كخيارات بديلة أمام الضغوط الروسية، كما استطاع بن سلمان بتأثيره في زحزحت الموقف الأمريكي لصالح إسناد المملكة في صف معركتها خصوصا مع إدارة ترامب المعادية للتوسع الإيراني، مع أن المواقف الأمريكية تظل محل نظر وتأرجح وفقا لمتغيرات المصلحة، وحرصها على إبقاء بؤر توتر كأوراق ضغط. بيد أن الخلل الخطير يكمن كما أشرنا في الجلد السياسي العربي الملون.
استحقاقات العمق الإستراتيجي لم تغيب عن بن سلمان، في مصر حيث يقع النظام الأكثر عبئا في إستراتيجية العمق السعودي، ومستمر في دعمه وهذه قناعته التي يمكم أن يكون مصيبا بها مرحليا، لكن من وجهة نظر تحليلية أن تمويل هذا "الغول" المرهق بمليارات الدولارات ليتنفس الحياة لا يضيف الشيء الكثير في معادلة الدفاع المتسلحة بعقيدة الإصلاحات السلمانية، فهو حليف متلون وفقا لمؤشر الدعم، فقط ربما شراء سكوته ومحاصرة خطره، وفي أحسن الأحوال ينافق سياسيا كداعم للمملكة بينما هو يغرد خارج السرب السعودي.
سادسا: المخاطر الغربية إزاء التوجهات الإصلاحية
لمع نجم الأمير محمد بن سلمان وعمق تأثيره في رافعة القوة السلطوية السعودية في فترة تتسم العلاقات الأمريكية السعودية بالبرودة، وربما الاضطراب، الناتج عن غياب الانسجام والرؤية الموحدة لمسار الأحداث في المنطقة، خصوصا بعد تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، زاد من تدهور العلاقة طبيعة التقارب الأمريكي-الإيراني، وتداعياته الخطيرة على أمن المملكة وعمقها الإستراتيجي، مما حدى بالأمير محمد بن سلمان أن ينتهج سياسة تنم عن الثقة والتجديد في الإدارة، وأسلوب التعامل مع الآخر، لا تعبأ في ظاهرها للأمريكان، ولا تضع اعتبارا لحساسية حساباتهم المفرطة لتغيير في بلد مثل السعودية، وتداعياته على مصالحهم الحيوية.
إن تركيز الأمير على أهمية استثمار التاريخ في رؤيته الطموحة، وعناية فائقة بالإرث الحضاري. مع التشديد الواضح من قِبل الأمير على أن "التاريخ الإسلامي هو أهم مرتكز ومنطلق لدينا"، ولدينا عمق حضاري وقيمي لا يضاهيه أي تاريخ أو حضارة" تلك الإشارات يمكن أن تقرأ من قبل الآخر الغربي بسوء نية وسبق مخاوف، والمصالح الحيوية الإيديولوجية سوف تكون حاضرة في جردة التعامل الحاد مع أي طارئ أيديولوجي يوحي بتهديدات للغرب ومصالحه وتحديدا إسرائيل.
إن الذات الحضارية التي صدح بها الأمير محمد بن سلمان لم تكن تعني النأي بنفسها وفق مشاعر سلبية بالخوف من الاغتراب والشراكة، بل تأكيد الثقة بالذات دون الذوبان في ثقافة الآخر، وأن العلاقة في الأخير سوف تبنى على المصلحة وتتحرك في إطار المتغير الذي يخدم العلاقات الندية[32]. وقبل أن نقرأ تحليليا في واقع المخاطر الغربية وآليات الابتزاز الإصلاحية يجب أن نستعرض أهم المؤشرات المتواردة في الصحف الغربية.
1- رؤية الإصلاح في قراءة الصحافة الغربية
يمكن القول أن مع ظهور تلك الرؤية كان لها صدى ملفت لواقعية الطرح الإصلاحي بحيث لم يعد بإمكان أحد أن يستطيع تجاهل كل تلك الجلبة التحليلية، التي أحدثتها رؤية الإصلاحات للأمير محمد بن سلمان في أوساط النخبة الصحفية والسياسية الغربية، والتي ألقت بضلالها على بنوك التفكير الإستراتيجي، التي بدأت تخوض غمار معركة بحثية وظفت فيها كل اقتراباتها، وأدواتها التحليلية الأكثر مهارة لمعرفة الطالع السياسي والمنهجي للأمير محل الإثارة، وقراءة منهجية التغيير على المدى الطويل، ومصالحته البراغماتية على المدى القصير مع الأطراف الداخلية والخارجية.
وفي استعراض وجيز لتوجهات الإعلام الغربي، فحسب توصيف صحيفة التايمز البريطانية، بأننا أمام أمير إصلاحي واسع الصلاحيات "أمير غير محدود" ، قادر على أن يحول الرؤية الطموحة إلى واقع، وإنهاء اعتماد السعودية على النفط، بعد أن ظهر أن بلده أمام مصيبة عجز ب"200" مليار دولار أثر تهاوي أسعار النفط ولجوءهم إلى سحب 30 مليار دولار من الاحتياطي النقدي شهريا، لتغطية عجز الموازنة[33].
صحيفة الوشنطن تايمز هي الأخرى ترى أن نائب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أمير طموح وله أهداف بعيدة المدى لإصلاحات اقتصادية، وهي خطوة مهمة لوضع بصمته على الجدول الاقتصادي والدبلوماسي والاستراتيجي للبلاد، في ظل مخاطر وتحديات داخلية وخارجية تواجهها الأسرة المالكة السعودية.
بيد أن رائحة المخاطر، والتحريض، تفوح من ثنايا التحليل الطويل في المقالة، عندما أشارت بأن محللين في الشؤون الإقليمية،ومصادر الاستخبارات الأميركية يرون، بأن الوريث الشاب يمارس بالفعل سياسات تأثيرية على مقاسه في دهاليز صنع السياسة للمملكة، وأن قرار الخصخصة لأهم الأصول السعودية هو لدفع البيت الأبيض ليقود حربا بالوكالة ضد المتمردين المدعومين من إيران في اليمن. وحسب غريغوري غوز، الذي يرأس قسم الشؤون الدولية في جامعة تكساس، أن الامير بن سلمان هو المحرك الرئيسي للسياسة الاقتصادية والسياسة العسكرية الأجنبية في المملكة. وأكد غوز بأن تركيز الملك سلمان للسلطة في يد ابنه الصغير يثير قلق الأسرة نظرا لقلة الخبرة التي يتمتع بها الأمير، وأن هناك جهود حثيثة من داخل الأسرة لمنع وصول الأمر إلى الأمير بن سلمان[34].
إن الأمير بن سلمان نجم صاعد يصعب التنبؤ بتخطيطه بعيد المدى، وما يظهر فقط أنه مصمم على وضع نهاية لحياة مدللة مرتبطة بالمورد النفطي، ومصر على تنويع الاقتصاد، وخصخصة القطاع العام يساعده في ذلك مستشارين ووزراء يؤمنون برؤيته 2030. وفي ذات التوجه أشرف على تعديل وزاري في نهاية الأسبوع الماضي تم بموجبه استبدال وزير النفط المخضرم علي النعيمي بخالد الفالح، رئيس شركة النفط الوطنية أرامكو ومصدر 90٪ من العائدات السعودية منذ عقود. والذي يمتلك رؤية في مجال التنمية بالتعدين. إضافة إلى دمج بعض المناصب الوزارية لتحقيق نوع من الترشيد، لكنها ترى بأن الحديث عن الشفافية في بلد مثل السعودية هي بدعة مبهمة[35]. وأن العيش بدون نفط مع حلول العام 2020 هو ضربا من المبالغة.
جرعة السم ممزوجة بالمقالة، عندما تشير إلى أن قليل من السعوديين يؤمنون صراحة بأن الخلافة تأتي على الورق، فولي العهد محمد بن نايف، وزير الداخلية المرغوب من قبل الحكومات الغربية المقبض بملف الإرهاب لن تشفع له هذه الأولوية، فالملك سيتجاوزه في نهاية المطاف لتسليم السلطة لابنه محمد بن سلمان.
كما أوردت الصحيفة رؤية مضاوي الرشيد، المؤرخة السعودية المقيمة في لندن، وأشد المنتقدين لأسرة آل سعود. قائلة: "بأن محمد بن سلمان هو أمير الحرب والنفط"، " وأن هناك مخاطر كبيرة تحيط بنجومية بن سلمان الصاعدة، ونجوميته مرهونة بنجاحه، وإلا فلن يتم التسامح معه، وفشله يعني استبداله بمحمد بن نايف.
نخبة من المثقفين السعوديين يتساءلون بصوت عال، ما إذا كانت التغييرات الاقتصادية سيكون لها آثار أخرى؟ الأمير يتحدث بطريقة جيدة ومقنعة عن الأعمال التجارية والاستثمار والعيش دون النفط،" لكن رؤية مهنية كهذه تحتاج لإجابة حول، ماذا عن التغيير السياسي، والنظام القانوني والقضايا الاجتماعية؟ وأين هي رؤية الأمير حول الضرائب والامتيازات الملكية؟
2- المخاطر الإيديولوجية وآلية الإصلاحات
الغرب حادا في نظرته الإيديولوجية ونزعت هيمنته المصالحية تجاه المنطقة العربية، فكيف إذا تعلق الأمر بدولة هي مركز الثقل الديني والحضاري للأمة العربية والإسلامية، وظهور شخصية شابة بمواصفات الأمير بن سلمان جعل الآخر الغربي أمريكا- وأوروبا تغوص بمفكريها في تفاصيل تحليلية دقيقة لصانع القرار الجديد، حاضنه الثقافي نشأته ميولاته النفسية، بيئته كصانع قرار، مدى تأثره بمحيطه القريب والواسع كلها سوف تضع ميزان التقييم الدقيق المفرط في الحساسية.
إن الرؤية الأمريكية والغربية لا تمانع أن يكون هناك أميرا يمارس الاستبداد والفساد مقابل أن تستخدمه هي مادة إستهلاكية أمام شعوبها، والشعوب التي تعاني تداعياته، نفاق الكراهية والأشمئزاز للتسلط وارد في الخطاب الغربي، وضرورة الإصلاح والديمقراطية هي ليست أكثر من حرب كلامية فارغة المحتوى، وهذا ما خبرته معظم الأنظمة العربية التي تسير وفق المسار الأمريكي الغربي، ولك أن تتلقى في زياراتهم الرسمية نوع من تأكيد خصوصيتك واحترامها، وأولوية المصالح .
بيد أن تقدم على إصلاحات حقيقية فتلك الطامة التي لن تباركها سوى رؤوس السنتهم، وقلوبهم تخفي غيضا لن يعدم حيلة في التآمر، ووضع الخطط للنيل من أي توجه إصلاحي حقيقي، وما تعرض له مشروع الإصلاح الربيعي لن يختلف مع مشروع بن سلمان.
الغرب لا يعنيه أن تكون فاسدا وديكتاتورا "عربيا" إذا كانت مصالحه هي محل تفهمك، وحرصك، ومعية حمايتك، لكن أن تكون طموحا وإصلاحيا بالقدر الذي يمكم أن تتضرر منه مصالحه، ولو على المدى البعيد، أو تتبوأ مستوى من القوة يمكن أن يزحزح واقع هيمنته، فهو لن يتسامح أو يقف ممانعا، بل سوف يجهز على طموحك وحتى حياتك.
القوى الغربية لا تعير انتباها حقيقيا لاستبدادك إلا بقدر انتهازيته لتحقيق مصالحه، فأن تكون مستبدا وفاسدا، فأنت معفي إلا من باب تأمين مصالحها، لكن أن تكون إصلاحي فذلك يعني الكثير ولو من باب الإصلاحات الاقتصادية، فطموحك الجاد يثير مشاعرها المطمئنة، وتخوفاتها العميقة.
ما لا يجب أن يغيب عن ذاكرة الأمير بن سلمان هو آلية الابتزاز الإصلاحية الإنتقائية حسب ما تقتضيه المصالح، فهناك احتمال أن تكون دكتاتور أو صديق في لحظة واحدة، ومسميات الشيطنة والإشادة جاهزة ومعلبة لاستخدامها حسب ما يقتضيه الموقف.
فأنت يمكن أن تسمع كلاما من هذا الهزيج عندما يكون مقاسك مناسب لمصالحهم، (زبيغنيو بريجنسكي) "إن الديمقراطية التي يتم فرضها في العالم العربي دون تأن يمكن أن تقود إلى نتائج سلبية لعل أخطرها قدوم الإسلاميين وربما زعماء العنف والإرهاب مثل أسامة بن لادن، وإن الديمقراطية التي لا تأتي عبر التقاليد المؤسسية يمكن أن تدفع إلى شرعنة التطرف والسلطوية" [36].
لكن عندما يمس طموحك بعضا من أطماع مصلحهم وهيمنتهم، فأنت معني أن تسمع الرئيس الأمريكي بوش الابن قائلا "إن السياسة الأمريكية التي امتدت لنحو 60 عاما في تأييد حكومات لا تلتزم بالحرية السياسية قد فشلت، وأن واشنطن قد تبنت إستراتيجية مستقبلية جديدة للحرية في الشرق الأوسط" وأنها ضربا من أنظمة قد شاخت في زمن متغير ومن هذا القبيل من المزايدات([37]). مؤكداً ضرورة تجاوز التعايش مع غياب الحرية: "إذ ما دامت الأنظمة الديمقراطية والحرية السياسية غائبة عن الشرق الأوسط, فإن ذلك سيشكل منبعاً دائماً للحقد والعف القابل للتصدير"[38].ليعلم الأمير محمد بن سلمان أن الغرب بشكل عام لديه مصالح وليس له أصدقاء، وأن عليك أن تحذر مرة إذا أظهروا الساسة امتعاضهم من توجهك الإصلاحي، وتحذر أضعاف ذلك إذا أظهروا مباركتهم.
خاتمة
على قدر الرؤى ومستوى الطموح تكون التحديات؛ ومن تفاصيل الإصلاحات الكبيرة تتولد المشاكل التي من المهم أن تأخذ بعين الاعتبار ممن يصنعون الرؤى؛ الإرادة والطموح وحدها لا تكفي ﻹصلاحات عميقة في بناء صرح اقتصادي وأمني متين؛ ولا تسعفنا في تجاوز منطق ثقافة الفساد، وغياب الحوكمة بمفهومها الشامل؛ كما أن ممارسة الدور الريادي والتأثير أبعد من حاجز الإقليم يستدعي بلد متماسك اقتصاديا، ومنسجم بثقافة وطنية سليمة، وتعبئة عقدية لأنشودة الإصلاح؛ وأهم من ذلك تحصين عمق إستراتيجي تنهار عند صلابته كل سيناريوهات التآمر الداخلي والخارجي.
وحدها رؤية الإصلاح من خلال وزن معطياتها ومؤشراتها الاقتصادية بعد أكثر من عام اتضح أنها طموحة وجادة، وأنها لم تحيد أو تقفز عن الواقع كثيرا، غير أنها بحاجة لبعض العمق، والنضج، والتدرج في ضوء الثقافة الشعبية والمؤسسية القائمة، وفي سياق السمة التدرجية يتم تقييم آثارها بين مرحلة وأخرى من واقع خصوصية المجتمع، وقدرته في محاكاة مفرداتها الاقتصادية والمؤسسية. إضافة إلى فتح هامش من المشاركة المجتمعية وقنوات اتصال بين الشعب وقياداته لإثراء جوانب تلك الرؤية وتلافي قصورها من واقع تجربة المجتمع. كما أن جوهر الرؤية الطموحة أنها مبادرة نوعية تستلهم مقاربة إصلاحية حقيقية وتصالحية لمجتمع ينشد الإصلاح سرا، وقل من يجهر بضرورته؛ وليست كما يرى البعض إعادة انتاج لذات البنى التسلطية للحفاظ على ديمومة النظام واستمراره؛ رؤية اختصر الأمير فيها طموحا شعبيا، ووفر على المواطن جهود نضالية بمبادرة طموحة تلبي الحدود الدنيا من طموحاته الإصلاحية في إطار الكيان السياسي القائم.
وهذا بدوره يدحض المشككين في أن هذه الرؤية في جانبها الاقتصادي لا تعدو كونها نوع من بث الحياة في مفاصل هيكل الدولة المتهالك، وتجديد يعيد للدولة بعض الحيوية التي فقدتها نتيجة لحالة الفساد الطويلة، ورتابة الآلة التقليدية، وعشوائية التدبير، وسوء التخطيط، وهذه المساهمة الإصلاحية هي نوع من إعادة إنتاج هيكلية للنظام للحفاظ عليه. عمق الإصلاحات وشفافية أرقامها ومؤشراتها، والإرادة القوية الدافعة لها يجعلنا نتثبت بأننا أمام إصلاحات طموحة أكثر من كونها إعادة إنتاج بنيوية للنظام تسعى لتجديده والحفاظ على ديمومته وبقاءه مع الإقرار بأن جملة من الصعوبات تعترض سير هذه المسيرة الإصلاحية.
كما كشفت الدراسة أن هناك تحديات خطيرة تتربص بهذا الطموح داخلية وخارجية، ويمكن أن تنسف بنيانه، وهي حريصة لاستدراج رائد المشروع إلى مربعات صراع لاستنزافه اقتصاديا وشعبيا، تمهيدا لإسقاطه، مالم تتنبه الحاسة السياسية للأمير لكل أوكار الدس، ولوبي المكر خصوصا الوجه القبيح العربي، الذي يعبث الخارجي من خلاله؛ و يحاصر آفات الخطر وتحركاته؛ بتأمين العمق الإستراتيجي؛ وتحصين البناء المؤسسي الداخلي؛ مع أهمية شد الحزام الإسلامي في معركة التدافع القوي مع قوى الشر المتربصة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.