أول صورة علقت في الذاكرة منذُ أن أدركت الحياة هي عندما كنت أرى أبي يومياً في المدرسة، كنتُ أحلم أن أصبح يوماً ما مثلهُ، أحمل حقيبة المعلم، كان يعتريني أمل بطفولتي أن أحمل الراية بعده وأوصِل هذه الرسالة العظيمة للأجيال المتعاقبة!! وعندما كنتُ أرى عمي ورفاقه، كل خميس عائدون إلى قريتنا من عاصمة المركز سابقاً - المديرية حالياً- لقضاء أجازة الأسبوع، كان الحلم يكبر ويتسع لأن أكون طبيباً أو مساعد طبيب أو أي وظيفة تنقلني من أجواء القرية المتكررة والرتيبة إلى العالم الخارجي – الذي كان أبلغ مدى لهُ في مخيلتي، هي عاصمة المركز (العوابل)- بعد أن يضع عمي حقيبته ويبدأ بالحديث، أسمع إليه بإنصات وأغمض عيناي وأقوم بدور الطبيب في مخيلتي.. كان الحلم يأخذني إلى هناك ، أتجول في أرجاء عيادات مستشفى لم أره من قبل..! وقبل إجازة العيد بأيام قليله، رأيت العساكر عائدين من معسكراتهم، فكبر الحلم أكثر وأتسع عالمي –الذي كان أقصى حدوده لا يتعدى عاصمة المركز- وبدأت أطمح إلى ما هو أبعد منها، أصبح حلمي أن أرتدي البدلة العسكرية، فيسرح خيالي بين عدن وحضرموت مرورا بكل المحافظات حسب الوصف وما كنتُ أسمع منهم. "بتلكؤ" وإصرار طالبت أبي أن تكون ملابس العيد عسكرية..لأعيش الدور.. لم يتأخر وفر لي الطلب فوراً. بعد أن أأخذ جرعة من النشوة والشعور بالزهو والأنفة عندما أقف أمام المرآة أستعدّ للخروج.. أرافق أبي إلى المسجد، لنصلي العيد، أجلس على أحر من الجمر أنتظر آخر تكبيرة..ثم أصطف مع الطابور الطويل عقب الصلاة، يمر الجميع أمامي بابتسامة عريضة، مرددين : من العايدين، ومستقبل زاهر أن شاء الله وأنا أعيش غمرة النشوة (هيبة البدلة) ويكبر بداخلي حلم المستقبل الزاهر كلّما سمعتهم يرددوه. ما أن تخلص مراسيم المعاودة، أنطلق لأستعرض في الشوارع والأزقة، أتخيل نفسي كأحد ضباط العسكرية العائدين قبل أيام للمشاركة في العيد. بعد أن أشعر بالملل من المرح واللعب و"القوارح" أترقب كما هو حال كل الأطفال في سني مفاجآت تنتظرنا مع الظهيرة.. لحظات يختلط فيها الشعور ويمتزج الفرح بالخوف، نترقب حدثٌ كبير سنكون على موعدا معه ككل الأعياد بعد ساعات الظهيرة..! ننتظر هذا الحدث بفارغ الصبر ليطل علينا "أمير العيد" ذاك المهرجان الكرنفالي المحكوم عليه بالإعدام حالياً، تحت حجة بدعة، وكل بدعة ضلالة. شنقوه بلا رحمة..! ذلك المهرجان الذي كان يبهج أهل القرية جميعاً صغيرهم وكبيرهم ويرسم على وجوههم الأبتسامه، ينزل فيه شخص مقنّع يمسك بيده ذيل الثور ويضرب كل من يقابل أمامه برفق والناس خلفه يرددون الزوامل الشعبية. هذا بالإضافة إلى حفلات البال التي ترافق أيام العيد وما قبلهُ من سهرات ومباهج، كل هذا التراث الجميل حكموا عليه بالإعدام وشنقوه أيضاً بدافع ديني لم يُنزل به الله من سلطان، كما شنقوا الوطن والدولة.. حتى أعيادنا لم تسلم منهم، مرت من فوقها جنازير ثقافتهم الظلامية، الوجه الآخر لجنازير دباباتهم الآلية التي مرت فوق أجساد أهلنا في كل مكان. من ثم بعد أن نخلّص فقرة "أمير العيد" تُنصّب الشبكة ويلعب الكبار كرة الطائرة أو كما نسميها (شبكة) ونحن نشاهد ونقلد الحركات.. حينها لم يكن أحدا يفكر بالقات شباباً وكبار ما عدى مجموعة بسيطة من الطاعنين بالسن لا يتعدوا الخمسة أشخاص فقط هم من يتناوله.. أما البقية لم يكن لهم على بال. هكذا وأكثر كانت لنا أحلام وتطلعات للمستقبل دون شوائب، كان الوطن يحمل بأحشائه جيل جديد على بعد خطوات من التمدن.. لكن تم وأده في المهد..! كابوس 7يوليو 1994م كان انتصارا للجهل والتخلف المشروع الذي يحمله اللصوص، وتاريخ وفاة للوحدة وأحلام روادها القوميين، وأيضاً كان تاريخ شهادة وفاة لتلك الأحلام البسيطة التي كنتُ أحملها في الطفولة قبل هذا التاريخ لم نكن نفكر بشيء آخر، كانت الطمأنينة تسود القلوب..وكانت المدنية هي من تزحف نحو الأرياف، عكس ما يحدث الآن تماماً، بل وصلت الأرياف إلى مرحلة لا بأس بها من التمدن، وأعتاد أهل القرى السلوك المدني. كانت الدولة كقوى بشرية حاضرة، وهيبتها وروحها أيضاً حاضرة، في المدن والأرياف والشعاب والوديان، والقانون هو السيد في ذاك الزمان، يُطبق على الجميع بلا هوادة.. لا يستثني أحد. كانت تنزل فرق بيطرية لمعالجة الأبقار والأغنام وكل ما لهُ علاقة، فما بالك بالإنسان!! حينها رغم صغر السن إلا إننا نشعر أن من حولنا حياة تليق بالإنسان، تعليم، صحة، عيش كريم، كنّا نشعر بإنسانيتنا ونستمتع بالحياة. دعوه أخيرة: من يبلغ عنا بن عُبادة إن بقي في هذا العالم بن عُبادة أصلاً..!! نحن جيل النكبة .. قولوا له أن حزننا كحزن اليمامة في أبيها، وإن جوابنا كجوابها على بن عُبادة..أريد أبي حياً..!! إلا أن عودة أبينا ليس كعودة أبيها مستحيلة..الدولة هي الأب والأمل الوحيد لنا في هذه الحياة، بإمكانكم إنصافنا وإعادة المياه إلى مجاريها، بأي الطرق والوسائل. من أجل الإنسان، من أجل الحياة، من أجل هذا العالم، قبل أن تتحول أجساد هذا الجيل إلى حشوات توزع الموت بعد أن كان يختبئ فيها حلم واعد بالحياة والخير للإنسانية أجمع ولكل ما له صلة بهما.