كثيرا ما يعجب المرء بشخصيات وقامات إبداعية لها إسهاماتها وبصماتها الواضحة في حياتنا، سياسية كانت أو ثقافية أو اقتصادية أو غيرها من المجالات الأخرى، وليس بالضرورة أن نكون قد قابلناهم أو التقينا بهم في حياتنا، ولكن الضرورة هنا أن تكون أعمالهم وإسهاماتهم تلك لها تأثيرها الواضح على حياتنا وتشكل قيمة بالنسبة لنا ويستنفع بها الآخرون والمجتمع بشكل عام. وإذا ما شاءت الأيام والصدف للالتقاء بهم وجها لوجه فأننا حتما سنجدها فرصة سانحة للتعرف بهم عن قرب وعلى لسانهم قد نعرف المزيد، ليزداد معرفتنا بهم لميزة قد نكتشفها عن طريق الملامح أو نبرات الصوت أو الشعور بالأحاسيس، فتترسخ لدينا حينها انطباعات أخرى كانت غائبة عنا قبل معرفتنا بهم . هذا ما حدث معي وأنا اسمع منذ الصغر عن الشاعر الكبير الاستاذ/ احمد الجابري احد كبار شعراء الغناء منذ خمسينات القرن الماضي، ومن شعراء العامية والصفحة البارزين والذي استطاع ان يفرض نفسه كشاعر سعى جاهدا الى تشكيل عالم خاص يتميز به في مملكة الشعر الرحيبة، من خلال قصائده الغنائية والتي هي ثمرة شاعرنا التي كان يقطفها وهي ناضجة، وبقدر ملامستها للواقع ولإحساس الناس ولهموهم يكون جمالها ورونقها كيف لا وقد أشجانا بأعذب الكلمات والالحان التي تغنى بها اساتذة الطرب والغناء كالفنان احمد قاسم والمرشدي وايوب طارش وعبد الرب ادريس ومحمد عبده زيدي وغيرهم الكثيرون. ومن منا لا يتذكر اغنية اخضر جهيش مليان والمي والرملة وعدن عدن ويا مركب البندر وعلى امسيري ولمن هذه القناديل وخدني معك وغيرها الكثير والكثير من الاغاني التي تصدح بها الإذاعات والقنوات الفضائية واشرطة الطرب اليمني، ويتلهف كل من سمع عنه ويعرفه الى لقائه. شخصيا كان كل ما ينقصني عنه هو شرف اللقاء على الرغم من صلة القرابة التي تجمعنا. وقد استجابت لرغبتي الايام ذات يوم، حيث جاءت فكرة اللقاء سريعة وعن طريق الصدفة الغير متوقعة ومن دون سابق ترتيب، ولم أتردد حينها بالاتصال بزميل العمر الأستاذ/ علي عبد المجيد الشخصية الاجتماعية المعروفة كعادتي عندما ازور منطقة الشيخ عثمان لنحضر معا عدة لقاءات ولا زلت اتذكر القائنا الاول ومن الوهلة الأولى وأنت تعانق شاعرنا الكبير يجعلك تحس وكأنك تعرفه منذ أمد بعيد، حيث تبدوا على ملامحه البساطة وعدم التكلف، متواضع في سلوكه وخلقه، يدل مظهره الأنيق على سنوات أقل من عمره الحقيقي. وبأسلوبه الهادئ تركنا العنان لخياله الإبداعي للحديث عن تجربته في الحياة، والذي بدوره نقلنا إلى الماضي الجميل منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي وهو يتحدث برصانة وتحفظ تنم عن ثقافة عالية واطلاع واسع، حيث لا يبدو في حديثه اللامبالاة في انتقاء الألفاظ المناسبة، أو الإعجاب بالذات وهو يتنقل بنا من محطة إلى أخرى ومن موضوع لأخر دون صعوبة في المجال الذي برع فيه وهو الشعر والأدب ليمتد إلى مجال الاقتصاد وهو مجال تخصصه في إدارة الأعمال من جامعة القاهرة، مستخدما قدرته التعبيرية للغة، ومهاراته وملكاته الأدبية والتي قادر بها على قراءة الواقع الفني والثقافي وتشخيصه بقوة الإقناع وبشاعرية رائعة وإحساس مدهش دون ان تبدو عليه الفتور وقلة الاهتمام كما هو الحال عند الحديث عن السياسة. وبعد أن أحدث فينا حالة من المتعة والبهجة والسرور سرعان ما عاد بنا إلى الحاضر وهو يتحدث بألم وإحباط عن واقع الحال وعن النكران والجحود من البعض وعن وضع صحي وآسري مؤلم منذ أن عاد إلى ارض الوطن، ومن أناس كان يكن لهم كل المودة والحب الامر الذي ضاقت به المدينةعدن التي عشقها وحلم بها ذات يوم بان تكون مسير يوم، وآثر على نفسه الوحدة والانطواء في صومعته بمنطقة الراهدة بعيدا عنها، ومع ذلك لازالت عدن تسكنه ويسكنها، ولا زالت المي والرملة ابرز معالمها شاهدة على حب الرجل لها حتى اليوم وهو في سنوات عمره المتقدمة كما كانت شاهدة على ذلك من قبل في صباه. ومع كل ألامه وجراحه وامتعاضه يظل الرجل متماسكا وشامخا بقلبه الكبير وابتسامته التي تقاوم كل الأحزان والآلام وستظل سيرته العطرة تتناقلها الأجيال وسيظل التأريخ منصفا له بقدر أعماله وإسهاماته الذاتية لذلك الكم الهائل من قصائده الشعرية العاطفية والوطنية ومجموعة رباعيات ودواوين لم تطبع بعد الى يومنا هذا والتي تصلح كل منها أن تكون لوحة فنية بحالها. وكان الأصل بالنسبة لي في هذا اللقاء أكثر ثرا من الصورة، وكان من الإنصاف الحديث عن احدى القامات الثقافية والادبية وهي على قيد الحياة لنعطي للناس الانطباع بأن عمل هولاء وأدوارهم التي قاموا بها طيلة سنوات عطائهم هي محل تقدير واعتزاز وان مصدر السعادة بالنسبة لهم هو وصول التكريم إليهم دون أن يسعون إليه أو يلهثون ورائه.