سيول الامطار تجرف شخصين وتلحق اضرار في إب    الرئيس : الرد على العدوان الإسرائيلي سيكون مزلزلًا    "وثيقة" .. مكتب اعلام الحديدة يستغني عن موظف بدون مبررات قانونية    *- شبوة برس – متابعات خاصة    رشاد العليمي: راجع حسابك لن تكون أخبث من صالح واذكى من الإرياني    القضاء ينتصر للأكاديمي الكاف ضد قمع وفساد جامعة عدن    السيد القائد: فضيحة سقوط مقاتلات F-18 كشفت تأثير عملياتنا    السيد القائد: العدوان الإسرائيلي على غزة "جريمة القرن" وتفريط الأمة له عواقب    ساعر: واشنطن لم تبلغ تل ابيب بوقف قصفها على اليمن    تكريم طواقم السفن الراسية بميناء الحديدة    باكستان تعلن إسقاط 25 مسيّرة "إسرائيلية الصنع" أطلقتها الهند    السودان.. اندلاع حريق ضخم إثر هجوم بطائرات مسيرة في ولاية النيل الأبيض    صنعاء .. شركة النفط تعلن انتهاء أزمة المشتقات النفطية    صنعاء .. الافراج عن موظف في منظمة دولية اغاثية    مطار صنعاء "خارج الخدمة".. خسائر تناهز 500 مليون دولار    اليدومي يعزي رئيس حزب السلم والتنمية في وفاة والدته    السعودية: "صندوق الاستثمارات العامة" يطلق سلسلة بطولات عالمية جديدة ل"جولف السيدات"    قالوا : رجاءً توقفوا !    المرتزقة يستهدفون مزرعة في الجراحي    ناطق الحكومة : اتفاق وقف العدوان الأمريكي انتصار كبير لأحرار اليمن    . الاتحاد يقلب الطاولة على النصر ويواصل الزحف نحو اللقب السعودي    التفاهم بين الحوثيين وأمريكا يضع مسألة فك إرتباط الجنوب أمر واقع    الكهرباء أداة حصار.. معاناة الجنوب في زمن الابتزاز السياسي    باريس سان جيرمان يبلغ نهائي دوري أبطال أوروبا    باجل حرق..!    بعد "إسقاط رافال".. هذه أبرز منظومات الدفاع الجوي الباكستاني    عدن تنظر حل مشكلة الكهرباء وبن بريك يبحث عن بعاسيس بن دغر    محطة بترو مسيلة.. معدات الغاز بمخازنها    شرطة آداب شبوة تحرر مختطفين أثيوبيين وتضبط أموال كبيرة (صور)    شركة الغاز توضح حول احتياجات مختلف القطاعات من مادة الغاز    كهرباء تجارية تدخل الخدمة في عدن والوزارة تصفها بأنها غير قانونية    الرئيس المشاط يعزّي في وفاة الحاج علي الأهدل    سيول الأمطار تغمر مدرسة وعددًا من المنازل في مدينة إب    الأتباع يشبهون بن حبريش بالامام البخاري (توثيق)    الزمالك المصري يفسخ عقد مدربه البرتغالي بيسيرو    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض رسوم جمركية على بوينغ    خبير دولي يحذر من كارثة تهدد بإخراج سقطرى من قائمة التراث العالمي    وزير الشباب والقائم بأعمال محافظة تعز يتفقدان أنشطة الدورات الصيفية    وزارة الأوقاف تعلن بدء تسليم المبالغ المستردة للحجاج عن موسم 1445ه    اليوم انطلاق منافسات الدوري العام لأندية الدرجة الثانية لكرة السلة    دوري أبطال أوروبا: إنتر يطيح ببرشلونة ويطير إلى النهائي    النمسا.. اكتشاف مومياء محنطة بطريقة فريدة    دواء للسكري يظهر نتائج واعدة في علاج سرطان البروستات    وزير التعليم العالي يدشّن التطبيق المهني للدورات التدريبية لمشروع التمكين المهني في ساحل حضرموت    إنتر ميلان يحشد جماهيره ونجومه السابقين بمواجهة برشلونة    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفاهيم التسامح، وأثره في تفكيك بؤر الصراع الاجتماعي
نشر في عدن الغد يوم 23 - 01 - 2012

إن دعوة «التصالح والتسامح» التي أطلقها مجموعة من نشطاء الحراك في 2006م، كانت دعوة ملهمة، وفكرة فارهة في معناها ومضمونها.
فالسياق الاجتماعي الجنوبي كان أشبه بجُزِرٍ متناثرةٍ وسط محيطٍ متلاطمٍ من الحواجز النفسية، وتاريخ حافل بالشك والريبة وعدم الثقة من الآخر، أو على أقل تقدير، الحذر والتردد في الدخول معه بأي مشاريع جامعة. وكان الحل الأمثل لأي فرد، في ظل ذلك السياق المتماوج، هو الانكفاء على الذات، والدوران في فلكها، والسير بجوار حائطٍ فرداني تُصُوِّر أنه يحمي.
وقد ساعد هذا السلوك "النظام اليمني" في تمرير مشاريعه بسهولة، يأتي في مقدمة هذه المشاريع، زيادة إحداث الخروقات، وزرع عوامل التفتت داخل الجسد المنهك لهذا النسيج ظنّاً منه أن ذلك سيُسهل عليه جرّه، والإمساك بخطامه!
ولقد جاءت دعوة «التصالح والتسامح» لتُعيد فتح قنوات التواصل بين شرائح وفئات المجتمع، وتمد جسور الترابط، التي تعمل على خلق وترسيخ مبدأي العيش المشترك والمصير الواحد في الوعي الجمعي. فولدت على إثر هذه الدعوة مباشرة، الحركة الجنوبية التي تحولت بعد برهةٍ قصيرةٍ جداً إلى انتفاضة عارمة تَعُم كل مدن ومناطق الجنوب، ولم تجد نفعاً كل أساليب القمع رغم إفراطها في استخدام العنف في منعها من التمدد مع مرور الوقت.
وحريٌّ بنا اليوم، ونحن نحتفل بمرور هذه المناسبة العزيزة على قلوبنا جميعاً، ونستعيد عبق ذِكراها، أن نتذكر، أنه لولا هذه القيم التي اصطبغت بها مسيرتنا النضالية ما كان لنا أن نتقدم خطوة واحدة.
وفي سبيل الحفاظ على هذا النمط من التقدم، علينا أن نوسع أفق قيمتي «التصالح والتسامح»، وأن نعمق حضورهما في ممارساتنا اليومية والعامة، وأن نشد عضدهما بقيم أخرى حتى لا ندعهما يبحران لوحدهما فتتكسر أشرعتهما عند أبسط هبة ريحٍ!
إن التسامح الذي ننشده ليس ذلك المفهوم الفوقي الهش كما تخبرنا به قواميس اللغة، ومنها لسان العرب لأبن منظور، أي بمعنى التساهل، والذي يوحي بالاعتقاد بأن شخصاً ما غير مقبول أو غير مرغوب به بشكل أساسي، أو أدنى منّا مرتبة، بيد أننا نتسامح معه من مبدأ الأدب واللياقة أو إيثاراً لمبدأ السلامة.
ولكي نفهم الأبعاد الكلية والشاملة للتسامح باعتباره أحد المبادئ الإنسانية الجوهرية وقانون أساسي ينظم للتنوع في مجال الحياة الإنسانية، وقبول التنوع حق أساسي للوجود كما يقول فولتير، وليس باعتباره أي التسامح منّة أو تَفضُلاً من أحد، علينا أن نطرق التسامح من كل أبوابه، وأن ندور حول أركانه وجوانبه لنتعرف عليه في مستوياته الفُضلى والأسمى.

لذلك، سيتطرق العنوان الفرعي الأول لهذه الورقة بالحديث عن «اللاتسامح»، فالشيء يُظهِر حسنه الضدُ. كما أن الجميع متفق على معنى «اللاتسامح»، وهذا سيساعدنا في إضاءة مفهوم «التسامح» الذي ننشده وتمييزاً لها عن المرتبات الأدنى في سلم معانيه، كذلك، وبحسب الأيطالي أمبرتو إيكو، فإن ألوان وممارسات التسامح قد يشوبها النفاق وتخفي في طياتها بعض التحفظات الذهنية، فإن اللاتسامح يتسم بالصراحة القاسية.[1]

اللاتسامح كحيوان مقزز في طبيعتنا المظلمة

يتحدث مايكل أنجلو ياكوبوتشي في كتابه الهام «أعداء الحوار: أسباب اللاتسامح ومظاهر» أن اللاتسامح في جوهره يتمثل في الانغلاق التام تجاه الآخر، وهو ظاهرة متعسفة، قديمة قِدَم الزمان، وبالتالي يمكن فهمها بالغريزة. إنها تتعلق بلا أدنى شك بشيء ما اعم وذو صلة بجانب طبيعتنا المظلم[2].
فلقد حدد فرويد أن «قلق الحضارة» في «غريزة الموت»، العمياء والمتسلطة، والجريمة، والهمجية، والإبادة الجماعية قد غُرِست بشكل لا رجعة فيه في جينات الجنس البشري سوى على المستوى الفردي أو الجماعي. فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يقتل بني جنسه بانتظام. ووفقاً لأراء الأنثروبولوجيين المعاصرين، لقد أصبح الإنسان سيد كل الحيوانات لأنه قاتل قبل كل شيء![3]
ومن المؤكد أن اللاتسامح ذو صلة بكل تلك الأمور، وهو في اغلب الأحيان عبارة عن سلوك عدواني عنيف، ولكنه لا يُعْرف فقط بالعدوانية والعنف، بل هو أكثر منهما. فالصدامات التي أدت إلى إراقة دم الإخوة والتي حددت تاريخ الإنسانية كانت تندلع في الغالب بسبب احتياجات موضوعية: الطعام، ماء البئر، ثم بعد ذلك في أعقاب تعقد التنظيم الاجتماعي، أصبحت تندلع لضمان مواقع مميزة في توازن القوى. ومن النادر أن يكن الدافع الأول هو الازدراء أو الكراهية، وغالباً ما كان المنتصر يندمج في المنهزم، بل وكان يتخذه مثالاً. أما قاموس اللاتسامح فيزخر بعبارات قاسية على شاكلة: "لا أطيق.. يرعبني.. يقشعر منه بدني". ويبدو أن الشعور السائد عنده هو الازدراء أكثر منه الكراهية. فالكراهية في واقع الأمر يمكن أن تكون شكلاً ملتوياً من أشكال الحوار والألفة، بينما لا يمكننا أن نكره من نعتقد أنه لا يوجد بيننا وبينه شيء مشترك!
و«اللامتسامح» هو إنسان متعصب، وعاجز عن النقاش، يفكر ويتكلم بمفرده، دون أي حوار، ويمكن أن يتكلم بمفرده أيضاً باستخدام ضمير الجمع، فقط عندما يتوجه بالحديث إلى رفاق المعركة.

والمتعصب كما يقول لاموس أوز في كتابه "ضد التعصب" هو أكثر المخلوقات غير النفعية على الإطلاق؛ فهو يريد أن يُخلِصك، يريد أن يحررك، يريد أن يُخلِصك من زلة الخطأ، من التدخين، من إيمانك أو عدم إيمانك، يريد أن يحسن عاداتك الغذائية، بالطريقة التي يراها هو، وبأسلوبٍ واحدٍ فج.[4]
ومن الأمر المعتاد جداً، أن يصل اللاتسامح إلى أكثر أشكاله حدة ألا وهو التعصب. لأنه يجعلنا نرى الحياة من منظور اختيارات إما... أو... واللامتسامح، وبدرجة أكبر من المتعصب، دائماً ما تحركه أحكام تقويمية سلبية أكثر من أي شيء آخر، ولديه إحساس بصوابٍ لا حيدة عنه. إنه دائم الحكم على الأشخاص والأشياء، ولكي يحكم عليها فإنه نادراً ما يستخدم مصطلحات مثل "تقريباً" أو نوعاً ما"؛ فبالنسبة له فإن الموقف الآخر هو "عبثٌ مطلق"، وهذا الفلان ما هو إلا " شخص أحمق تماماً"!

ومن خلال الانتقائية المفرطة وتعميم الأفكار والرؤى، وتضخيم المعطيات والأفكار المؤيدة لها، والتنكر للوقائع والمعلومات المعارضة، يندفع الإنسان في سبيل إثبات صحة ما يعتقد إلى استخدام كل الوسائل والأسانيد المتوفرة، بل هو يذهب حد اختلاق السلوكيات المكرسة لها، حتى أن الإدراك المعرفي والقناعة العقلية يظلان عاجزين عن التغيير لأنهما يلقيان مقاومة شديدة. وقد يصبح الشخص، في هذه الحالة، مشطور بين متناقضين، بين ما يصرح به ويسعى إلى إجبار الآخرين على اعتناقه، وبين ما يدافع عنه في الشعارات.
وكثيراً ما يتخطى اللامتسامح حدود التعصب البسيط. فذلك الأخير لا ينوي أن يتحرك ملليمترا واحداً عن مواقفه، ولكن يمكنه، رغم كل شيء، الإقرار بشرف بأن للخصم أسبابه لكي يتصرف بمثل هذه الطريقة. أما اللامتسامح فهو لا يرضى بالتزام مواقفه، والأمر الذي يضغط عليه أكثر من أي شيء آخر هو أن يكون على حق وأن يفرض هذا الحق على كل الآخرين.
إن الفكرة القائلة بأن اللاتسامح مرجعه الجهل لا تصمد أمام أي تحليلٍ متأن كما يذهب ياكوبوتشي. ففي أغلب الأحوال، "يرغب" اللامتسامح في الجهل، فهو لا يشعر بأي احتياج لتعلم أي شيء ممن لا يفكرون على شاكلته. إنه "يَعْرف" أن كل ما يعتقده هذا الآخر، كل ما يقوله أو يفعله هو خطأ محض، ولذلك فهو لا يريد أن يسمع أي شيء عنه![5]

التسامح كقيمة إنسانية:

في مقاله له عن الفضائل، يقول فلاديمير ينكيليفتش: « إن التسامح هو أفضل ما لدينا من أشياء، وعلى الرغم من كون هذه الكلمة ليست رنانة بالقدر الكبير، لكنها إحدى الحلول. انتظاراً أن ينجح بنو الإنسان في أن يحب بعضهم بعضاً أو على الأقل يتعارفوا ويتفهم كل منهم الآخر، أظن أننا محظوظون لأنهم بدؤوا في تحمل بعضهم البعض...».
إن التسامح، لا يعني بالضرورة، أن نحب الآخر المختلف، بقدر ما يوجب علينا الاجتهاد لاحترامه ولو بالقدر الضئيل.
فالتسامح، كما يقرر فيلسوف العلم والمجتمع كارل بوبر، موقف أخلاقي وعقلي ينبع من الاعتراف بأننا غير معصومين عن الخطأ وأن البشر خطَّاؤون، ونحن نخطئ طوال الوقت. وذلك خلاف موقف المتعصب الذي ينبع أصلاً من اليقين بصحة الآراء والتنكر لحقيقة وجود الخطأ في كل ما نعرف[6].
وفكرة التسامح الحديثة تقوم، بحسب إد. غوبلو، على أنه ليس على المرء التخلي عن قناعاته أو الامتناع عن إظهارها، والدفاع عنها أو نشرها، بل تقوم على امتناعه من استعمال جميع الوسائل العنيفة، والقدح والذم.، وبكلمة: يقوم التسامح على تقديم الأفكار دون السعي لفرضها.[7]

وفي وثيقة «إعلان المبادئ العالمي» الصادرة في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995 ربطت التسامح بحقوق الإنسان الشاملة وبالديمقراطية والسلم، وبالتالي ارتقت بالتسامح إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي. حيث ورد في البند الأول من هذه الوثيقة إعلان المبادئ حول التسامح الصادرة عن اليونسكو بصدد معنى التسامح أن مفهوم التسامح يتضمن العناصر التالية:
أولاً: قبول تنوع واختلافات ثقافات عالمنا واحترام هذا التنوع.
ثانياً: التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني، والحريات الأساسية للآخر.
ثالثاً: التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية السياسية والثقافية والديمقراطية.

رابعاً: إن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين.
وقد ربطت هذه الوثيقة، أيضاً، بين مفهوم التسامح والسلام على أساس أن هذا الأخير لن يرسخ كثقافة إلا بوجود الأول. فالتسامح شرط ضروري للسلم ما بين الأفراد كما بين الشعوب وهو بمثابة «التوابل» اللازمة لكل ثقافة للسلام.
إن إعلان المبادئ يحدد ليس فقط ملامح التسامح كما يتم ممارسته أو يبدو أنه يمكن ممارسته، ولكنه يهدف إلى التعايش بشكل أكبر وأعم. وهذا القبول والتقدير لأشكال التنوع ينتميان إلى نطاق آخر، أكثر ترفاً ونبلاً، ألا وهو التضامن.[8]

التسامح: كمحرض على التفكير الإيجابي
يقول عالم النفس ألبرت أليس إن الإنسان يهدر ذاته وإمكاناته، من خلال الوقوع أسير لمجموعة من الافتراضات الخاطئة والأحكام المعممة التي تتخذ طابع التصلب القطعي في الرؤى والتعميمات المبالغ فيها، من مثل أن الأمور خير كلها أو شر كلها، أو أنها إذا لم تكن كما نشتهي، فهي بالضرورة شر كلها، ومن مثل تعميم مأزق أو أزمة على الوجود، بحيث يبدو أنه لم يعد هناك خلاص ممكن، أو من مثل القطيعة الجامدة أبيض وأسود، أو أن الناس كلهم أشرار، ومن مثل أننا محكومون بماضينا ولا خلاص لنا منه، أو مثل الافتراض بأن هناك حلاً واحداً وحيداً لأي قضية، وأنها ستكون كارثة إذا فشلنا في العثور عليها.[9]

إن التعثر ليس مشكلة أبدية أو نهاية مأساوية يظل المتعثر مرهوناً لها إلى أخر الرحلة كما يقول نيلسون مانديلا، ولكن العظمة تكمن بالتأكيد في القيام بعد التعثر.
والتسامح بصوره الأسمى، يحرض على التفكير الإيجابي ليس تجاه الآخر المختلف فحسب، ولكن، وما هو مهم، تجاه الذات، فيكسر قواقع الرؤى المقفلة التي يسجن الإنسان اللامتسامح ذاته وتصوراته بداخلها.
والتفكير الإيجابي الذي يولده التسامح يكون الأساس في امتلاك الذات الواعية والفاعلة، أو بالأحرى استرداد الذات المضيعة والمختفية وراء سداً منيعاً من التصورات الجامدة، وصولاً إلى توجيهها حتى تصبح على صلة بما هي عليه، وما تشعر به وتفكر فيه وتفعله، وتتعامل بإيجابية مع الدنيا والناس. وعندما يمتلك الإنسان التفكير الإيجابي، ويصبح واعياً بما هو عليه وما يفعله في الحاضر (هنا والآن)، فإنه يبدأ في البحث عن الحلول والبدائل، ويتمكن من صنع خيارات أكثر معنى واتخاذ إجراءات أكثر فاعلية من استجاباته السلبية، كما يساعد على المجابهة واستيعاب التجارب بسلبياتها وايجابياتها. وعندها يتعلم المرء أن يحيا بمقدار تمكنه من أن يخبر وجوده، وليس أن يعيش مجروفاً في تيار الحياة، ويتعلم أن يتلاقى مع خبراته الوجدانية بدلاً أن يظل منجرفاً فيها وخاضعاً لها.

والتفكير الإيجابي يحرض أيضاً على إعمال النظرة الإيجابية أو الواقعية إلى الذات والآخر التي تحافظ على قوى الفعل والنماء، وحتى لو كانت الظروف غير إيجابية. كما يولد الإيمان المشترك في جماعة ما بقدراتها على تنظيم وتنفيذ الأنشطة المطلوبة لبلوغ هدف ما، أو مستوى معيَّن من الإنجاز. إنه ذلك المدى من الإيمان بالاستطاعة على العمل سوياً وبفعالية لتحقيق الأهداف المشتركة. ويطلق هذا الإيمان دافعية الجماعة لتعبئة إمكاناتها ومواردها، ويعزز من روحها المعنوية، ويزيد من تماسكها، مما يُعظّم من فرص نجاحها.

دور القائد في ترسيخ التسامح والوئام : مانديلاً أنموذجاً
للقائد دور كبير في توجيه دفة المجتمع سواء نحو تكريس الترابط المجتمعي وزيادة تمتين أواصر الترابط والتضامن، أو في اتجاه التشظي والتفتيت. وقديماً قالوا الناس على دين ملوكهم.
وبمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد التسعين للزعيم والمناضل الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، الذي برز ضمن أشد المقاومين لنظام الفصل العنصري «الأبارتهايد» في جنوب أفريقيا على مر العقود، ودفع ثمنا غاليا جراء نضاله المرير ذاك، فقضى 27 عاما سجينا في زنزانة بجزيرة روبن، نشرت مجلة «التايمز» الأميركية تقريرا للكاتب ريتشارد ستينغل عنونه ب «مانديلا: دروسه الثمانية في القيادة». وبين هذا التقرير كيف كان يلعب مانديلا بمرونة فائقة أدوار المحارب والفدائي والدبلوماسي ورجل الدولة من دون أن يخل بقوانين وقواعد أي منها[10]

ومن بين الدروس الثمانية، كان هناك درسان، الدرس الأول اسمه: «ضع أصدقاءك بقربك وضع منافسيك في موقع أقرب» يتناول نماذج وأمثلة متعددة في فن إدارة مانديلا لعلاقاته ليس فقط مع أصدقائه ورفاقه الأقرب إلى ثقة قلبه ومكنون وعيه، وإنما حتى مع منافسيه وخصومه في الحياة السياسية العامة ربما ضمن ذات المؤسسة وخارجها، فهو لا يشن عليهم حروبا شعواء ويزيد من عزلتهم ويشهر بهم ويخونهم، وإنما يحتويهم بمنتهى اللطف والرقة ويناقشهم ويستشيرهم، ومن بينهم زعيم الجناح العسكري بالمؤتمر الوطني الإفريقي كريس هاني الذي لطالما اعتقد أنه يتآمر على مانديلا، هو وغيره من قيادات المال والأعمال وشخصيات سياسية عكف مانديلا على الاتصال بها شخصيا للتهنئة أثناء أعياد ميلادها إلى جانب اتصالاته واقترابه من سجانيه الذين أصبحوا أصدقاءه من بعد!

والدرس الثاني تمحور حول أن «الحياة لم تكن فقط مع أو ضد» فعملية اتخاذ القرار هي عملية معقدة ودائما ما تكون هنالك عوامل متنافسة، ويتناول البعد البراغماتي من سيرة مانديلا الذي كان يقيم حساباته على أساس «ما هي النهاية التي أود أن أنشدها؟ ما هي أكثر الطرق عملية لبلوغها؟». إن رؤية الأشياء باللونين الأبيض والأسود فقط، كما يقول مانديلا، هو أمر ضد طبيعة الأشياء حيث المشكلة لها أسباب كثيرة ومنها جذورها التاريخية والاجتماعية والسيكولوجية.
حريٌّ بنا اليوم أن نتعلم من هذا الزعيم الملهم الذي حول ذلك البلد من غياهب العنف والتمزق إلى نور وجنة الرخاء والتنمية والازدهار، وليكن شعارنا دوماً ما قاله المنوّر الفرنسي الشهير فولتير: «إنني مستعد أن أموت من أجل أن أدعك تتكلم بحرية مع مخالفتي الكاملة لِما تقول»


* ورقة قدّمت في ندوة بعنوان "التصالح والتسامح.. نتجاوز الماضي لنبني المستقبل" القاهرة

12 يناير 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.