في زمن الطفولة .. دهشتي كانت كبيرة حينما أسمع أصوات التكبير للعيد .. " غداً عيد " .. " غداً عيد " .. سمعت الصغار يتنادون بينهم فرحين، أخذت أجري معهم مهللين بقرب قدوم يوم العيد السعيد .. يومٌ نستعيد فيه أفراحنا المفقودة، ونلملم السعادة التي شردت من بين أيدينا في جميع العام. لا أدري ما شأن الكبار وإحساساتهم، هل هم مثلنا نحن الأطفال أم لهم تفكير آخر ؟!، لا شك أن لهم تفكير مختلف ! .. فقد رأيت مسحة من حزن طافت على أفق جبهة أبي التي خطّ عليها الزمن أخاديد بمعول أيامه، ورأيت دمعة صغيرة حرص على إخفائها، تألقت ببريقها على عينيه الحانيتين الرقيقتين، ربما تذكر جدي أو جدتي اللذين ماتا قبل سنوات، أو تُراه تذكر فَقْد حبيب أو صديق، أو ربما كان جيبه يهتزّ خالياً ولا يدري ما يفعل تجاه تكاليف العيد ومتطلباته الكثيرة. لا أعلم بالضبط لماذا كان حزيناً هكذا ؟، لكنني كنت أشعر بالرغم من أنني طفل صغير أن الأمر يختلف عنّا نحن الصغار، حينما أكبر لن أفعل مثلهم .. سأكون كبقية الصغار لا همّ لهم سوى نشر الفرح والحبور في كل مكان. فتح أبي المذياع ليسمع تكبيرات العيد تصدح في كل مكان من عالمنا الإسلامي، مشاعر تهزّ كياننا، وتوحدنا نحن المسلمين في أرجاء المعمورة، ومع استماعنا جميعاً للمذياع ذهب عن أبي ما كان يقاسيه من آلام الحزن منذ فترة وجيزة .. صار بمقدوره الآن أن يبتسم، يأخذنا بين يديه ويضمنا ويقبلنا.. آهٍ .. كم هي جميلة ضمة الأب وقُبلته !، تعيد للطفل الثقة بنفسه، وتشعره أنه مرغوب ومحبوب بين أسرته، على عكس صديقي ( محمد ) الذي أخبرني أن أباه وأمّه أو أي أحدٍ من عائلته لا يقبله، بل كلهم كانوا يصرخون في وجهه، ولا يعرف عنهم إلا الصياح وإصدار الأوامر، هو حزين وربما انتقم منهم لإذلالهم إياه حينما يكبر كما قال لي، وطلب مني ألا أخبر أحداً !! أدركت أنني ابنٌ محظوظ بين عائلة طيّبة، أبي لم يستخدم العصا يوماً، أمي لا تعرف الصراخ، جدتي رحمها الله كانت تربينا بالحكايات وأقاصيص الأولين وحكمتهم، جدّي رحمه الله لا أعرف عنه إلا أنه كان يجلس مفكراً جلسة الحكيم، أمام مداعته ( رشبته ) لينفث من فِيهِ دخاناً ويحدثنا عن خبرته في الحياة، وهكذا نشأتُ محباً للعلم شغوفاً به، آخذاً من حكمة آبائي وأقربائي، ولولا ذلك لنشأت بليداً أبله، ولما استطعتُ أن أكتب سطراً من ذكرياتي التي تقرأونها. انسابت أيام العيد بأفراحها الباسمة، وأتى الزائرون والمعاودون من كل مكان ليتنقلوا بين بيوت منطقتي الجميلة، يدخلون من دار إلى دار كالنحل يطير بين أزاهير البساتين ليجمع الرحيق، أهالي الديار يتلقونهم بالترحاب والبِشر، ويقدمون لهم قربان الضيافة، ويطبعون على جبينهم قبلات الحب والتآلف. داعبني الكبار من أهلي وأصدقاء أبي، وأعطوني العيدية بعض دراهم حتى امتلأ جيبي بالنقود .. أسرعت فرحاً واشتريت كل ما أحبّ من ساحة ( الشيخنا جيناك ) تلك الساحة التي تبدو كبقعة من أرض الأحلام، نطوف في أرجائها في العام مرتين، كانت الساحة في ذلك اليوم تتزين بلفيف مبدع من الأولوان الجميلة .. ألوان الأزياء والمأكولات والألعاب والأهازيج وضحكات الأطفال، ومن فرط تكالبنا على الجري والشراء في الشوارع كنا لا ننتبه لدماء الأغنام المذبوحة أمام المنازل، فكنا ندوسها لنلطخ أحذيتنا الجديدة بحمرتها، أو تتفتت تحت أقدامنا الصغيرة إلا أن ذلك كان لا يوقفنا على التمادي والاسترسال في لهونا ولعبنا البريء طيلة أيام العيد. أحدثكم اليوم .. وأكتب عن ذكرياتي .. وأحلق في بوادي طفولتي وقد ناهزتُ ( قاربتُ ) الأربعين، ما أجمل ذكريات الطفولة عندما تنبجس .. حينما تنثال علينا بأيامها الرائعة!. اختلف الزمن كثيراً عما مضى .. اليوم كل شيء تغيرّ .. ولا يعني هذا أن نكفّ عن الفرح، ينبغي علينا ألا نستسلم لمصاعب الحياة، وإن كنا أحياء على قيد الموت !. بالرغم من أننا نواجه الظلم .. وعانينا طوال مشوار حياتنا من انهيار كثير من أحلامنا، إلا أننا يجب أن نستمر في الحلم، يجب أن نواصل التحليق .. وأن نسافر دوماً إلى أرض الأحلام إن لم يُكتب لنا أن نعيش فيها. كل عام نتمناه أن يحمل الخير لمن نحب .. وكل عام وجميعنا إلى رضوان الله أقرب.