الحديث حول "العودة الى عدن " يحمل وقع الوعد الجميل الذي تتماسك عنده كل مفاهيم الانتماء الثقافي والحضاري والانساني لمدينة تكبر في أحلامنا كلما كبر في صدورنا الاحساس بالحرمان منها.عدن ليست غيمة شاردة فوق الخلجان المنسية، وليست رطوبة تدهن تجاعيد التلال البركانية، ليست أسواق السمك أو منصة للخطباء وليست مأوى للضالين عن جادة المستقبل بل هي عدن قرينة الحياة ورديف الوعي على سطح البقاء ... وفي أدبيات التكوين تكون عدن ضاحية الفردوس الشتوية وقلب الشمس الصيفي وفي الاغاني عدن تصبح أميرة البحور وملتقى المساء بعاشقيه . تلك القارة الصغيرة الشديدة الخصوصية ،تمسك بخاصرتها الامواج الزرقاء ليل نهار ، اجترحت تواريخ من العناء والمشقة وشاهدت ابناءها يتوزعون بين مواقع القهر والحنين. لهذا سيكون الحديث عن العودة الى عدن شاق وجميل في وقت واحد. وكما أسلفنا في وقت سابق بأن العودة الى عدن ليست رحلة في الاساطير ولا تتطلب شجاعة استثنائية لانها وبكل بساطة بديهية بل وضرورة كبيرة في هذه اللحظة التاريخية .نزيد على ذلك بالقول : أنه من الغريب أن لا تكون مسألة العودة القريبة الى عدن هدف أولي وبارز ومعلن لكل من يرى بأنه قد أخرج منها قسرا وبان عودته تشكل تلاحمآ ضروريا مع شعب الحراك السلمي ولإؤلئك الذين تعتبرهم الجماهير قيادات على مستويات مختلفة .وليست فقط القيادات معنية بهذا بل آلاف من الكوادر وطيف واسع من النخب المهاجرة الذين استقر بهم الامر في بلدان الشتات على وجه هذه الارض . ومع إدراكنا بأن العودة لا يمكن ان تتم بشكل فوري ونهائي لاسباب أمنية ومعيشيه وأسباب اخرى إلا ان حتمية وأهمية هذه المسألة تفرض على كل قيادات الخارج أن تتدارس بجدية وتحاول أن تجد منافذ للحديث مع جهات دولية وإقليمية لترتيب وضمانة عودتهم الى بلدهم بشكل تدريجي. ولا أحد سيصدق بان العالم لا يرغب بعودة النازحين الى أرضهم خاصة حين تصب هذه العوده في المساعده العملية على ترجيح كفة الاستحقاقات التاريخية لشعب الجنوب واحداث توازن كبير بين القوى السياسية في الشمال ونظرائها في الجنوب في سياق البحث عن استقرار وحلول عملية للمعضلات السياسية الكبيرة التي باستمرار تأزيمها تهدد المنطقة برمتها لما توفره من بيئة خصبه لانتشار الفوضى و التطرف باشكاله . وبإعتقادنا ان هذه الخطوة هي الاكبر والاهم لأحداث نقلة كبيرة وتحريك القضية الجنوبية على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي خاصة حين يرى العالم بان هناك إرادة تثبت نفسها على الارض وتظهر قدرا عاليا من التحدي والاستعداد للتضحية من اجل هدف مصيري. ومن هذه الخطوة التاريخية ستكتسب الجماهير ثقة اكبر بجدوى نضالها وتضحياتها وبمستقبلها و مزيد من المعنويات والطاقات الهائلة حين تحس بان عدن عادت الى حيويتها التاريخية وان الخوف من الانكسار والتمزق والاختراقات المؤلمة لم تعد مرجحة في الحسابات القادمة. إن إدراك الاهمية الكبيرة لهذه العودة يمثل أولوية في المعارف النضالية فالمكان هو الشرط المثالي والأول لتحقيق اي نصر محتمل لأي قضية عادله حيث تملأ عناصر العوده الفراغ الكبير الذي تشهده الساحة السياسية في الجنوب والتي تحاول عبثآ ان تملأها الشرائح السياسية التابعة ، والمتفرقة هنا وهناك بين الاحزاب والقيادات المحسوبة على السلطة في صنعاء . كما ان العودة ستخلق توازنا صلبا على الارض وتستعيد أمل وتفاؤل الناس بمستقبل قضيتهم وتعيد لهم إحساسهم بالامان والتغلب على الخوف الذي تحمله الرصاص وتهديدات وصول الارهاب المصدر الى عدن .والعودة هي احدى الضمانات الرئيسية لانتصار ارادة الجماهير في الجنوب حيث ستصبح مفعمه بالاعتزاز بان كل القيادات والنخب على مقربة من صمودها وتضحياتها ، وتحس بالإمتلاء الذي سيذكرها بأن عدن الأم اضحت تسير نحو استعادة حيويتها بعد زمن من التبعية والظلم والشتات ، كما انها تحفز كل الشرائح الصامته وتشجع العناصر المترددة على حسم موقفها تجاه قضية المستقبل . لا احد يدعي هنا بان ما نسميها بالقيادات الجنوبية هي جهة محددة ذات صفات متمايزة عن غيرها بل ان العوده المقصودة يجب ان تشمل كل ابناء الوطن بكل تواريخهم ومنعطفاتهم وتوجهاتهم قديمها وحديثها دون تحفظ او تفضيل هذا عن ذلك .وإن صفة( التاريخية) لاي شخصية قيادية هي صفة تحمل بعدا زمنيا اكثر منها تشخيص قدرات او تسويق ما لفرد بعينه او لافراد. عدن مدينة الماضي والمستقبل تعرف وتتعرف الى كل من يحمل همها على أكتافه دون ان تكون مطية لرغبات الفرد او التيارات او النخب.ونحن هنا لا نغفل الخلافات التي تحدث قدرآ هائلا من الكآبة والغضب بداخلنا ، ولا نغفل ان التخوف من اطالة أمد تلك الخلافات وتأثيرها على القيم الجديده التي تحملها ثورة الجنوب السلمية ، بات يشاغلنا . إن الجنوبيين منذ تاريخ بعيد يتعايشون مع خلافات قياداتهم في شتى مراحل الزمن الحديث منذ ما قبل الاستقلال ... وحتى في هذه اللحظات الدقيقة والصعبه لم تزل بعض القيادات أسيرة خلافاتها حول القضايا الرئيسه وطريقة التفكير واختلاف جوهري في الخطاب الى غير ذلك من سلوك لا يخدم ما يتوق اليه ابنا الجنوب قاطبة ولم تدرك بأنه لم يعد امامها متسع من العمر للاختلاف وأنه قد حان الوقت لأن تقدم خلاصة سنينها الان وليس غد في اطار موقف قيادي مسئول . ولطالما أحدث هذا النوع المتأصل من الخلافات شروخآ غائرة وسميكة في جسد وروح البشر ولهذا فان التحدي في هذا الزمن ، الذي انتجت فيه الثورات ، ومنها ثورة الجنوب ، فلسفة جديده للتعامل مع قضايا الشعوب على قاعدة النهج الديمقراطي والانساني الذي يجب ان تتحلى به اي قيادات كيفما كانت ومهما علا شأنها ، ذلك التحدي يكمن في : كيف تستطيع القيادات الجنوبية - وهي خارج السلطه ولا تمتلك جيوشا او مليشيات او اموال عامة - ان تضيق خلافاتها وتخفف من حدة طباعها بل وتشكل إطارآ موحدا بحدود الضرورة الملحة في شكله التنظيمي والعملي وقواعده النخبوية .. أو شكلآ تنسيقيآ متطورآ او ائتلافآ مشتركآ مستمدين من تجارب شعوب كثيره في مضمار معاركها المصيرية ، كهذه التي تزهق ارواح شبابنا واهلنا بشكل يومي بذات الرصاص التي فجرت حرب 94 وأخرجت الناس من ديارهم وأبعدتهم من الارض. إن هذه المقاربة العامة لحالة العودة المفترضة الى الجغرافيا الأم والى المنهج العقلاني لترشيد الخلاف واستثمار الحاجة الملحة لمواجهة التحدي على الارض وأشياء أخرى مرتبطة بهذا السياق ، ليست نزوة رومانسية ولا منتج فكري بمواصفات الخيال بل التوق والامل اللذان ادمتهما قسوة الزمان السياسي والتجارب المتلاحقة التي استنزفت حياة وبقاء الأمة في الجنوب منذ الفترة التي سبقت خروج اخر جندي انجليزي وحتى انتظار عودة المشردين من جحيم وحدة صاغوها على عجل واعلنوا امام الأمم أول حالة للتدمير الذاتي ، تحت نشوة الشعار ، في التاريخ المعاصر. ألا يستحق الجنوب بعد كل هذا ان نتنازل عن اي إستحقاق شخصي أو غلو أو شعور بالاقتدار او إحساس بمركزية الشخصية في هذا الخضم المتلاطم او أحقية وتنزيه الفكره التي يحملها هذا او ذاك .. وأن نربو فوق هشاشة التكتيك والامعان بالتراخي والصبر الممل والاقتداء بالرأي الخارجي على حساب عدالة قضية ، ومصلحة الجنوب . ألا يستحق الجنوب ان نلعن الاضواء والشاشات والطاولات الضيقة وجدران الصالات والصفقات السياسية والحوارات المجزأه والتعامل وكأننا ضيوف على التاريخ وأبناء غير شرعيين للجغرافيا الوطنية التي نختلف في تعريفها بعد ان أتينا من صلب معاناتها وصدرناها دون عنوان حقيقي لتذهب في الضياع خلال فترة مهمة من حياتنا تم فيها نهب الاعمار وسحق الامل في الحياة الطبيعية الهادئة... ألا يستحق ؟ نقول هذا ليس من أجلنا او من أجل شخص أو شريحة ولكن نقول هذا من أجل شعب يحلم في هذه الساعات بمستقبل تتحقق فيه كل عوامل الاستقرار بعد تاريخ الزلازل المتلاحقه. إن على القيادات أن تطور خطابها وتكسبه صفة ديناميكية بمنطق سياسي - حقوقي - إنساني بعيد عن تكتيك التكرار وحالات الإستنزاف السردي للوقائع والأحداث وأن تساق القناعات الجديدة نحو تطوير نموذج سياسي حداثي لما سيكون عليه الجنوب في المستقبل . وعلى تلك القيادات حسب رأينا المتواضع أيضًا أن تقدم نفسها كجزء من ثورة الجنوب السلمية وبأنها لا تعتزم العودة الى السلطة من أي بوابة كانت بل ان دورها ينحصر في تمكين الجماهير من تحديد مصيرها وأختيار مستقبلها وفقا لارادتها الخالصة النقية. وفي هذا السياق يجب التأكيد في نهجنا الاعلامي أن حل هذه القضية ينطوي على أهمية استراتيجيه لتحقيق الامن والاستقرار في المنطقه وان الجنوب سيكون شعبا مسالما لا يقبل التطرف او أن يتصالح مع مظاهر التخلف والعصبية ولن يكون هناك مكان لاعادة انتاج الماضي حتى بأدنى صورة له ... وان يفهم العالم بان الشعب في الجنوب لم يعد قادرآ على التعايش تحت مظلة المفاهيم المتكلسة للوحدة القومية والشعارات المنتفخة بمعاناته وآلامه والتي اثبت الزمن والواقع انها تكونت في لحظة ثورية رومانسيه غير واقعيه ثم تم ارتجال الكيفية المجحفة في تطبيقها وانتجت واقعا فصاميا شديد الخطوره بين الحقيقة والخطاب . وان تجربة الوحدة اليمنية بمفاهيمها القديمة قد انتجت تعقيدات سياسية واجتماعيه ومعضلات كبيرة داخلية كما انتجت تكريس للغلبة الساحقه للمجتمع التقليدي المحافظ بهيئاته وتراكيبه الاجتماعية التي تعيد انتاج ذاتها بشكل متضخم بإمكاناتها ووسائلها الممانعة لأي انتقال طبيعي الى المجتمع المدني . كما ان الوحده الغير متكافئة رسخت فكرة السلطة الطاغية ونمت شرائح رأسماليه قبلية وجهوية غير منتجة احتكرت العمليات الاقتصاديه المتاحه متطفلة على مشاريع الدوله والنشاطات المرافقة للاستثمارات الأجنبية في بعض القطاعات الصناعية وأنتجت في أعلى مراحلها دولة فاشله ممزقة الوجدان ، شكلت عبئا على الاقليم والعالم وتشكل معضلاتها اليوم تهديدا للامن. فاليمن ليست سكندنافيا أو وسط أوربا لتتحمل مشروع هائل فوق طاقتها بل ان الواقع اثبت بعد كل هذين العقدين من الوحده ان للقضية الشمالية بجذورها التاريخية خصوصيات محدده في أسبابها ومجرياتها ومصائرها لا تلتقي تماما مع قضية الجنوب (الذي يتم تصدير الأزمات من المركز اليه لتحويله الى ساحة ساخنه بغية بقاءه ضعيفا ومواليآ ).وأن الحلول تتطلب تفرغ تام كل أمام قضيته ومستقبله في اطار تنسيقي تكاملي بمفاهيم حضارية حديثة دون السماح للتجريب من جديد بمصائر الناس أو إعادة انتاج المراحل من قبل ذات القوى القديمه المتجددة. ولقد قدمت لنا الثورة في الشمال دليلا تاريخيا على هيمنة القوى التقليدية وقدرتها على التشبث بأعمدة الدولة والمجتمعات الشعبية مذكرة بذلك حالات مماثلة في تاريخ الشمال الجمهوري وإن اختلفت الالوان والوجوه والمسميات الا ان ألقوى هي ذاتها بأكثر قوة وقدرة على التلائم مع منتجات الواقع الحالي. إن مثل هذا التوجه في الطرح جدير بأن يتبلور ويتطور ليعكس خطاب ناضج حديث دون تكرار المفردات مثل نهب الثروة والاراضي والوظائف باعتبار تلك مجرد ظواهر وسلوكيات لسلطة غير محمودة. لكن الحقيقة تكمن في فشل الوحدة التي حملت تشوهات جينية لانها ببساطه لا تملك اي من الشروط الاساسية لبقائها وأن الجنوب لم يعد قادرا على الاستمرار كما أن اي سلوك لا يتعامل مع طموح هذا الشعب باختيار مستقبله يعتبر سلوكا لفرض أمر واقع بالقوة ويقود الى عواقب لا يتصورها احد. للحديث بقية...