شيخ حوثي يعلنها صراحة: النهاية تقترب واحتقان شعبي واسع ضد الجماعة بمناطق سيطرتها    الحوثيون يزرعون الموت في مضيق باب المندب: قوارب صيد مفخخة تهدد الملاحة الدولية!    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    الحوثيون يلفظون أنفاسهم الأخيرة: 372 قتيلاً خلال 4 أشهر    مأرب تغرق في الظلام ل 20 ساعة بسبب عطل فني في محطة مأرب الغازية    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    " محافظ شبوة السابق "بن عديو" يدقّ ناقوس الخطر: اليمن على شفير الهاوية "    رسالة حوثية نارية لدولة عربية: صاروخ حوثي يسقط في دولة عربية و يهدد بجر المنطقة إلى حرب جديدة    مقرب من الحوثيين : الأحداث في اليمن تمهيد لمواقف أكبر واكثر تأثيرا    ريال مدريد يسيطر على إسبانيا... وجيرونا يكتب ملحمة تاريخية تُطيح ببرشلونة وتُرسله إلى الدوري الأوروبي!    17 مليون شخص يواجهون حالة انعدام الأمن الغذائي باليمن.. النقد الدولي يحذر من آثار الهجمات البحرية    تكريم مشروع مسام في مقر الأمم المتحدة بجنيف    الرسائل السياسية والعسكرية التي وجهها الزُبيدي في ذكرى إعلان عدن التاريخي    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    آرسنال يفوز على بورنموث.. ويتمسك بصدارة البريميرليج    #سقطرى ليست طبيعة خلابة وطيور نادرة.. بل 200 ألف كيلومتر حقول نفط    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    الرئيس الزبيدي: نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    الحوثيون يستعدون لحرب طويلة الأمد ببنية عسكرية تحت الأرض    معاداة للإنسانية !    من يسمع ليس كمن يرى مميز    مكتب الأوقاف بمأرب يكرم 51 حافظاً وحافظة للقران من المجازين بالسند    نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين تصدر بيانا مهما في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و654 منذ 7 أكتوبر    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    من هي المصرية "نعمت شفيق" التي أشعلت انتفاضة الغضب في 67 بجامعة أمريكية؟    أول مسؤول جنوبي يضحي بمنصبه مقابل مصلحة مواطنيه    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    أبطال المغرب يعلنون التحدي: ألقاب بطولة المقاتلين المحترفين لنا    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    منظمة: الصحافة باليمن تمر بمرحلة حرجة والصحفيون يعملون في ظروف بالغة الخطورة    وفاة فتاة وأمها وإصابة فتيات أخرى في حادث مروري بشع في صنعاء    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    الخميني والتصوف    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور حسيب: أمريكا والسعودية وإيران هم الذين احتلوا العراق وأتوا بالمالكي
نشر في يمن فويس يوم 22 - 08 - 2014

اجرت مجلة “الماغازين السياسي اليوم” حوارا شاملا مع رئيس مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية الدكتور خير الدين حسيب بشأن الاوضاع الساخنة في العراق وتولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء خلفا لنوري المالكي وخطورة سيطرت “الدولة الاسلامية” على مناطق عديدة في العراق، بالاضافة الى موضوع الإمارة أو دولة “الإمارة الإسلامية” وفق المصطلح الأساسي أو ما اصطلح على تسميته ب”داعش”.
وفيما يلي نص الحوار:
هذا السؤال يقودنا الى شخصية البديل، فهلّا حددتم لنا مواصفات شخصية البديل للمالكي حيدر العبادي؟
حيدر العبادي بالمعايير النسبية هو شخص يختلف عن المالكي إذ إن الأخير لم يعش في الغرب، هو شخص درس في إنكلترا، وأخذ شهادة دكتوراه من جامعة مانشستر، اختصاص هندسة كهربائية. وعليه فأي فرد يعيش في بريطانيا خمس سنين أو عشر سنين تكون رؤيته للحياة وخبرته وآفاقه تختلف. وهو عاش أكثر من هذه المدة في بريطانية، إذ بعد ما انتهى من دراسة الدكتوراه لم يعد للعراق وانتمى لحزب الدعوة في بريطانيا وكان عضواً في المكتب السياسي لحزب الدعوة كان هو مسؤول حزب الدعوة في بريطانيا، وجاء للعراق مع الاحتلال الأمريكي خلال عام 2003 وشغل منصب وزير الاتصالات في حكومة مجلس الحكم في عهد بريمر. مع كل هذا يبدو أن شخصيته ضعيفة إلى حدٍ ما، وأعتقد أنها مرحلة انتقالية فحسب.
سوف نتابع هذا الموضوع بتفاصيله، طبعاً، مواصفات الشخص أمر أساسي، وأنتم قد أشرتم إلى موضوع مسؤولية من أتى به لهذا المنصب. على أية حال، الرئيس الأمريكي في حديثه لتوماس فريدمان – هناك إشارة تبدو مهمة في الموضوع- أجاب حين سأله فريدمان: أما كانت الأمور لتبدو بحال أفضل لو أننا سلّحنا الثوار السوريين العلمانيين في بداية الأحداث، أو أبقينا القوات الأمريكية في العراق؟ وأجاب الرئيس الأمريكي أوباما بقوله: لو أن الأكثرية في سوريا شيعية، لما كانت هناك فرصة لتقاسم السلطة بين السنة والأكراد، ولما كانت هناك حاجة إلى الاحتفاظ بوجود القوات الأمريكية في العراق، – ولو انتهزت الأكثرية الشيعية الفرصة لمد اليد للسنّة والأكراد بطريقة كانت أكثر فاعلية، وربما كان أوباما يتحدث عن فترة 2008، وما بعدها وهي الفترة التي تمّت فيها هيكلة الصحوات السنية والإقلاع عن سياسة اجتثاث البعث وإدخال 20 بالمئة من الصحوات في الجيش العراقي-. فلو انتهزت الأكثرية الشيعية الفرصة لمد اليد للسنّة والأكراد بطريقة أكثر فاعلية أو لم تقر تشريعات على غرار اجتثاث البعث لما كانت هناك حاجة إلى قوات خارجية. أضاف، ونظراً إلى عدم استعداد الشيعة للقيام بذلك كانت قواتنا ستصبح عاجلاً أم آجلاً في مرمى النيران.
في لقائنا د. حسيب في المرة الأولى، كانت معكم دراسة فيها إحصائيات حول المشهد العراقي، وكانت مليئة بالأرقام المخيفة جداً، التي تتعلق بعدد القتلى كل يوم في العراق، وعن عدد المساجين بدون محاكمة وبدون تهمة، وعن عدد النساء في السجون. طيب دكتور الإجماع السياسي شيء جيد بما فيه الإجماع الشيعي العراقي، وبما في ذلك ما حصل داخل حزب الدعوة، حيث حظي موضوع تنحّي المالكي على الإجماع. هذا الإجماع أنتج خلع المالكي وتنحّيه لحيدر العبادي، إلا أن خطابه كان كملحمة جلجامش وشبّه نفسه بعلي بن أبي طالب، لعلّنا نحاول أن نفهم صيغة المرحلة التي شهدت فساداً هائلاً جداً، وأقصد هنا فترة تولي المالكي، فيا تُرى هل لهذه المدة أن تمر من دون محاسبة؟
أنا لا أعرف ماهيّة الصفقة التي تمّت خلال الأربع والعشرين ساعة التي مرّت قبل إعلان المالكي تنحّيه. أمريكا والسعودية والخليج عموماً وإيران هم الذين احتلوا العراق، وهم الذين أتوا بالمالكي، لأن السعودية وسورية كانتا تريدان أياد علاوي، وإيران وأمريكا كانتا تريدان نوري المالكي لأسبابهم الخاصة. فهم الذين جعلوه يتنحّى، وهم الذين جاؤوا بالبديل أيضاً، وهم الذين سوف يشكّلون الوزارة أيضاً. أنا أعتقد ما تقول الأغنية العربية “الذي شبكنا يخلصنا” ينطبق على هذه الحالة. وعليه، وبرأيي هذه هي البداية فقط، فقد كان هناك خوف ينتاب الجميع على العراق، إذ كان متوقعاً أنه سيتردّى وضعه أكثر، وهذا ليس بمستبعد حتى الآن. الخوف الذي كان ينتابنا ليس تقسيم العراق إلى شيعةً وسنّةً وأكراداً، بل كان الشيء الذي سيترتب على ذلك الاختلاف وبسبب عدم التوافق بين الأطراف السياسية والدول المعنية بالقضية العراقية وهو تفتيت العراق. والسبب في ذلك أنّ الشيعة مختلفون فيما بينهم، الأحزاب الشيعية: الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري مختلفون فيما بينهم. والأكراد مختلفون فيما بينهم: حزب الاتحاد لجلال طالباني، والحزب الديمقراطي البرزاني ، تصور إنهما حتى الآن مازالا مختلفين، فهم لم يوحّدوا وزارة البيشمركة المنقسمة، إذ لكلٍّ منهما وزارته، وكذلك الأمر بالنسبة لوزارة المالية أيضاً. إضافةً إلى ذلك، فمنذ ستة أشهر انتهت الانتخابات المحلية في كردستان، إلا أنه حتى الآن لم تشكّل الوزارة بعد بسبب هذه الاختلافات. ولعل نفس هذا الانقسام، بصورة مشابهة أو مختلفة، ينطبق على السنّة وغيرهم. فالسنّة أو تعبير السنّة يعني أنّ قسماً منهم التحق بالعملية السياسية، أو التحق به، في حين أن قسماً آخر منهم كانوا موجودين فعلاً مع “المعارضة” التي دخلت العراق مع الاحتلال. فالمطروح ليس تقسيم العراق فحسب، بل تفتيت العراق.
لنرَ الآن، هل يمكن للحكومة الجديدة أن تلغي بعض التشريعات التي ينتقدها أوباما، التي صدرت في عهد الحاكم الأمريكي بول بريمر، ومنها اجتثات البعث، وحل الجيش العراقي؟ بول بريمر في مذكراته يعترف بأن قرار حل الجيش العراقي اتخذه الأمريكيون ورحّبت به إيران والأكراد وأطراف عراقية أخرى ذكرها تحديداً في كتابه، وحتى دول الخليج العربي رحّبوا بحل الجيش العراقي ونتج منه الضحايا التي عرفناها، كُلّنا منذُ الاحتلال وحتى الآن. فالرئيس أوباما إذا أراد أن ينتقد هذه السياسة التي أمضى بها سياسيو العملية السياسية، فعليه أن ينتقد الإدارة الأمريكية السابقة، مرحلة جورج بوش، الذي أقدم على احتلال العراق وما ترتّب عليه. فالقرارات الرئيسية التي أساءت إلى الدولة العراقية هم الذين سنّوها وطبّقوها. فهذا الذي يسمّى الآن بالجيش العراقي هو عبارة عن مليشيات ليس لها أي ولاء للوطن، بل ولاؤه لأطراف مختلفة؛ أي يعتمد ولاؤه على انتمائه الطائفي والإثني. وفي السنة الماضية (2013) كانت ميزانية تشغيل الجيش العراقي من دون عائدات الأسلحة التي اشتراها حسبما ذكره قبل يومين د. مصطفى العاني في مقابلة مع محطة العربية، كانت كلفة التشغيل فقط 17 ملياراً، لماذا؟ بكل بساطة لكونه، ليس جيشاً حقيقياً، بل جيش ولاءات متعددة. فمثلاً الحزب الشيوعي على سبيل المثال، لديه الآلاف من المنتمين إلى الجيش العراقي، وهم فقط مسجلون ويستلمون رواتب من دون الالتحاق بالجيش أو تنفيذ مهمات، وهكذا في الأحزاب الأخرى. وهنا ما أُريد أن أقوله إن قانون اجتثاث البعث الذي ينتقده الرئيس الأمريكي أوباما، الذي أقرّه وطبّقه هو بول بريمر، علاوة على تسليم مهمات تنفيذه لأحمد الجلبي ليكون منفذاً للقانون ومتجاوزاً له ضمن ما يضمن استمرار الاحتلال.
طبعاً الأرقام تتحدث بهدر مذهل يصل إلى حوالي 700 مليار، ويمكن أن تكون الأرقام لديكم أكثر وضوحاً.
عند احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، ومن أول أيام دخولهم الأراضي العراقية كان لديها مراقبة مالية، فهناك مفتش عام يراقب مصروفاتهم في العراق. وعلى المفتش العام أن يقدم تقريراً كل ثلاثة أشهرٍ للكونغرس، وقد ذكر المفتش العام في تقاريره عن الفساد. علاوة على ذلك كان السفير الأمريكي في العراق يبعث من حينٍ إلى آخر بتقرير سرّي لوزارة الخارجية حول فساد الحكومة العراقية. فالمالكي بالخلفية التي أشرت إليها، وهو الذي يملك السلطة والمال فماذا تتوقع أن يعمل. كما أنه في أحد تقارير المفتش العام خلال السنة الأولى من الاحتلال، أشار إلى حادثة، وهي أن الجنود والضباط الأمريكان الذين كانوا يقيمون في القصر الجمهوري العراقي السابق، كانوا وقت الفراغ يلعبون كرة قدم، وكرتهم كانت تتكوّن من عدة شدات من الدولارات المخزنة في الحمامات والغرف بالقصر الجمهوري المحتل. فهل يوجد استهتارٌ أكثر من هذا الاستهتار الذي يبدو كأنه حالة جنونية.
لنتلمس مدى حدود حيدر العبادي في المرحلة المقبلة. فلو رجعنا إلى رسالة الرئيس الأمريكي الموجّهة إلى جميع الفصائل في العراق، التي يقول فيها: سنكون شركاءكم، لكننا لن نقوم بالأمور بالنيابة عنكم، ولن نرسل جنوداً أمريكيين من جديد لإبقاء الأمور تحت السيطرة. عليكم أن تثبتوا لنا أنكم مستعدون وجاهزون لمحاولة الحفاظ على قيام حكومة عراقية موحّدة ترتكز على التسوية، وأنكم مستعدون لمواصلة العمل على بناء قوة أمنية غير مذهبية، تعمل كما يجب، وتخضع للمساءلة أمام حكومة مدنية. لدينا مصلحة استراتيجية في التصدّي لتنظيم داعش، ولن نسمح لهم بإنشاء خلافة، لا في سورية، ولا في العراق، لكن لا يمكننا القيام بذلك إلا إذا كنا نعلم أن لدينا شركاء على الأرض قادرين على ملء الفراغ كي نتمكن من التواصل مع القبائل السنّية ومع الحكام والقادة المحليين، الذين يجب أن يشعروا أنهم يناضلون من أجل قضية معيّنة، وإلا قد نتمكّن من إبعاد الداعش لبعض الوقت، لكن ما إن ترحل طائراتنا حتى يعودوا من جديد. هذا كلام الرئيس أوباما، ولا نعرف كم يعكس طبيعة التسوية في المرحلة المقبلة.
هذه المقابلة منشورة قبل عدة أيام مع توماس فريدمان، وهي على قدر من الأهمية حقيقة، لأنه تكلم بقدر غير قليل من الصراحة، وإن كان الكثير من الانتقادات التي وجهها للقوى في العراق في موضوع الجيش واجتثاث البعث، كانت الإدارة الأمريكية أثناء الاحتلال، هي التي أقدمت على تنفيذها وإقرار قوانينها. أنا أعتقد أن هذه المرحلة مرحلة انتقالية، إمّا أن تتطور إلى وضع أفضل، ويصار إلى عملية سياسية جديدة يشارك فيها جميع العراقيين، الذين هم مشتركون في العملية السياسية الآن، والذين هم خارج العملية السياسية، ويتم فيها تجميد هذا الدستور الحالي، لكون هذا الدستور فضيحة من المقدمة إلى آخر سطر فيه، وتشكّل حكومة انتقالية مستقلة لمدة سنتين تعمل على انتخابات جديدة، وإعداد دستور جديد وإلى آخره. أتمنى أن يحدث هذا، ولكن لا أعرف احتمالات نجاحه. وإذا لم يحدث هذا فالولايات المتحدة الأمريكية، بوضعها الحالي، ليس لها نيةٌ في التدخل. أما بالنسبة إلى إيران وعلاقتها بما حصل في العراق فإن الوضع الحالي بمثابة جزء من صفقة، لأن إيران لم تكن لتوافق على الضغط على المالكي لكي يتخلّى بدون مقابل. فهي عملية ليست بالبسيطة، ولكن لها علاقة بالمفاوضات الإيرانية-الأمريكية حول السلاح النووي الإيراني، يعني أن إيران تمنح شيئاً هنا، وتأخذ شيئاً آخراً هناك. أقول إذا ما تم السيناريو الأول سيبقى العراق رهن التطورات الحالية التي ستؤدي إلى تفتيته.
ولكن هذا له علاقة بخطر داعش، فقد تابعت مقابلة على محطة العربية للدكتور عطية، كما أظن، أشار فيها أن داعش تدق أبواب إيران أيضاً.
الوضع الحالي شبيه بوضع أمريكا في أفغانستان أثناء الاحتلال الروسي. الأمريكان هم الذين درّبوا وموّلوا القاعدة، ومن بعد انسحاب الروس من أفغانستان احتلت القاعدة أفغانستان من خلال طالبان. أنا أعتقد أن لداعش أكثر من جهة ساعدتها وموّلتها، وكان لداعش لقاء ذلك أن تخدم تلك الجهات لأغراض مؤقتة. فداعش وحتى القوة المتعاونة معها في احتلال الموصل وما تلاها، وأنا سمعت من بعضهم، كانت هي فقط لإرهاب العراقيين وإرهاب الحكومة الحالية. وحسب ما قيل لي، ما كانت هناك نية لاحتلال بغداد، بل كانوا لا يحبّذون إسقاطها عسكرياً، وإن الهدف كان إسقاطها سياسياً، وهذا ما حصل. داعش الآن، حسبما أعتقد، حالة مؤقّتة تمّ تضخيمها لأغراض مختلفة، وتقديري أننا سنشهد قريباً انحدار داعش وانتهاء هذه الظاهرة بنفس السرعة التي ظهرت فيها. ففي مقابلة توماس فريدمان أشار الرئيس الأمريكي أوباما بأنه سيحارب داعش في سورية والعراق. وبول بريمر في مقابلة قبل أيام مع “العربية” أشار إلى أن أمريكا ستحاول إقصاء داعش والقضاء عليها في العراق وسورية، وكررها مرتين، والسؤال المطروح هنا وفق تصريحي أوباما وبريمر للقضاء على داعش في سورية والعراق: ما هي النتائج التي ستترب على هذه السياسة في سورية، بعد القضاء على داعش؟
إذن نحن أمام مرحلة انتقالية الآن، ولننتظر ماذا سيجري في المنطقة، كما أن هناك موجة تفاؤلية، حسبما يبدو، خصوصاً بعد تصريح أوباما في مواصلة الضربات الجوية لمواقع داعش في جبل سنجار. علاوة على ذلك، صرّح مصدر كردي لصحيفة الحياة خلال هذه الفترة، أن حكومة إقليم كردستان، كبادرة حُسن نية تجاه العبادي، أعادت إدارة حقلين في كركوك إلى وزارة النفط الاتحادية، وأكدت شركة نفط الشمال التابعة لوزارة النفط المركزية تسلّمهما. وأن الحراك السياسي الذي قاده التحالف الشيعي لترشيح حيدر العبادي لتشكيل الحكومة دفع حكومة كردستان إلى فتح صفحة جديدة مع بغداد. لعلّنا نحاول تلّمس ردود الفعل الإيجابية من هذا الموقف.
د. خير الدين لنتحدث الآن عن ماهية صيغة العملية السياسية، فقد أشرتم إلى التوجه نحو المرحلة الانتقالية، فهل من الممكن أن نذهب إلى عملية إعادة إحياء العملية السياسية، التي تمّت صياغتها في منتصف العام 2008، أشار إليها الرئيس الأمريكي في حديثه الذي قال فيه، العودة عن إجراءات اجتثاث البعث، والمشاركة السنّية في الحكومة، وإعطاء دور أكبر للأقليات في الحكومة، وتشكيل حكومة مدنية، وإعادة ترتيب الجيش على قاعدة غير مذهبية. هذه صيغة. وهناك صيغة أخرى، كون الصيغة السابقة قد تم انتهاكها، فهناك كلام عن تجربة تحتّم تطوير هذه العملية، ولكن تطوير هذه العملية قد يكون بتجميد الدستور المعمول به حالياً، مثلاً أم لا؟
كلام الرئيس أوباما يجب أن يوجّه إلى الإدارة السابقة، لأن الأمريكان كانوا يديرون العراق لغاية نهاية العام 2011، وبالتالي فهم المسؤولون عمّا جرى في العراق، لأنهم هم الذين كانوا يحكمون العراق. أما بخصوص ماذا سيحدث، فسأحاول أن أكون أقلّ تشاؤماً. أعتقد أن هذه العملية الحالية هي انتقالية، وأرجو أن أكون مخطئاً إذا قلت إنها لن تنجح، ولكن في حال عدم نجاحها سنكون أمام وضع لا تتمكن الولايات المتحدة الأمريكة فيه من التدخل في العراق. فعلى سبيل المثال: لماذا هذه الضربات الجوية، في أربيل، وليست في مكان آخر، ممّا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يعنيها باقي العراق، بل يعنيها تحديداً هذه المنطقة. وإيران سوف تكون أيضاً في وضع تحتاج فيه للتمهيد إلى حوار سعودي-إيراني. وهذا الإطار يمكن أن نستشرفه من البرقيات التي بعثها العاهل السعودي إلى الرؤساء العراقيين الجدد، رئيس مجلس النواب، ورئيس الجمهورية، ومرشح رئاسة الوزراء. فمَنْ يمكن أن يضبط الساحة الداخلية بدون وجود أمن. وأعتقد أن الأمور قد تتطور، وسيكون هناك اقتتال ليس بالصورة التي نعرفها في الحروب الأهلية، كالقتال بين شيعة وسنّة، وشيعة وأكراد، ولكن اقتال ربما سيكون شيعياً-شيعياً وسنياً-سنياً وكردياً-كردياً. وإذا كانت إيران وأمريكا ينويان عدم التدخل لأسبابهما التي ذكرناها سلفاً.
ولعلي أقول، في معرض حديثي عن الحرب الأهلية، إنني استفدت كثيراً، على الرغم من معاناتي خلال وجودي في بيروت أثناء “الحرب الأهلية اللبنانية”، في تقييم ما يحدث في العراق. فأنا أعتقد أن هناك حاجة إلى حكومة انتقالية في العراق تتولى وتخوّل صلاحيات تشريعية وتنفيذية لمدة سنتين، وإعادة تشكيل الجيش العراقي، لأن الجيش الحالي ليس بجيش، وتجميد الدستور. وأن تعدّ الحكومة الانتقالية لانتخابات جديدة حسب قانون انتخابات جديد، وتتولى إعداد دستور من خلال هذا المجلس المنتخب، ويعرض الدستور بعد ذلك على استفتاء.
وفي حال صار الأمر لحكومة انتقالية، ولم تتدخل إيران وأمريكا لحماية الأمن، فمن هي القوة التي يمكنها خلال هذه المرحلة الانتقالية أن تحمي الدولة خلال فترتها الانتقالية. أنا أعتقد أن تجربة التدخل الخارجي الأجنبي فشلت، ونشاهد ما حصل ويحصل الآن في ليبيا. لذا، باعتقادي هناك حاجة ماسة لإنشاء “قوة عربية” أو “جيش عربي” حسب اتفاقية الدفاع العربي المشترك، تمضي لإنشاء هذا الجيش، ولكن لابد من حل الخلافات العربية قبل إنشائه. فالحاجة إلى القوة العربية ليس فقط لحالة العراق، فهذه القوة العربية سنحتاجها في الحفاظ مستقبلاً على أمن الخليج العربي. لا يمكن للخليج العربي وحده حماية أمنه، فهو بالتأكيد غير قادر على ذلك بسبب حجم سكان واعتبارات أخرى. ولا بد من أن يكون هناك أمن عربي وليس أمناً خليجياً. كما أنه لا بد من أن يكون هناك أمن عربي-إيراني، وستحتاج الأمة إلى قوة لطمأنة الخليجيين بوجود قوة عربية محل القوة الأمريكية، وغير الأمريكية في المنطقة. ولا بد من أن يتم هذا بقرار من مجلس الأمن، يُقدم على تخويل الجامعة العربية القيام بهذه المهمة، ولكن يجب أن تكون غير الجامعة العربية الحالية. يعني تشكيل قوة سلام عربية خلال الفترة الانتقالية، ويتم خلالها إعادة تشكيل الجيش العراقي.
يعني هذا السيناريو الثاني. نريد أن نطرح الموضوع بشكل أكبر د. خير الدين، فبغض النظر عن جماعة الإمارة الإسلامية، كمصطلح الدولة الإسلامية، وتطورها ونموها، ومن يدعمها مخابراتياً، ولكن نحن نغفل أهمية العمل المحلي الذي أدى إلى التحول في السياسة العراقية مثل استفزاز المحافظات السنّية، فنحن نغفل هذا الحراك في مكان ما، فما هو تقييمكم؟
كثيرون هم الذين يتكلمون حول أوضاع العراق بدون أن يطلعوا على تاريخ العراق منذ العام 1920 لحد الآن. العراق في ثورة العشرين (1920) ضد الاحتلال البريطاني، كانت القيادات الرئيسية لهذه الثورة شيعية وسنية. ومن عام 1920م إلى الاحتلال الأمريكي للعراق لم تكن هناك محاصصة طائفية في الحكومات العراقية السابقة، فقد كان عندنا رؤساء وزراء شيعة وسنة وأكراد. الشخص الثاني في الديوان الملكي كان كردياً. وفي هذه الفترة في العراق وحتى الاحتلال الأمريكي عام 2003، لم يكن للمؤسسة الدينية، سواء كانت شيعية أم سنية، أي رأي، أو أي تأثير في تشكيل الحكومات العراقية. والأحزاب كانت تشكّل على أساس المواطنة العراقية، وليس على أساس الطائفية فحزب الاستقلال مثلاً، كان رئيسه الشيخ محمد مهدي كبّه، وهو شيعي، ونائب الرئيس في حزب الاستقلال كان محمد صديق شنشل، وهو سنّي من الموصل، وحتى أحزاب نوري السعيد وصالح جبر (كان نوري السعيد سنّياً، وصالح جبر شيعياً) كانت مختلطة، ما أُريد أن أقوله، هو أن الأحزاب في تلك المرحلة كانت مختلطة، ومبنية على المواطنة، فتصوّر الأمر.
ما حصل من الاحتلال ولحد الآن، المسؤول الأساسي عنه هي القوى التي احتلت العراق. فما ورد (في قانون إدارة الدولة الانتقالي الذي نتج منه التصويت لهذا الدستور)، هو أن في الاستفتاء على الدستور إذا كان هناك ثلاث محافظات، فيها أغلبية الثلثين قد رفضت مشروع الدستور، يسقط المشروع. لماذا، لأن الأكراد لديهم ثلاث محافظات: هي دهوك وأربيل والسليمانية، فأعطوهم فيتو على الدستور في العراق. فموضوع الطائفية في العراق هو أمرٌ لم يكن موجوداً من قبل بهذا الشكل. وحتى السيستاني عندما سألوه بعد الاحتلال، هل كان صدام حسين طائفياً؟ أجاب: لا لم يكن طائفياً، ولكنه كان دكتاتوراً. كما أن أغلبية الأعضاء في حزب البعث هم شيعة. والأمريكان عندما احتلوا العراق ونشروا صور خمسة وخمسين مسؤولاً، أو أكثر بقليل منهم مطلوبين بحكم مسؤولياتهم المؤسساتية أو الحزبية، وكان أكثرهم شيعة. كما أن رؤساء الوزارات في زمن صدام حسين كان فيهم شيعة، وفيهم سنّة، وكان أغلبهم من الشيعة. فالذي يحصل الآن في العراق هو أمر جديد، مثل الطائفية والمحاصصة، وحتى الأكراد تم إعطاؤهم صيغةً في الدستور لا يستوي أمرها، لا في العراق ولا في أي دولة اتحادية. خذ أي دولة اتحادية في العالم، مثلاً الولايات المتحدة أو الهند، فهل سمعت أو قرأت عن حاكم ولاية في الولايات المتحدة الأمريكية يقوم بزيارة رسمية لرئيس فرنسا ورئيس وزراء بريطانيا، بالتأكيد لا. ولكن هذا هو الذي كان يقوم به مسعود البرزاني ويتصرف كدولة مستقلة، ومؤخراً عند حدوث الأزمة مع داعش أعرب عن نواياه في إجراء استفتاء لغرض الاستقلال عن العراق. فهذه التركيبة غير عملية، ولا يمكن أن تكون.
الاستنتاج هو أن القصة بالأساس هي سياسية بامتياز في العراق، وليست قصة أمنية أو مخابراتية ولا حتى داعشية، بل هي قصة أعمق بكثير من ذلك.
في موضوع الأقليات، هل النسيج الاجتماعي أصعب ما يمكن إعادته وترتيبه؟ وبموضوع الأقليات المسيحية وغيرها، على أية حال حضرتكم ابن الموصل، فهل ترى أنه إذا استقرت الأوضاع سوف يعود مسيحيو الموصل وسهل نينوى.
المسيحيون في العراق ليسوا طارئين، فهم لهم جذورهم في التاريخ والمنطقة، وفي الموصل بالذات ليس هناك مناطق معيّنة مسيحية ومسلمة بشكل كامل، بل هم متداخلون اجتماعياً مع بعضهم البعض. ولعلي أروي مثالاً واقعياً، فحين كنت أدرس في جامعة بغداد، ولكوننا طلاب من خارج بغداد، كنّا نستأجر بيتاً، وكل فرد يأخذ غرفة. كنا خمسة أنا واثنين من الموصل، وكان يعيش معنا مسيحي جوزيف ونويل رَمّو، وهما من أعز أصدقائي، وقد عشنا سوية خلال فترة الدراسة في الجامعة، ولحد الآن عندما نلتقي نشعر بودٍ ومحبةٍ كبيرين، ونتذكر أيامنا التي قضيناها معاً، وغير هذا لا وجود له في العراق. في العراق في الثلاثينيات كانت قوة الوزارة تقاس برئيسها ووزير ماليتها. وفي الثلاثينيات كان وزير المالية مسيحياً، مرة ومرةً يهودياً، فأين نحن الآن، وأين كنّا.
ولكن هل عندكم تفاؤل، إن شاء الله بنجاح المرحلة الانتقالية، وعودة المسيحيين، أم تتوقع أنهم قد غادروا نهائياً؟
أود أن أشير هنا إلى تجربتي في لبنان أثناء “الحرب الأهلية وتأثيرها” في توقّعاتي، أعني أنني عشت فترة “الحرب الأهلية” في لبنان ورأيت التقسيمات “الشرقية” و”الغربية” وإلى آخره من التقسيمات، والذبح على الهوية، وتعرّضت إلى ما تعرّض إليه أي لبناني آخر، طبعاً لم أكن أنا مستهدفاً شخصياً ولكن تعرّضت مثلما تعرض له اللبنانيون من خطف وقصف وغيره. على أية حال، ما أن انتهت الحرب اللبنانية حتى رجع اللبنانيون للتعايش مع بعضهم البعض، وانتهت التقسيمات الشرقية والغربية. فالانقسامات هي على مستوى النخبة السياسية موجودة ولمصالح خاصة. فنحن بعدما هُجِّرنا ست مرات، وسكنتُ أخيراً في المنارة، واشتريت شقة وأحببت تعميرها، فقد كان كل الطاقم الذي جاء لتعميرها من زحلة، فلم يكن هناك أي أحد يمكنه أن يتصور أنه من الممكن لهذه الجماعة أن تأتي من زحلة، وتعمل بعد ذلك في منطقة المنارة ببيروت بأمان. فأنا أعتقد أن أحد أهم النِعم على الإنسان هو “النسيان”، ولو كان الإنسان لا ينسى لأصبحت الحياة جحيماً. فالنسيان والزمن لهما الدور الكبير في إصلاح الأمور رغم أن ذلك يترك آثاراً نفسية.
هل ما فعله الأمريكان في العراق هو عملٌ بريء ناتج من جهل، أم من حسن نوايا في عمل نظام ديمقراطي يكون نموذجياً، أم كانوا على معرفة بأن هذا الأمر سيؤدي إلى ما نحن عليه الآن؟ وفي الحالتين هناك مصيبة كبرى. وكما نعلم أن مشروع جورج بوش كان واضحاً وهو تفتيت العراق. ولعلنا كثيراً ما نسمع هذه الأيام عن تغيير خطوط سايكس-بيكو، ولكن الذي يحدث الآن أخطر من تغيير خطوط سايكس-بيكو، لكون تقسيم الدول بداخلها، مع الاحتفاظ بالحدود المعترف بها دولياً مسألة خطرة. فعلى سبيل المثال، مسارعة البرزاني إلى ضرورة الإعلان على استفتاء لتقرير حق المصير، سرعان ما وجِّهت إليه إشارة خارجية لإيقاف هذا فتنصّل من الاستفتاء، وهو يعني تقسيم ما هو قائم ضمن الحدود المعترف بها دولياً. إضافة إلى ذلك، إن الدعوات الأوروبية قد خفتت أيضاً، وكانت هناك أخطاء كبيرة، وتلاشت أيضاً بسرعة، مثلاً الدعوة الفرنسية لمسيحي العراق في الموصل، والملفت قبل الدعوة الفرنسية لاستيعاب مسيحيي العراق خطاب لساركوزي قال فيه إن مسيحيي المشرق البالغ عددهم ثلاثة ملايين في حينه مرحّب بهم في أوروبا. فالسؤال المطروح والمهم: لماذا استنفرت الولايات المتحدة الأمريكية كل قوتها الجوية حينما هددت داعش أربيل وأطراف المنطقة الكردية، ولم تستنفر قوتها الجوية، وتتدخل لمنع تمدد داعش حين تم احتلال الموصل. فهل لكونهم تجاوزوا الخطوط الحمر؟ وهو سؤال يمكن أن يطرح لأهميته البالغة.
أنا أتابع يومياً الصحف العربية والأجنبية وتقارير مراكز ما يسمّى بالعصف الفكري، وأود أن أنبّه أنني لم أطّلع في أيٍّ منها، ولا لأي أحد أشار من هذه الصحف والمراكز عن هذا الأمر، ما عدا روبرت فيسك، فهو الوحيد الذي أشار، إلى السبب الحقيقي الذي جعل الأمريكان يرسلون طائراتهم لقصف داعش في المنطقة. ففي مقالةٍ نشرها في صحيفة “الأندبندنت” البريطانية بتاريخ 10 أب/أغسطس، لخّص أسباب التدخل الأمريكي بما يلي: وجود أعداد كبيرة من الأمريكان في منطقة كردستان، ووجود نفط في كردستان بما يقارب حوالي 44 بليون برميل من احتياطي العراق البالغ 143 بليون برميل (143.1 بليون برميل)، يعني حوالى 35% (30.77%) من احتياطي البترول العراقي. بالإضافة إلى الغاز، فهناك شركة كلوبل أويل الأمريكية التي تعمل في كردستان، وهناك آلاف الغربيين الذين يعيشون ويعملون في أربيل، إذ تصل استثمارتهم إلى حوالى عشرة مليارات دولار. فشركات موبل وشيفرون وأكسون وتوتل لديها امتيازات ومصالح في كردستان العراق. وهؤلاء يحصلون حسب الاتفاقية المعمولة بها مع كردستان العراق بما يصل إلى 20 بالمئة من الأرباح. فالأمريكان ذهبوا دفاعاً عن المصالح النفطية الأمريكية وعن رعاياهم. ولكن لم تذكر أي صحيفة لا في أمريكا ولا غيرها موضوع النفط نهائياً، والوحيد (روبرت فيسك) الذي ذكر الموضوع. وحتى في احتلال العراق لم يذكر النفط كسبب، إلا أن كرينسبان الذي كان يشغل منصب حاكم البنك المركزي، وبعد ما ترك العمل نشر في مذكراته حين سألوه، ما هو سبب ذهاب أمريكا إلى العراق؟ أجابهم: “it was about Oil” . على أية حال، داعش هجّرت المسيحيين في الموصل قبل هذه الأحداث، ولم تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية، لأن أوباما في تدخله الحالي لحماية كردستان العراق من خلال القصف الجوي لداعش استخدم صلاحياته كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية التي تمكّنه في حالات استثنائية الدفاع عن المصالح الأمريكية من دون العودة إلى الكونغرس الأمريكي لمدة لا تتجاوز تسعين يوماً لاستخدام القوات العسكرية.
يعني هذا مؤسف للأقليات في المنطقة، وتحديداً الأقليات التي تعاني اليوم أكثر من غيرها. وطبعاً ما تعرّض له السنّة هو مثل ما تعرّض له المسيحيون، أو كما يتعرض له الشيعة وهذا يذكرنا بالمشروع الذي أصبح الآن تاريخاً، الذي كان يدعو إلى تهجير موارنة لبنان في القرن التاسع عشر لتوطينهم في الجزائر، وهو مشروع نوقش فعلاً في الخارجية الفرنسية ووزارة المستعمرات الفرنسية وطوي الملف في فترة ما. كما أن كلام ساركوزي الذي تكلمنا عنه سابقاً، والدعوة الفرنسية الحالية للمسيحيين في العراق، للأسف يبيّن لنا، أن التعامل الغربي مع مسيحيي الشرق يرتكز على أنهم ليسوا أبناء المشرق الأصلي، وليسوا جزءاً من حضارة العرب، ويعتبرونهم أقليات ممكن توظيفها واستخدامها بطرق مختلفة، بدون اعتبارهم نخبة ثقافية.
لو تصفحنا التاريخ ونظرنا إلى دور المسيحيين في دمشق في تحرير سورية وغيرها من الأمور، سنجد أنهم كانوا وطنيين، حتى إن الحركات الوطنية كانت أحياناً تجتمع في الكنائس.
لنتحدث قليلاً عن الموضوع السوري، ومن ثم قليلاً عن الموضوع الفلسطيني. ففي بداية حديثكم د. خير الدين تحدثتم عن صفقة شاملة بالموضوع السوري، يعني أن هذا الموضوع المتعلق بالعراق وكلام الرئيس الأمريكي إنهاء داعش في العراق وسورية يطرح مسألة النظام السوري، وتحديداً نظام بشار الأسد، خاصةً أنه في الفترة الأخيرة صدرت مجموعة إشارات إذا استعرضناها يمكن أن تساعدنا على تفكيك هذه اللوحة. فهناك تصريح لحسين شيخ الإسلام السفير الإيراني السابق في سورية، وسكرتير هيئة تشخيص مصلحة النظام الذي وجّه فيه إدانة قاسية لنظام الأسد، وكيفية تعاطيه مع الشعب السوري، ويحاول تبرئة ساحة إيران من القمع الذي مارسه الأسد خلال هذه الفترة. كما أنه لفت إلى منع النظام السوري لأول مرة بصورة بارزة المعارضة الشرعية السورية المتمثلة بهيئة التنسيق، أعني ما يسمّونها معارضة داخلية، منعها من الاجتماع في سورية، ومنع الصحافة من تغطية اجتماع هذا المؤتمر. كما أن هناك إشارة إلى الصمت المطبق للممثل الجديد للأمم المتحدة في سورية، فقد عُيِّن ديمي ستورا ولحد الآن لا شيء صرّح به. فهل هذا الصمت فيه تيقظ من إخفاقات الإبراهيمي أم أن هناك شيئاً ما يتحرك بهدوء يشبه العودة إلى جنيف1؟ فهل برأيكم د. حسيب أن الموضوع السوري طويل ومستمر حتى يصل إلى حلّ؟
أعتقد أن النظام السوري مثل الكثير من الأنظمة العربية، كالنظام الذي كان في العراق وفي ليبيا ودول عربية أخرى، هو نظام قائم على حكم الحزب الواحد بصيغ مختلفة كالحزب القائد وغيرها من الصيغ المختلفة، وفي هذه الدول تكون الحريات العامة غائبة والممارسة الحقيقة للديمقراطية غائبة أيضاً، ويتم فيها القضاء على أي بدائل أفضل من الحكم القائم، حتى إذا أراد أي أحد إحداث تغيير يقارن مع من سيأتي، ومع ما هو موجود، فيفضّل ما هو موجود. هذا الذي حصل في سورية هو نفسه حصل في العراق وحتى في مصر. وإذا تطرقنا لمصر بتاريخها وإرثها الحضاري، فهل يُعقل أنه ليس فيها إلا مرشحان لرئاسة الجمهورية، السيسي وصبّاحي، فهل هذا معقول؟ وهذا يعني أنهم قضوا على النخب، وحين تفتش عن بدائل فلا تجد.
حتى الرئيس الأمريكي أوباما قال في الموضوع السوري: حتى الوقت الحالي تجد الإدارة الأمريكية صعوبة في إيجاد كادر كافٍ من الثوار السوريين العلمانيين لتدريبهم وتسليحهم، ليست الإمكانات بقدر ما نتمنى. فالحقيقة هذه كما قلتم.
بالنسبة إلى سورية وقد أشرت في المقابلة السابقة، أن المقاومة الداخلية ليست المقاومة ضد الاحتلال مثل المقاومة الفلسطينية. فهي استخدمت العنف لذلك انتهت وفشلت، فالمقاومة التي قادت المظاهرات كان نفسها قصيراً فسارعت إلى عسكرة معارضتها بعد شهرين أو ثلاثة، والذين بدأوا بالمظاهرات عادوا إلى ديارهم، وتحوّلت المسألة السورية إلى شيء آخر.
الآن تشترك كلٌّ من تركيا والسعودية وقطر والأردن وأمريكا وفرنسا وبريطانيا في تمويل وتدريب وتجهيز المعارضة الموجودة. فإذا قارن أي سوري ما بين النظام وكل الملاحظات التي حوله، وبين هذه المعارضة التي تعمل على إسقاط النظام، فأيهما يختار؟ لم يكن هناك بديل أفضل من النظام مع كل الملاحظات حوله، بالإضافة إلى أن النظام قام بنوع من العمليات التجميلية كتعديل الدستور، وإلغاء المادة الثامنة التي تتحدث عن مركزية الحزب القائد. ولكن أخذ الرئيس جميع الصلاحيات بما فيها الصلاحيات القضائية. كما أصدروا قانوناً جديداً لتشكيل الأحزاب لأول مرة. أنا أعتقد أن النظام أجرى الانتخابات وهناك تغيير في الموقف الدولي تجاه سورية، إضافة إلى فشلهم في إيجاد معارضة لإسقاط النظام.
لقد جاء موضوع داعش الآن وأصبح له أولوية على أي شيء؛ ففي سورية يتقاتلون مع بعضهم بعضاً، داعش مع النصرة، وأحدهم يصفّي الآخر، وإن بأسهم بينهم. ولا بدّ أنكم تابعتم خلال الأيام التي مضت ما حدث في حلب، وما حدث قبل أيام في المليحة، هذه الأمور جميعها تجعلني أعتقد أن النظام في سورية لم يخرج من عنق الزجاجة فحسب، بل خرج من الزجاجة. واعتقد، وقد أكون مخطئاً، ولكن بناء على بعض المعلومات التي حصلت عليها، أننا سنشهد تغييراً في الموقف الغربي تجاه سورية، وسيكون التركيز بالتعاون مع سورية على تصفية داعش. النظام لم يعد مستهدفاً، وقد قلت في مناسبة سابقة، وأكررها الآن، إنه قبل نهاية السنة هذه سينتهي موضوع سورية إلى حل، وسينعكس ذلك على لبنان إيجابياً، كما أن الجيش الحر سيكون قد انتهى أيضاً.
هل يمكن ربط ما قلته مع إشارات التحرك على خط العلاقة المصرية-السعودية، وعلى خط العلاقة الدولية بين مصر وموسكو، والحديث عن اتفاقيات اقتصادية، ومنطقة تجارة حرة، ومنطقة تجارة صناعية وتسلّح. وهناك أيضاً كلام على دور مصري في تطبيع العلاقة مع النظام السوري كتعاون مخابراتي بين البلدين، وهناك إشارات لتواصل مستمر بين أجهزة الدولتين؟
أنا أعتقد أنه ستكون هناك جهود روسية أمريكية غربية لصالح النظام لتحسين صورته دولياً، ولربما بعد زيارة السيسي لموسكو تكلم عن جنيف 3. وعلى النظام السوري أن يستبق الأحداث ويدخل تعديلات جديدة على الدستور، وتعديل القوانيين، بحيث يكون هناك حد أدنى للتغيرات نحو الديمقراطية.
هل الأمريكان باتوا منذ فترة طويلة مضطرين إلى الاعتماد على دور أساسي لروسيا في المنطقة، فهل يمكننا أن نستخلص د. خير الدين حسيب، أنه لغاية الآن بعد رحيل المالكي ومجيء العبادي هناك تقنين للدور الإيراني في المنطقة، وفي سورية سينعكس الأمر لحلحلة الوضع في العراق، وستأخذ إيران مسافةً عن سورية، ممهدة بذلك إلى إيجاد صيغ معيّنة، وقد أشرتم إليها، وماذا سينال لبنان من حصة، من ذلك؟
أنا أعتقد أن الإيرانيين أثبتوا خلال المدة من 1979 ولحد الآن أنهم دولة لديها مؤسسات، وليست نظاماً فيها حاكم مطلق. فالطريقة التي تصرّفوا فيها خلال الأزمة مع الولايات المتحدة الأمريكية تصرفوا بطريقة تدل على ذكاء وعمق وتخطيط وحكمة، وحكمة غير متوافرة في أي دولة من الدول المجاورة. وأعتقد أننا سنشهد ربما خلال الأشهر الباقية من هذه السنة اتفاقاً ما بين ايران والدول 5+1 في الحوار حول السلاح النووي. فإذا كان هذا التوقع صحيحاً ماذا تريد إيران من العراق أو الخليج أو مصر أو السعودية، فهي لديها نفط، وصناعاتها متقدمة، وبشكل طبيعي ستكون الأسواق العربية مفتوحة أمامها، والخليج حتى لو سحبت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا جيوشها من الخليج، وتم الاتفاق فعلاً على أمن عربي – خليجي، وأمن عربي – إيراني لحماية الخليج، فما هي مصلحة إيران في التدخل في الخليج أو احتلاله. أليس في دبي سوق مالي مسخّر لإيران؟ أليس العراق قائماً بدوره لحماية إيران أثناء المقاطعة. فكل شيء كانت إيران مقاطعة منه وممنوع عليها، كان يأتي لها عن طريق العراق، فكل شيء ممنوع كان هناك له رجال أعمال يستقدمونه إلى العراق، ومن ثم يذهب إلى إيران. وهذا ليس بالجديد، فهو كان معمولاً به حتى قبل فترة الحصار. فما هي مصلحة إيران بقيام علاقة استراتيجية مع سورية إذا لم تكن هناك مواجهة ما بينها وبين الولايات المتحدة الامريكية والغرب. وسورية إذا ما تمّت تسوية مسألتها فبماذا ستحتاج إلى إيران. وهذا يعني أن الوضع سيهدأ في المنطقة، وهذا الهدوء سيخدم لبنان.
يعني أن لبنان سينتخب رئيس جمهورية، ويعود العمل في المؤسسات، وهذه صورة متفائلة، ويمكن أن نشهد إعادة تموضع حزب الله داخل الحدود اللبنانية، لأن هناك مهمة أساسية حالياً هي مواجهة داعش وهناك حجة.
لنأتي على موضوع لبنان لاحقاً حتى لا نجعل موضوعه مقتطفات فحسب.
هل باستطاعة أوباما أن يظهر أكثر حزماً ويضغط أكثر على رئيس الكيان الصهيوني نتنياهو، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من أجل التوصل إلى اتفاق سلام مبني على مبدأ الأرض مقابل السلام؟ حيث قال أوباما يجب أن تبدأ الضغوط من الداخل، وقد أشار أن الرئيس الصهيوني بنيامين نتنياهو يحقق نسبة تأييد في الاستطلاعات أعلى بكثير من نسبة التأييد لي (الكلام لأوباما). كما أن هذه النسبة تعززت كثيراً نتيجة الحرب في غزة، مضيفاً، لذلك إذا لم يشعر ببعض الضغوط الداخلية، فمن الصعب أن يتمكن من تقديم بعض التنازلات الصعبة جداً، بما في ذلك معالجة مسألة بناء المستوطنات. فهذه المهمة صعبة، أما ما يتعلق بمسألة أبو مازن فالمشكلة مختلفة قليلاً، نتنياهو قوي جداً وأبو مازن ضعيف جداً بحيث يتعذر جمعهما معاً للتوصل إلى قرارات جديدة، على غرار تلك التي أبدى السادات أو ريغن أو رابين استعدادهم لاتخاذها. يتطلب الأمر قيادات تتطلع إلى أبعد من الغد في صفوف الفلسطنيين والإسرائيليين على السواء، وهذا أصعب شيء بالنسبة إلى السياسيين الذين ينظرون إلى المستقبل.
أنا اعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية في مفاوضاتها مع إيران تحاول أن تُدخل ضمانات لكي تطمئن إسرائيل، وتحول دون قيام إسرائيل بعمل انفرادي ضد إيران كقصفها أو غيره، وإسرائيل لا تقدر على هذا العمل وحدها، ولكن حتى لو أرادت أن تغامر فلابد من وجود مسوغ لذلك. ما يتعلق بالقضية الفلسطينية الآن فالمرحلة هي ليست مرحلة تحرير برأيي، بل هي مرحلة صمود وعدم إعطاء تنازلات، ومحاولة مع الصمود تحصيل أي تحسينات جزئية تتراكم. وأعتقد أن ما حصل مؤخراً في غزة والمفاوضات الجارية، بغض النظر عن وقف إطلاق النار المؤقت مرة 72 ساعة، وأخرى خمسة أيام، سيعطي الفلسطينيين فرصة ناجحة، وسيخرجون بمكسب مادي ومعنوي، وسيفتح معبر رفح، ويحل موضوعها، وأعتقد أنهم سيجدون صيغة تتمكن إسرائيل من قبولها بما فيها معبر رفح، والذي أميل للمصريين فيه. كما سيتم تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، وانتخابات وغيرها. ولكن القضية الفلسطينية وموضوع إسرائيل برأيي سيكون آخر حلقة من الأمر الذي يرتب دولياً الآن.
هناك معلومة عن حضور أمريكي مباشر في المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية مصرية، مع تأكيد تفويض مصر لإدارة هذه المفاوضات. ولكن هناك قصة ثانية تُروى عن المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، غير معلنة، مازالت تحت الطاولة؛ ففي خطاب أوباما في القاهرة، تضمن موضوعين يريد أن ينجزهما، وهما الموضوع النووي الإيراني بصيغة ما، والموضوع الثاني يريد أوباما أن يصل فيه إلى صيغة حل، هو موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي، وهما موضوعان طرحهما منذ زمن طويل. فإذا أخذنا الورقة المصرية وأخذنا موافقة إسرائيل على بعض المطالب في الورقة الفلسطينية، مثل الميناء البحري والمطار، وثالثها الفشل الإسرائيلي في اللعب على التناقضات فيما بين الفلسطينيين؛ فالقيادة الفلسطينية المتمثلة بقيادة السلطة الفلسطينية، وقيادة حماس، وقيادة الجهاد الإسلامي لأول مرة تشهد نوعاً من التفكير المحنك. نشهد بداية وعي لتوحيد القيادة الفلسطينية، خصوصاً أن إسرائيل تستخدم الآن ورقة داعش والنصرة والفصائل الإسلامية للاختراق.
لنعطِ أهميةً أكبر للجهاد الإسلامي ومواقفها المبدئية، وخصوصاً رمضان شلح قائد الجهاد الإسلامي. فإذا قلنا أن ما قدمته قضية غزة الأخيرة هو لا شيء عند بعض الآراء، فهي على الأقل قامت بدور كبير بإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد أن أهملت عربياً لسنوات طويلة، ولم تعد من أولويات جدول الأعمال العربي. والآن مسألة غزة جعلت القضية الفلسطينية في قمة جدول الأعمال العربي وقضية أولى.
ليس لدينا المعلومات الكافية، ولكن يمكن لأحدنا القول إن إنجاز الاتفاق النووي إذا ماتم مع إيران، فالمسألة سوف تكون حلاً جذرياً، لأنه سوف ينسحب على المنطقة ككل وعلى القضية الفلسطينية، ولأن بعض الأطراف الفلسطينية لها ارتباطات بإيران وتمويل إيران أولاً. وثانياً، بعض الإشارات التي ترسل مهمة، مثلا الاتفاق المصري مع السعودية مهم لتشكيل نواة محور عربي مع مجلس التعاون الخليجي، وقد وجّهوا تحذيراً لقطر، وأُعطيت مهلة في الاجتماع الأخير، أي أن هناك إصراراً على لملمة الوضع. ثالثاً، زيارة السيسي إلى موسكو برضاً أمريكي، يعني التعويل على الدور المصري في الموضوع الفلسطيني. ومشروع إعادة بناء ما تهدم في غزة انتقل وبرضاً أمريكي من أوروبا ومن النروج إلى القاهرة. كما أن هناك حملة لعقد مؤتمر لإعادة إعمار غزة سيعقد في القاهرة، هناك عدة إشارات تجعلنا متفائلين إلى حدٍ ما، على الرغم من عدم وجود مثاليات، بل هناك وجود سياسات في نظرية السياسة الواقعية التي هي السائدة، وليس غيرها.
قياس نتائج ما حصل في حرب غزة لا يقاس فقط بالمعايير المادية، مثلا قتيل مقابل قتيل، بل تأُخذ الحصيلة من خلال نتائج هذه الحرب المادية والمعنوية. فإذا كانت غزة المحاصرة من كل الجهات وتمثل جزءاً من فلسطين، والضفة الغربية لم تكن معها، وتمكّنت من أن تقاوم وتصمد. وحتى في أثناء المفاوضات الآن، الجهة التي تسبق في الموافقة على تمديد الهدنة المؤقتة واستمرار المفروضات هي إسرائيل وليس المقاومة الفلسطينية. فأنا أعتقد أن حرب غزة والمفاوضات الحالية سيكون لها نتائج سلبية هائلة على إسرائيل، وعلى مدى إمكانية استخدام هذه الضربات الجوية القاسية مستقبلاً في غزة أو جنوب لبنان أو غيرها. وستبين أيضاً أن ما حصل في غزة أعطى نهاية لمشاريع محمود عباس بخصوص المفاوضات، وما عاد من الممكن العودة إلى المفاوضات التي أخذت سنوات طويلة من دون نتائج، وسوف تقوي غزة الوحدة الفلسطينية في الداخل، وإذا تمكنت غزة بالقوة الموجودة فيها، سرايا حماس والجهاد الإسلامي، أن تصمد وتكوّن تراكماً لهذه النجاحات، خاصةً نجاحها في وضع القضية الفلسطينية وإعادتها كأولوية عربية، أعتقد أن هناك ما يدعو إلى التفائل المحسوب التدريجي على المدى الزمني المتوسط والطويل.
إن شاء الله هذا التفاؤل يقودنا إلى استكمال الموضوع السوري بشكل ينهي معاناة الشعب السوري أيضاً، وأن لا تنتقل الفوضى مما شاع على الأرض السورية إلى العراق وتحسين الوضع اللبناني. إن شاء الله ستحل الأمور في وضع العراق، والكلام يوحي بملامح ما في سورية، كذلك يضع لبنان في مسافة عمّا يجري في الوضع السوري، وهذا يريح اللبنانيين بأي حال، كل الأطراف، أي نعني تلك التي قاتلت في سورية. فهل من الممكن أن نقول إنه في أيلول سنشهد انتخابَ رئيسٍ للجمهورية في لبنان؟
أنا أحب أن أقول ملاحظة قصيرة حول لبنان، وضع لبنان يذكّرني بالعام 1960 أو أواخر العام 1959م، حيث كنت أحضّر رسالة الدكتوراه في جامعة كيمبرج في بريطانية، وكان الأستاذ المشرف يحاضر، وكنت أحضر المحاضرات التي أهتم بها والتي لا علاقة لها في أطروحته. وكان في إحدى المحاضرات يتحدث عن المشاكل الاقتصادية التي تؤثر في بريطانيا وقال: إن هناك في ميزان المدفوعات عجزاً كبيراً، وهناك وديعة من دولة خليجية كبيرة تعالج هذا الموضوع. فسأله أحد الطلبة ماذا سيحدث لو أن هذه الدولة الخليجية سحبت هذه الوديعة، فأجابهم بمثلٍ من طبيعة المجتمع البريطاني، وقال: الوضع يشبه امرأة جميلة تلبس فستاناً من دون علّاقات كتف ماسكة، فالذي يبقي الفستان معلقاً هو الخوف من أن يسقط الفستان. فلبنان باقٍ ضمن هذا الوضع من الخوف من سقوط النظام، مع كل الملاحظات حول النظام. فهناك اتفاق إقليمي دولي حول استقرار لبنان، ولكن هناك قضية بنيوية لبنانية، وهناك خلل في نسق القيم اللبنانية. اللبنانيون عموماً، مع استثناءات قليلة، ينظرون إلى الدولة على أن لهم حقوقاً عليها، ولكن ليس عليهم واجبات تجاه الدولة. والاعتبارات المادية لها أولوية في نسق القيم عندهم، وهذه تؤثر في كل القيم.
هناك نقطة نود الإشارة إليها، حتى نستكمل لوحة الحوار، وهي أن مبالغات سايكس – بيكو جديد، وترسيم خرائط جديدة أيضاً، كلاهما يحمل فيه مبالغات، ولكن السؤال المهم حول النظام الإقليمي العربي الذي يعيش أزمات، هو: هل يمكننا أن نقول إن المرحلة الانتقالية في العراق وإنجاز هذه الإشارات التي طرحناها يمكن ان تساعد ولو برسم آفاق حول إعادة التماسك لهذا النظام الإقليمي العربي مجدداً؟
إذا تحققت هذه التوقعات التي أشرنا إليها وبتقديري الشخصي، ولربما أكون مخطئاً، إن هناك احتمالاً جيداً يمكن أن يتحقق، فهذا سيساعد على لملمة النظام الإقليمي العربي الذي هو الآن مفكك، والذي هو لأول مرة خلال عشرين سنة الأخيرة، الخليج هو الذي يقود النظام الإقليمي العربي. وذلك لغياب دور مصر بعد كامب ديفيد، وانحسار دورها العربي، وغياب مصر هو أحد أسباب اختلال توازن هذا الجسم العربي. ولم يستطع أي نظام أو مجموعة أنظمة عربية أن تحل محل مصر. وقد حاولت السعودية وسورية ملء هذا الفراغ، لكنهم أخفقوا في ذلك. لذلك فإن دور مصر في معركة غزة الأخيرة كان تسويق السياسة الأمريكية في المنطقة. ولأن يعود الدور المصري العربي كما كان سابقاً، لأن الفروقات ما بين مصر وبعض الدول العربية الأخرى هي أقل مما كانت عليه في الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة، وبقدر ما يمكن النظام المصري الجديد أن يستطيع أن يستقل عن السياسة الامريكية والغربية، فأعتقد أنه قادرٌ على القيام بدور أكبر، ولكن هذا غير أكيد، لأنه لحد الآن غير واضح إلى أين تتجه القيادة المصرية الجديدة. وما هو موقفهم من كامب ديفيد، وما هو موقفهم من الديمقراطية، إذ هناك خوف مثلما حصل في خمسينيات القرن المنصرم، وبعد نجاح الثورة المصرية التي قادها عبد الناصر، أدّت إلى قيام انقلابات عسكرية متتالية في الدول العربية. وتصوروا كل ضابط يصوّر نفسه هو عبد الناصر، ويمكنه القيام بانقلاب عسكري. وهناك خوف الآن من عودة الحكم العسكري في مصر، وأتمنى أن نكون مخطئين. وقد يؤدي ذلك إلى أشياء مماثلة حدثت في خمسينسات القرن العشرين. ما أريد في النهاية أن أقوله هو أن السيسي والمرشح الآخر حمدين صباحي كانا أصغر من قامة مصر، لأن قامة مصر تحتاج شيئاً أكبر من هذا. فنظام مبارك قضى على النخب، على عكس تونس فالنخب كانت في الخارج ولم تمر بهذه المرحلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.