من المعروف أن السياسة هي تحقيق الممكن واستغلال الفرص المتاحة والاستفادة منها إلى أبعد الحدود، والقاعدة تقول إن الخطر والفرص صنوان متلازمان وذلك مصداقاً للقاعدة التي تقول أينما وجد الخطر انسلت الفرصة من خلاله، وأينما وجدت الفرصة انسل الخطر من خلالها فكلاهما متلازمان لا يفترقان والعبرة تكمن في كيفية استغلال الفرص المتاحة. وهي في الغالب تكون مصحوبة بالعمل الشاق وهذا سببه أن معظم الناس يفوتون الفرصة، ذلك أنها تقنص بالعمل الشاق ومن خلاله فليس هناك فرص مجردة من الجهد إلا في الأحلام. وإذا فشل المرء في استغلال فرصة ما فإن الفشل في الغالب يمهد الطريق للنجاح في الفرصة الثانية أوما بعدها لمن يملك الإصرار وعدم الاستسلام. نعم هذا الأمر ينطبق على السياسات العامة سواءً كانت للأ فراد أو الجماعات أو المؤسسات والشركات وحتى على السياسات الخارجية للدول. وهذا بالطبع ما نشاهده ونلمسه في سياسة المملكة المتوازنة على جميع المستويات فهي تستخدم شعرة معاوية وتحافظ على عدم انقطاعها في جميع الأحوال والظروف. وهذه مدرسة الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه- التي انتهجها أبناؤه الملوك من بعده ووصلت إلى أوج عنفوانها في عهد الملك عبدالله –حفظه الله– وها نحن اليوم نرى ونشاهد ونلمس نتائج تلك السياسة من خلال التئام شمل دول مجلس التعاون من جديد بعد سحابة الاختلاف العابرة التي انقشعت بعد اجتماع الرياض والتوقيع على اتفاق الرياض الإلحاقي الذي أعاد المياه إلى مجاريها بين دول مجلس التعاون من جهة ودولة قطر وجمهورية مصر العربية من جهة أخرى مما انعكس سلباً على نفسية وفعالية كل شامت وحاقد ومتآمر، ليس هذا فحسب بل إن زيارة الرئيس العراقي ومن بعده الوفد البرلماني والاتجاه إلى إعادة فتح السفارة السعودية في بغداد تمهيداً لاتفاق البلدين على التعاون في جميع المجالات بما فيها مكافحة الإرهاب والقضاء عليه، كلها تؤدي إلى نتائج تثلج الصدور وتفتح صفحة جديدة نحو تهدئة عواصف الإرهاب الهوجاء التي تعم المنطقة ناهيك عن إنها تفشل خطط المغرضين وهذا كله مرهون بحسن النوايا وصدق التوجهات. نعم لقد لعبت المملكة دوماً وأبداً دور إطفائي الحريق حيث كان همها دوماً وأبداً لم الشمل وتوحيد الصفوف وذلك على امتداد الساحة العربية والإسلامية والدولية. فجهود المملكة لا تنسى في هذا الخصوص ولهذا فهي اليوم المعول عليها في رتق شقة الخلاف بين تركيا ومصر وذلك حتى تتظافر الجهود وتتوحد من أجل محاربة الارهاب من جهة ومواجهة سياسة التوسع الإيراني والعربدة الإسرائيلية من جهة أخرى. ان الاختلاف في التوجهات لا يقف حجر عثرة أمام المصالح الاستراتيجية بأي حال من الأحوال حتى إن الفرقاء الذين على طرفي نقيض يمكن أن يتحالفوا في مواجهة العدو المشترك ومثل ذلك حدث عبر التاريخ المعاصر والقديم. إن المصالحة مع تركيا تؤدي الى تفويت الفرصة على من يستغل الاختلافات بين الدول العربية والإسلامية ودق إسفين الفرقة بينهم وتعميقها لاقتناصهم واحداً تلو الآخر، إن تركيا دولة لها أهمية استراتيجية من النواحي الأمنية والعسكرية والاقتصادية وهي الأقدر على تحجيم إرهاب داعش من جهة ومد يد العون للمقاومة السورية من جهة أخرى وبالتالي فإن التحالف معها لهزيمة الإرهاب أمر في غاية الاهمية. وإذا صاحب تلك الجهود العمل على محاصرة الارهاب في اليمن وإعادة الاستقرار إليه فإن تلك الجهود تصب في خانة المصلحة العليا لكل الأطراف حيث يساعد ذلك على تحجيم الإرهاب وضمان عدم تمدده وتجفيف منابعه وتقويض ملاذاته وكسر الكماشة الإيرانية التي تحاول إيران إبرامها حول المملكة بصورة خاصة ومجلس التعاون بصورة عامة. وإذا أضيف إلى ذلك العمل على استغلال الفرص التي يجود بها الزمن بين فينة وأخرى والتي يتمثل بعض منها في الاستفادة مما تفرضه تقلبات الحياة من فرص وخير مثال على ذلك ما قامت به إيران من جهود لاستغلال تفكك الاتحاد السوفييتي حيث تمكنت من شراء معدات وأجهزة ومواد متقدمة بأبخس الأثمان واستفادت من خبراء تلك الدولة عند تهاويها وكل ذلك كان له أهمية كبرى في بناء قدراتها العسكرية ومنشآتها النووية كما أنه مهد الطريق لبناء شراكة استراتيجية مع روسيا الاتحادية التي ورثت العملاق المنهار. بموجب تلك الشراكة وقفت روسيا الى جانب كل من إيران والنظام السوري رغم عربدتهما، وذلك لأن لها مع كل منهما حسابات مصلحة. وهي تتعرض اليوم لحصار اقتصادي من قبل دول الغرب بسبب تدخلها في جارتها أوكرانيا من ناحية ومحاولة تحجيمها ومنعها من أن تعود وتشكل قطباً ثانياً من جديد ينافس على الزعامة العالمية من ناحية أخرى. نعم روسيا اليوم تعاني اقتصادياً من جهة ومن العزلة من جهة أخرى وهذه فرصة أخرى تتكرر يمكن أن تستغل ويستفاد منها حيث يمكن أن يتم من خلالها تحييد روسيا ورفع يدها عن النظام السوري وهذا بالطبع يحتاج إلى من يقدم لها بدائل ومصالح تغنيها عنه أو تخفف من اعتمادها عليه، ولعل المملكة واحدة من الدول القليلة التي تملك أوراق التأثير. ولهذا كان لزيارة وزير الخارجية صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل إلى موسكو أكثر من علامة وأكثر من هدف فهل يعقب ذلك مزيد من الانفتاح معها من خلال زيارات لمسؤولين سعوديين ورجال أعمال يعملون على بناء جسور للتعاون المشترك وفتح نوافذ جديدة للمصالح المشتركة تساعد على تخفيف تحالف تلك الدولة مع إيران ونظام الأسد ويتيح لها حل جزء من عقدة الحصار الاقتصادي فالحياة دائماً أخذ وعطاء وهذه القاعدة تصبح أكثر قابلية للتطبيق لدى المضطر حيث لا حيلة للمضطر إلا ركوبها؟. ليس هذا فحسب بل إن انخفاض قيمة الروبل الروسي يجعل البضائع والتقنية والمعدات الروسية أرخص. بالإضافة إلى أن روسيا من أكبر الدول التي ليس لديها تعقيدات أو لوبيات تمنع المساعدة على بناء المفاعلات النووية ناهيك عن تواضع تكاليفها، فهل نستغل الفرصة المتاحة ونقتنصها قبل أن تغيب ثم نعود لنقول يا ليت (التي عمرها ما عمرت بيت) ألم يقل المتنبي: بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد إن تعدد مصادر السلاح ومصادر التقنية والبضائع وانخفاض تكلفة استيرادها أمر في غاية الأهمية خصوصاً في ضوء اتجاه أسعار البترول نحو الانخفاض مما يشكل هذا التوجه نوعاً من التوازن. نعم إن المرونة والعمل على تحقيق الممكن يعتبران جزءاً من الحكمة التي هي ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها والمرونة تقتضي اقتناص الفرص متى ما عنت فكثير منها لا يتكرر وإذا تكرر بعضها فقد تكون ظروف استغلالها غير مواتية، أما ظروف الحاضر فهي تقتضي استغلال أية فرصة تحلحل عقد الاستقطاب وترخي الحبال المشدودة وتوجد بدائل أمام المتشدد لكي يلين فليس هناك مستحيل في السياسة خصوصاً إذا كان البديل عدم الاستقرار والإرهاب والاقتتال كما هو حادث في العراق وسورية وليبيا واليمن وغيرها مما لا بد فيه من فك شفرة الاستقطاب الدولي التي تستحكم على أرض العرب حيث الحروب والإرهاب والاقتتال تدار بالنيابة. ومن المعلوم أن الاستقطاب هو سبب كل اختلاف مهما صغر. والله المستعان.