عقال ومشايخ ريمة يروون حقيقةَ مصرع المدعو "حنتوس"    انفجارات تهز مدينة تعز والكشف عن السبب الحقيقي والضحايا    الغارديان: إسرائيل استخدمت قنبلة زِنتها 500 رطل لقصف مقهى بغزة    ريال مدريد على موعد مع أرقام قياسية جديدة في كأس العالم للأندية    دخول 150 إرهابي أجنبي إلى لبنان للتخريب بتكليف من نظام الجولاني    الترب :السلام يصنعه أبناء اليمن بعيدا عن التدخل الخارجي    - خلاف حاد بين الغرفة التجارية ووزارتي الاقتصاد والمالية في صنعاء اقرا السبب    حمد الله تاسع مغربي يحمل الشعار الأزرق    ثنائية لونا تصعد بأمريكا لمواجهة المكسيك في نهائي الكأس الذهبية    هل يكتب عبدالرزاق حمدالله فصلاً جديداً من المجد مع الهلال في كأس العالم للأندية؟    إن لم يُنصَف الأكاديمي والمعلم اليوم، فأي جنوب سنبنيه غداً؟    بندر عدن.. ومآسي الزمن    "النمر" يكشف خطأ شائعًا: خفض الكوليسترول لا يقي من الجلطات والوفيات إلا باتباع طرق مثبتة طبيًا    الحكومة تنتقد تجاهل المبعوث الأممي لجريمة الحوثيين بحق الشيخ حنتوس    "ملائكة السيدة ماريا" رواية جديدة ل"عبد الفتاح اسماعيل"    تجاوز عتبة الخوف    من يومياتي في أمريكا .. أنتم خزي وعار وتاريخ اليمن الأكثر قتامة    العبسي كشف خبايا جريمة قتل في تعز واحتجز في صنعاء رغم تعرضه لمحاولة اختطاف    تعز.. طرفا الصراع يعتقلان ناشطَين مدنيَّين    مدير أمن المهرة يرأس الاجتماع نصف السنوي لمناقشة الأداء الأمني لعام 2025    تحت التهديد وتحت جنح الظلام.. الحوثيون يفرضون إجراءات مشددة على دفن الشيخ حنتوس    البنك المركزي بصنعاء يوقف ثالث شركة صرافة خلال يومين ويعيد التعامل مع 13 شركة ومنشأة    دراسة : ممارسة الرياضة تساهم في التغلب على مرحلة ما قبل السكرى    مفتاح يناقش آليات دعم وتطوير أداء مصلحة الدفاع المدني    إعلام العدو: حماس فكّت شيفرة تحرك جيش الاحتلال وتصطادهم ك "البط"    صنعاء: مناقشة سلاسل القيمة لمنتجات "الألبان والطماطم والمانجو واللحوم"    افتتاح مركز الغسيل الكلوي في مستشفى يريم العام    محافظ لحج يوجه بتشكيل لجنة تحضيرية لمهرجان القمندان الثقافي الفني التراثي    هيئة المواصفات تصدر تعميمًا بشأن الإعفاء الجمركي لمدخلات منظومة الطاقة المتجددة    وكيل وزارة الشباب يتفقَّد سير العمل بمركز الشباب للتدريب والتنمية    الشعيب: جمعية الحاجة قدرية توزع سبعون سلة غذائية لخمس مدارس في المديرية    الغرفة التجارية بأمانة العاصمة تعلن رفضها القاطع لقرار مشترك للمالية والصناعة بشأن حظر استيراد بعض السلع    20 ساعة يوميا تحول حياة أهالي عدن إلى جحيم    التعليم في جحيم الصيف وعبء الجوع    مخيم طبي مجاني في صنعاء    إيطاليا.. العثور على مدفن إتروسكي سليم عمره 3000 عام    حملة المرور في صنعاء اليوم تبدأ لمنع بيع الأدوات التي تتسبب بعدم الرؤيا    دورتموند ينهي مغامرة مونتيري.. ويصطدم بريال مدريد    في عاصمة الخلافة والاخوان المسلمين.. صدامات بسبب رسوم مسيئة للنبي محمد    لم تعد اللحظة لحظة "إخوان اليمن"    إسرائيل تتوعد الحوثيين.. والسفير الأميركي في تل أبيب يهددهم بقاذفات B-2    ريال مدريد يهزم يوفنتوس ويتأهل لربع نهائي مونديال الأندية    أركان دفاع شبوة يتفقد الجانب الأمني لمشروع الطاقة الشمسية بعتق ويؤكد توفير الحماية    مونديال الاندية : ريال مدريد يتخطى يوفنتوس الايطالي بصعوبة ويتأهل للدور المقبل    مارك زوكربيرك (شيطان الشعر الجديد) في عصر التواصل الاجتماعي    لماذا فضل الشيخ صالح حنتوس الكرامة على السلامة؟    الأمل لايموت .. والعزيمةً لن تنكسر    اليمنية تعلن إعادة الطائرة المتضررة للخدمة بعد فحص جوي للتأكد من جاهزيتها    الجوبة وماهلية ورحبة في مأرب تحيي ذكرى الهجرة النبوية    الكثيري يشيد بجهود وزارة الاوقاف والإرشاد في تنظيم موسم الحج ويؤكد أهمية ترشيد الخطاب الدعوي الديني    العثور على معبد ضخم يكشف أسرار حضارة انقرضت قبل ألف عام    بيع أربع قطع أثرية يمنية في مزاد بلاكاس    تصورات خاطئة عن الآيس كريم    استخراج 117 مسمارا من بطن مريض في لحج (صور)    - والد زينب الماوري التي تحمل الجنسية الأمريكية ينفي صحة اتهامها لابن عمها؟    الحديدة: صرف 70 مليون ريال مساعدات للنازحين    شركة النفط والغاز تنظم فالية بذكرى الهجرة النبوية    فوضى أئمة المساجد والمعاهد الدينية تؤسس لإقتتال جنوبي - جنوبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علم التاريخ في الحضارة الإسلامية
نشر في عدن الغد يوم 05 - 01 - 2018

كان عمل الإخباريين (المؤرِّخين) حتى نهاية القرن الثاني الهجري يقتصر على أخبار الأمم الماضية؛ منها العرب قبل الإسلام، والسيرة النبوية، وأحداث صدر الإسلام، إلا أنه اتَّسم في القرن الثالث الهجري، بالزيادة الواسعة في المادة التاريخية من حيث زمانها ومكانها، بدقة التحرِّي عن صحتها ووثوقها، كما أصبحت مصادر المؤرِّخ عن تاريخ هذا القرن أكثرَ دقة وضبطًا؛ لأنها تستمد مادتها من سجلَّات دواوين الدولة المختلفة التي كان يرأسها - عادةً - الكتَّاب المتميزون، وهو ما يجعل لمدوناتهم الديوانية أهمية كبيرة[1].
ولقد سجَّل المسلمون السيرةَ والمغازي أوثقَ تسجيل وأروعه، كما سجَّلوا - كملحقاتٍ لها - أخبارَ الجاهلية وأيامها وأنسابها، وأدبياتها وجوانبها الحضارية المختلفة، كما سجَّلوا - أيضًا - أخبار العرب قبل الإسلام وتاريخ الأنبياء السابقين، وتاريخ الفرس والروم وبعض الأمم الأخرى التي سمِعوا بها، وقد كانت مصادرُهم (المشافهة) و(المعاينة) والكتب المقدَّسة السابقة، وما يرويه الإخباريون - بالتواتر - والمهتمُّون بالأديان.
أما تاريخ (السيرة والمغازي)، فقد كانوا صانعِيه، وبالتالي فقد كتبوه بأعمالهم قبل أن يكتبوه بكلامهم، وقد كان المصدر هم أنفسهم، ولم يحتاجوا إلى مصادر من خارجهم، وقد توارثوها عبادةً ونموذجًا قبل أن يتوارثوها تاريخًا.
وقد كان (السَّنَد) و(النقل) بين التعديل والتجريح، هما الركيزة التي اعتمدوا عليها في نقل السيرة والمغازي؛ لكونها عبادة وتاريخًا في آنٍ واحد.
لقد اشتهر في مدرسة السيرة والمغازي عروة بن الزبير بن العوَّام (ولد سنة 23 ه)، وأبان بن عثمان بن عفان (ولد سنة 20 ه)، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزُّهْري (ت 134)، والوليد بن مسلم أبو العباس الأموي (ت 195)، وسعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي (ت 123ه)، وسهل بن أبي خيثمة المدني الأنصاري (ولد سنة 3 ه)، وشرحبيل بن سعد (ولد سنة 24 ه)، ووهب بن مُنبه (ت 114 ه)
وتوالى جيل الفتوحات وصناعة التحوُّل التاريخي:
عاصم بن عمرو بن قتادة (ت 119 ه)، وأبو روح يزيد بن رومان الأسدي المدني، من موالي أسرة الزبير بن العوام (ت 130 ه)، ومحمد بن عبدالرحمن بن نوفل الأسدي، ربيب الزُّبَيريين (ت 131)، ومحمد بن السائب الكلبي (ت146 ه)، ومُصعب الزبيري (ت 233)، وغيرهم كثير[2].
ثمَّ ظهر مِن بعد هؤلاء جيل المؤرخين الذين حملوا راية تقعيد علم التاريخ واستقلاله، ومِن هؤلاء:
ابن بكار الضبي (ت 222)، والجمحي أبو عبدالله محمد بن سلَّام البصري (ت 231ه)، ويحيى بن معين البغدادي (ت 233ه)، والخزاز أحمد بن الحارث (ت 258)، ثم المحدثون الذين حمَلوا أعظم أمانة في التاريخ الإسلامي؛ وهي نقل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، صحيحًا عن طريق التفرُّغ لجمعه وتمحيص صحيحه من موضوعه، وهؤلاء هم:
محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256)، وهو صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى في تاريخ المسلمين، وأول الكتب السِّتة المعتمدة لدى المسلمين، وله - إلى جانب صحيح البخاري - التاريخُ الكبير، الذي جمع فيه تراجم لنحوِ أربعين ألف ترجمة لرجل وامرأة من رواة الحديث، إلى جانب التاريخ الأوسط، والتاريخ الصغير، والتاريخ في معرفة رواة الحديث، والتواريخ والأنساب.
وثاني المحدثين بعد البخاري هو الإمام مسلم (ت 261)، وثالثهم الإمام الترمذي محمد بن عيسى السلمي (ت 279ه)، ثم أبو داود (ت 375ه)، ثم النسائي (ت 303ه)، ثم ابن ماجه (ت 275ه).
ولقد قدَّم لنا هؤلاء السيرة ممزوجةً بالتاريخ، وقدَّموا لنا كلامَ الرسول صلى الله عليه وسلم (موثقًا) أعظم توثيق، ولعلَّ توثيقهم - بل هو كذلك - لم يتوافر لكتب يزعم أصحابها أنها مقدَّسة، لقد كانوا يختلفون على (الكلمة) ويروونها بالروايات المختلفة التي وردت بها، ولم يسمحوا لأنفسهم بأدنى تغييرٍ أو استعمال (الأسلوب الخاص) أو الإيراد بالمعنى، كما كتبت كتب (مقدسة) كثيرة بأقلام تلامذة صاغوها بأسلوبهم الخاص، وبما بقي في أذهانهم من معلومات دون استعمال (للسَّنَد) أو (الجَرْح) أو ملاحقة للألفاظ نفسها حتى تصل الحقيقة كما هي، دون ظلال شخصية، أو تعبيرات خارجة لن تستطيع بالتأكيد التعبير عن الحقيقة، كما وردت بألفاظها الأصلية القانوني
وقد قام أبو حنيفة الدينوري (المتوفى سنة 282 ه)، في كتابه (الأخبار الطوال)، بتتبع ملوك الأرض من لدن آدم إلى آخر أيام المعتصم، وهي محاولة رائدة في حقل الفكر التاريخي الإسلامي، وقد راعى أبو حنيفة في (الأخبار الطوال) التسلسل الزمني في التاريخ، ولكنه انتقى الأخبار وَفقًا لمفهوم خاص في التاريخ العالَمي، فتوسَّع في الحوادث والحركات التي اختارها؛ مما جعل كتابه أقرب إلى أن يكون سلسلة أخبار يلتصق بعضها ببعض لتتوازن مع التاريخ الإيراني الذي يحتل المكان الرئيسي؛ فهو قبل الإسلام يهتمُّ بتاريخ الرسل كثيرًا، ويقدم صورة متوازية لتاريخ اليمن والجزيرة وبيزنطة، ويتوسَّع في تاريخ فارس، وبعد الإسلام يمر بفترة الرسالة المرور السريع؛ ليركز اهتمامه على تاريخ العراق وإيران[3]
وعندما ظهر اليعقوبي - أحمد بن إسحاق، المتوفى سنة 292 ه - قدم لنا صورة للتاريخ العالَمي، مبتدئًا بقصة الخليقة، مخصصًا جزءًا غير قليل من كتابه المنسوب إليه (تاريخ اليعقوبي) لجوانب التاريخ الثقافي، كما قدَّم صورًا من الاكتشافات، والعادات الاجتماعية، وتميز منهجه بالرجوع إلى المصادر الأصلية نفسها، فهو يرجع إلى العهدين: القديم والجديد عند حديثه عن اليهود والنصارى، وكتابه تاريخ موجز منظم، يتناول التاريخ العالَمي منذ الخلق حتى سنة 259 ه.
ومع أن خليفة بن خياط (ت 240 ه) في تاريخه الموجز المنسوب إليه، كان أسبق في الزمان، إلا أن ابن جَرير الطبري (ت 310 ه) يعدُّ البداية البارزة لمرحلة التدوين الموسوعي في المشرق، وقد قدَّم للمكتبة التاريخية كتابه العظيم (تاريخ الرسل والملوك) السردي التقليدي؛ دون الوقوف بدرجة مقبولة عند الدلالات التاريخية، فالتاريخ في رأيه كلامٌ في مسائل مادية حدثت، وأخبار ماضية وقعت، وهي وإن كانت تحتمل الصدق والكذب؛ إلا أنها تستخرج بالرواية والأخبار لا بالعقول والأفكار.
وفي رأي الطبري - أيضًا - أن التاريخ يعدُّ مجرد جمع للحوادث بروايتها المختلفة، دون ترجيح وتحقيق لتناقضاتها أو تأثيرها على القارئ بالحكم عليها[4].
وقد صدَّر كتابه الكبير بقوله: (وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه، بما اشترطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت مِن الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مستدلٌّ إلى روايتها فيه؛ دون ما أدرك بحجج العقول واستُنبط بفكر النفوس)[5].
لقد بحث الطبري في كتابه التاريخ (الخليقة) منذ (البَدْء) المتمثل في هبوط آدم عليه السلام من الجنة، وقصة قابيل وهابيل، وتاريخ الأنبياء منذ نوح وإبراهيم ولوط عليهم السلام، وذكر تاريخ الفرس والروم، وتحدَّث عن السيرة النبوية بَدْءًا من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بداية القرن الرابع الهجري.
ومن حسنات تاريخ الطبري أن مادَّته مِن أوثق المواد - فيما يتعلَّق بالتاريخ الإسلامي - لاعتمادِه على منهج (السَّنَد)، وأنه قدَّم معلومات كثيرة ودقيقة عن تاريخ الفرس والروم، وامتاز بالحياد والإنصاف والموضوعية.
وقد مثل المسعودي - (أبو الحسن علي بن الحسين الهذلي) المتوفى سنة (345 ه - 957 ه) - مع قربه من عصر الطبري، ومعاصرته له مرحلة أكثر تطورًا في الإشارة إلى بعض مغازي التاريخ.
وقد وصَلت إلينا من مؤلفاته بعض الكتب؛ أهمها: مروج الذهب، والتنبيه والإشراف، وكتاب أخبار الزمان ومَن أباده الحدثان؛ (بقي منه الجزء الأول وكان في ثلاثين مجلدًا)، وكتب أخرى ضاعت ولم يبقَ منها إلَّا اسمها؛ ولم يكن المسعودي مؤرخًا فحسب، بل كان مؤرخًا وجغرافيًّا معًا؛ فهو رحَّالة سائح يجمع مادَّتَه التاريخية من رحلاته الواسعة؛ فقد زار الحجاز، ومدين، وفلسطين، والسند، والزنج، والصين، وإيران، وجاب الساحل الشرقي للبحر الأحمر، وكان يُعنَى بأثر المناخ والبيئة الجغرافية فيما يناقش من قضايا التاريخ؛ معتمدًا على رحلاته وجدِّه في الاطلاع والجدل والتسجيل المستمر لِمَا يشاهده في رحلاته[6].
ونستطيع أن نُدرِك اهتمام المسعودي بتفسير التاريخ، فيما ذكره في مقدمة كتابه (التنبيه والإشراف)؛ تعقيبًا على بعض كتبه التي لم تصِل إلينا؛ فقد ذكر أنه تناول فيها الأخبار عن بَدْء العالم والخلق وتفرُّقهم في الأرض والممالك والبر والبحر والقرون البائدة والأمم الخالية الدائرة الأكابر، وتاريخ الأزمان الماضية والأنبياء وذكر قصصهم، وسير الملوك وسياساتهم ومساكن الأمم، وتباينها في عباداتها واختلافها في آرائها، وبحار العالم والخلجان والأنهار والجزائر العظام[7].
كذلك يعدُّ كتاب (تجارب الأمم) لأبي علي أحمد بن محمد - المعروف بمسكويه (ت421 ه) - واحدًا من أهم الكتب ذات الطابع الشمولي الموسوعي التي تمد الطرف إلى تاريخ العالم كله، وقد بدأه صاحبُه بما بعد طوفان نوح عليه السلام، وانتهى به إلى سنة 370 ه تقريبًا.
وفي الأندلس - مع بزوغ القرن الخامس الهجري - ظهرَتْ حركة تاريخية واسعة، وفي هذه الحركة نضج النظر إلى التاريخ، وتناثرت اجتهادات كثيرة في تفسيره، وكان باعثها هذه المحنة التي أحاطت بالأندلس على يدِ ملوك الطوائف؛ مما جعل المؤرخين الأندلسيين يتساءلون: كيف تسقط الأمم؟ وما أسباب سقوطها؟ ونبغ في هذه المدرسة كثيرون، على رأسهم شيخ مؤرخي الأندلس أبو مروان بن حيان القرطبي (المتوفى سنة 469 ه)، وصاحب كتابي (المقتبس، والمتين)، وأسرة الرازي، والإمام الثبت الفيلسوف المؤرخ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (المتوفى سنة 406 ه).
وقد قدَّم محيي الدين بن سليمان الكافيجي (788 - 879 ه) أقدم رسالة معروفة في نظريات علم التاريخ، وذلك في كتابه (المختصر في علم التاريخ) الذي كتبه سنة 867 ه (1463م)؛ ولئن كان ابن خلدون قد سبَقه، فإن ابن خلدون كان يبحث في التاريخ، أما الكافيجي، فكان يبحث في عملية كتابة التاريخ بصورة مباشرة، لقد حاول الكافيجي أن يُقدِّم معالجة لنظرية التاريخ نفسها، وكتابه (المختصر) أصيلٌ في طريقته وجودة كتابته وعلميته ومنهجيته.
وقد أجاب الكافيجي في الكتاب عن المسائل المتعلِّقة بخصائص علم التاريخ وغرضه وهدفه وفوائده، غير أنه كرَّس مجالًا أوسع للمعضلات الناجمة عن غموض كلمة تاريخ (العربية)، وعن مركز التاريخ بين العلوم الدينية الإسلامية[8].
أما شمس الدين السخاوي (المتوفى سنة 902) - صاحب (التوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) - فيُعرِّف التاريخ بقوله: (إن التاريخ فنٌّ يبحث فيه عن وقائع الزمان وحيثية التعيين والتوقيت، بل عما كان في العالم، وأما موضوعه: فالإنسان والزمان، ومسائله: أحوالهما المفصلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة الموجودة للإنسان وفي الزمان)[9].
ونقف عند علَّامة المغرب عبدالرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون - والمولود بتونس (سنة 732 ه)، والمتوفى بمصر (سنة 808 ه) - وقد اشتهر بابن خلدون نسبةً إلى جده خالد بن عثمان، وَفْقًا للطريقة المتبعة في المغرب في إضافة واو ونون زيادة في التعظيم.
والحق أن ابن خلدون مِن خلال موسوعته التاريخية (العبر وديوان المبتدأ والخبر) - لا سيما (المقدمة) (الجزء الأول) - يُمثِّل المفتاح الكبير الواضح القسمات، والمتكامل الرؤية والمنهج في إبداع فلسفته للتاريخ، وفي علم الاجتماع (العمران)، بل إننا نستطيع أن نقول مطمئنين: إن الكتابة التاريخية في الحضارة الإسلامية والإنسانية ينظمها عصران:
♦ عصر ما قبل ابن خلدون.
♦ وعصر ما بعد ابن خلدون.
وليسَتْ هذه المكانة التي نعطيها لابن خلدون رأيًا عنصريًّا أو عاطفيًّا، بل هي حقيقة اعترف بها كبارُ فلاسفة التاريخ الأوروبيين، وسجَّلوها في شهادات صريحة واضحة؛ فإن أكبر مفسر أوروبي للتاريخ في العصر الحديث - وهو الأستاذ (أرنولد توينبي) "Arnold Twinbi" - يتحدَّث عن ابن خلدون في مواضع كثيرة من كتابه (دراسة للتاريخ)، ويُفرِد له في المجلد الثالث سبع صفحات (321 - 327)، وفي المجلد العاشر أربع صفحات (84 - 87)، وهو يقرر أن ابن خلدون قد تصوَّر في مقدمته ووضع فلسفة للتاريخ: هي - بلا مراءٍ - أعظم عمل مِن نوعه ابتدعه عقلٌ في أي مكان أو زمان؛ وفي المجلد الثالث (ص 322)[10]، وهو يقول عن ابن خلدون في الفقرة نفسها: (إنه لم يستلهم أحدًا من السابقين، ولا يدانيه أحدٌ من معاصريه، بل لم يَثُر قبس الإلهام لدى تابعيه، مع أنه في مقدمته للتاريخ العالَمي قد تصور وصاغ فلسفة للتاريخ تعدُّ - بلا شك - أعظم عمل من نوعه).
وأما المؤرخ العالَمي (روبرت فلنت) "Robert Flint"، فيقول عن ابن خلدون في كتابه الضخم (تاريخ فلسفة التاريخ): (إنه لا العالم الكلاسيكي ولا المسيحي الوسيط قد أنجب مثيلًا له في فلسفة التاريخ، هناك مَن يتفوقون عليه كمؤرخ، حتى بين المؤلفين العرب؛ أما كباحث نظري في التاريخ، فليس له مثيل في أي عصر أو قطر، حتى ظهر (فيكو) "Vico" بعدَه بأكثر من ثلاثة قرون، لم يكن (أفلاطون) "Plato" أو (أرسطو) "Aristotle" أو (سان أوغسطين) "Saint Augustine" أندادًا له، ولا يستحق غيرهم أن يذكر إلى جانبه...، إنه يثير الإعجاب بأصالته وفطنته...، بعمقه وشموله، لقد كان فريدًا ووحيدًا بين معاصريه في فلسفة التاريخ، كما كان (دانتي) في الشعر، و(روجر بيكون) "Roger Bacon" في العلم؛ لقد جمع مؤرِّخو العرب المادة التاريخية، ولكنه وحده الذي يستخدمها[11].
ويقول عنه (جورج سارتون) "George Sarton": (لم يكن فحسب أعظم مؤرِّخي العصور الوسطى، شامخًا كعملاقٍ بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ سابقًا: (ميكافيلي "Machiavelli"، وبودان "Budan"، وفيكو "Vico"، وكونت "Conte"، وكورنو "Cournot").
وبما أن ابن خلدون أسبقهم زمانًا وأبعدهم مكانةً، وكلهم كانوا عالةً عليه، فإنه في الحق الإمامُ لمدرسة فلسفة التاريخ، والفيصل بين مرحلتين حاسمتين في منهج البحث التاريخي، إنه بداية عصر جديد في الكتابة التاريخية، نستطيع أن نسميه بلا تحفظ (عصر ابن خلدون).
[1] أحمد عبدالباقي: معالم الحضارة الإسلامية، ص (37).
[2] انظر في دراستهم ومحاولة حصرهم: د. شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون (1/ 131)، وما بعدها، وانظر: د. سيدة إسماعيل الكاشف: مصادر التاريخ الإسلامي، نشر دار الخانجي بالقاهرة.
[3] د. شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون (1/ 249) دار العلم للملايين، بيروت.
[4] انظر علي أدهم: مقال بمجلة الهلال، عدد سبتمبر 1975، وانظر: محمد عبدالغني حسن: علم التاريخ ص (8).
[5] الطبري: تاريخ الأمم والملوك (1/ 5) طبع دار القاموس الحديث بيروت.
[6] د. عفت الشرقاوي: أدب التاريخ عند العرب (264)، ود. شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون (2/ 6)، نشر دار العودة، بيروت.
[7] د. عفت الشرقاوي: أدب التاريخ عند العرب (264)، وشاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون (2/ 6) مرجع سابق.
[8] روزنتال: علم التاريخ عند المسلمين ص (318)، طبع مؤسسة الرسالة.
[9] الإعلان بالتوبيخ ص (385 - 400)، بتصرف (بتحقيق روزنتال) وانظر: روزنتال: المرجع السابق.
[10] نقلًا عن: أرنولد توينبي: مقال بعالم الفكر المجلد الخامس، العدد الأول، الكويت.
[11] نقلًا عن: د. أحمد محمد صبحي: في فلسفة التاريخ: (11/ 135).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.