البا ما يصمت المبدع ويتوقف عن إبداع أي شيء.. يحدث ذلك فجأة.. وأحيانا بالتدريج إلى خبو الذبالة نهائيا.. لا ندري ما السبب: نفاد الزاد، نضوب المعين، هروب إلهام، انطفاء الموهبة، اضطرابات سياسية حلت بالبلاد فرضت الصمت.. الخ. رصداً للأسباب واقترابا منها، استطلعنا رأي كاتبين وشاعرة.
يقول الروائي التونسي كمال الرياحي: "نحن أمام صورتين للكتابة: الكتابة باعتبارها دربة يومية وصنعة تحتاج إلى لياقة مثلها مثل الملاكمة وكرة القدم. تحتاج أن نربي العضلات ونؤهلها للعب باعتبار أن الأدب أيضا لا يتخلى عن وظيفته ومعناه كلعب. والكتابة باعتبارها إشراقة مجهولة النسب ننتظرها كما ننتظر الوحي".
"الصمت في نظري دربة أيضا ولا يتناقض كما يبدو من أول وهلة مع الكتابة باعتبارها صنعة، فالصمت محفز للتأمل ولإعادة تغذية الخزان. وصمت الكتابة هو صمت في ظاهره، إنما هو مساحات البحث المعلنة للوعي وغير المعلنة، فنحن بين الكتاب والآخر نتحرر من ضوابط التخييل التي وضعناها لأنفسنا في الكتاب الأول الذي أنهيناه، وهي فترة الحرية الصغرى قبل ضبط قوانين جديدة للخيال .
ويمنحنا مثالا لرهبان الصمت الإبداعي من خلال عرضه لأنموذج مهم فيقول: "أهم الصامتين في تونس والوطن العربي هو الكاتب محمود المسعدي صاحب رائعة السد"، ويتساءل الرياحي عن صمت المسعدي واستمرار كتبه في الحياة بالقول: "هل توقف محمود المسعدي مثلا منذ الأربعينات عن الكتابة لأنه أفلس؟! لا أعتقد، بل توقف لأن مشروعه الجمالي والأدبي اكتمل وليس انتهى، ولذلك ظل يعيش بعد توقفه إلى الآن وكان المسعدي حيا كإنسان ولكنه صمت ككاتب". أما الشاعرة المغربية علية الإدريسي البوزيدي، صاحبة قصائد الومضة، فترى أن صمت الكاتب في أوقات الأزمات هو خيانة للحرف، وتستغرق في تصويرها للمشهد بالقول: "هو خيانة لهذا العالم الذي أنجبه ، فالمبدع مطالب بالحضور الفعلي، النزول إلى الشارع بكل ثقله، والمساهمة على أرضية الواقع بورشات تحسيسية جادة بعيدا عن المزايدات، للعيش بكرامة الانسان على هذه الأرض التي فيها ما يستحق أن يعاش". في ذات السياق استطلعنا رأي الروائي السعودي عواض شاهر العصيمي فقال: "أي سبب مما ذكرت في مقدمة هذا الاستطلاع، قد يكون له تأثير في صمت الكاتب وقد تكون هذه الأسباب مجتمعة، وقد يكون السبب هو النضوب الفعلي حيث لا إلهام ولا رغبة ولا وقود. خرس إبداعي نهائي ربما عاش معه الكاتب طويلاً دون ان يتصف بصفة كاتب". ويضيف: "مثلما عرض زميلي كمال تجربة محمود المسعدي دعني أعرض عليك رأياً أعجبني جدا، كان قد عرضه الروائي الكردي حليم بركات في إحدى حواراته حيث يقول على نفسه (أنا مثل شجرة الصفصاف، كلما كبرت في العمر تدلت أغصاني نحو جذوري) و يقصد بذلك العودة إلى مراتع ذاكرته الأولى وإلى جذوره ومنابته الباكرة، لكن هذا الوصف يصح في توقف الكاتب عن الكتابة بشكل حاسم، تتدلى أغصانه حول نفسه ثم يذوي في صمت حتى إغماضته الأخيرة". ويواصل العصيمي كلامه بالقول" "لكن كل كاتب لديه بالطبع شريط لاصق، عليه في نهاية الرحلة أن يضعه على فمه ثم ينام طويلا. كل ما زاد عن ذلك ما هو إلا ثرثرة مقرفة وفيضان كلامي ممل".