جاء المساءُ مصطحباً ليلتَهُ المقمرة، واختفت النجومُ حياءً عندما أطل البدرُ مزهواً بنوره، ذلك النورُ الذي طغى على ضيائهن، فآثرت أن تعتكفَ بعيداً عن عيونِ الناظرين مترقبةً رحيلَهُ علّها تعودُ لتتناثر على صفحةِ السماء. قاطعها القمرُ بقوله: إنها ليلتي فارحَلْن فهناك من ينتظرني ليبوح لي بأسراره. اقتربت منه نجمةٌ على إستحياء لتسترقَ السمع بما يبوحُ به الليليون. فاجأها القمرُ بسؤاله: ما بالُك يا نجمة تقفين خلف كتفي؟ اقتربي ولا تختبئي حياءً، فأنا أعلم بوجودك وأعرف أنكِ تفعلين هذا مراراً وتكراراً منذ سنين. قالت النجمة: كنتُ تعلم دون أن تلتفت إليّ! أولم يضايقك فعلي هذا. رد عليها القمر: لا ضير في ذلك يا عزيزتي فالسماء الواسعة وطنُنا، وهانحنُ اليومَ نقف أمام فنان كبير متميز منفرد عبقري فضيع هو الموسيقار محمد صالح عزاني (عندليب عدن) بل عندليب اليمن من قاصيها لدانيها ... هذا لقب جديد أطلقهُ لأول مرّة على الموسيقار العزاني. فهل يكون لقب عبد الحليم حافظ أوحى لي بذلك ؟ ربما ؟ شبه كبير بين عبد الحليم (المصري) والعزاني (اليمني) بل أن الأخير صنع أو شارك في صنع تراث لأمته من عدم وهذا ما لم يتوفر مثله عند عبد الحليم الذي لم يكن موسيقارا بحجم عرّابه عبد الوهاب أو زميلة اللدود فريد الأطرش أو السنباطي أو القصبجي ولم يطرب سميعة المهدية واسمهان وام كلثوم ولم يكن من مشايخ طرق الغناء والعزف والتلحين كالشيخ ابي العلا والشيخ زكريا والشيخ سيد درويش... ولكن العزاني كان واحدا في كلّ وكلّ في واحد ، كان ممن صنعوا أو شاركوا في صناعة تراث أطلق عليه فيما بعد (اللون العدني) الذي لم يكن مرغوبا بالبت عند سميعة الغناء الصنعاني واليافعي وكذلك الغناء الصوفي والحضرمي واللحجي ... بل أن ما ابتكره وابتدعه العزاني كان الأبقى والأحلى مذاقا وما تزال صبايا اليوم تماما كما صبايا عدن في الامس تتلذذ بترديد وترجيع الحانه ونغماته وتترقص على ايقاعاته. تراث العزاني المبتدع والمبتكر والمخترع فاق جمالا ووصفا ما استورده من المدرسة القديمة للمرشدي ومحمد سعد والعطروش . أعداء العزاني ثلاثة : الغيرة / الحسد / الغضب : غيرة الزوجة في داخل البيت ، الغضب من قومه ، والحسد من بعض أصدقاءه وأعداءه في محيطه... أما الغضب وربما الاشمئزاز وعدم الرضا لم يكن ناتجا من أعداء بل أتى من قوم ترفض المساس بتراثها فرفضوا العزاني على هذا الأساس وحاربوه ، كانوا لا يرضون بالحداثة والآت عزف لم يألفوها وليسوا في حاجة اليها وموسيقى صاخبة متعددة الادوات مستوردة لا يعوزها تراثهم وبالتالي لم يرضوا عن العزاني وبدعته ، كانوا مهووسون في الغناء الصنعاني واليافعي ولا يقبلوا دخيلا عليه من خارجه ... وهذا ما حدث تماما مع القمندان والأغنية اللحجية لكن القمندان الأمير والأديب والشاعر والمؤرخ كان أذكى وأدهى من العزاني لأن التراث اللحجي قائم وموجود وزاد أن طعمه بالتراث اليافعي وخاصة الشرح منه ومزج بفطنته بينهما وجلب من الأهازيج الصوفية والأعراس الشعبية مما جعل الأمر مقبولا عند أهل الطرب والسميعة حتى تقاسمت المبارز والمخادر الدور فأصبح للصنعاني واليافعي أول ساعات المقيل وللحجي آخر السمر. وخرجوا من المعركة متحابين متصالحين. محمد سعد عبد الله و محمد مرشد ناجي وحتى طه فارع رحمهم الله تعالى جميعا كانوا تلامذة نجباء حتى برعوا فأصبحوا أساتذة في الغناء الصنعاني واليافعي ، ولم يخوضوا الأغنية العدنية الاّ في الستينيات وما بعدها من القرن المنصرم فقبل الجمهور منهم ذلك وتقبل أغانيهم ولو على مضض ما داموا على لحن الوفاء لتراثهم... وهذا ممّا فات على العزاني القيام به واتباعه ، وحسنا فعل ، إذ لولا إصراره لما خرجت علينا تلك الأغاني المشهورة بنكهتها العدنية حالية الذوق والمذاق... ولكن هل صدقوا فيما زعموا ؟ وهل كان العزاني مجافيا للغناء الصنعاني واليافعي على وجه الخصوص... أبدا ، لم يكن العزاني كذلك والا ما بلغ مسمعي عن مشروع (متحف العزاني) والذي قيل انه يحتوي على مئات المئات حدّ الألوف من الاسطوانات الحجرية والشمعية التي كانت في حوزته والخاصة بذلك التراث المخزون والمحفوظ للأغنية الصنعانية واليافعية واللحجية والحضرمية والصوفية وما توارثته الأمة اليمانية وتعاقبت عليه الأجيال تترى. والشبه بين عبد الحليم وبين العزاني كبير من هذه الناحية ، إذ أنّ عبد الحليم عندما خرج على جمهوره بأغانيه الشبابية لم يستسغها جمهور أم كلثوم وعبد الوهاب وحتى فريد وقامت الحرب عليه حتى ان من شراسة تلك الحرب أن انبرى المرحوم البروفيسور عبد الوهاب المسيري بإطلاق جمّ غضبه ونعت عبد الحليم بأوصاف لاذعة حتى حمله مسؤولية تدهور الغناء العربي وبأن سبب ظهوره نكبة على الطرب العربي .. هكذا يذكر المسيري... لكن ما رأي أستاذنا ومعلمنا الجليل وفيلسوفنا الأخير المسيري بالذين خلفوا عبد الحليم من بعده وأحمد عدوية أصحّ مثال ، ثم ما رأيه رحمه الله تعالى فيما نسمعه اليوم ونستمع اليه يجعلنا نشكر أحمد عدوية .. ذلك، أننا أصبحنا رغما وغصبا عنا سميعة أحباب الحمير والشبشب (أعزّ الله القراء) ... دنو ما بعده دنو ، ودناءة في الألفاظ والموسيقى والأغاني يستحيل وصفها ... اضمحلال واندحار وانحطاط للأغنية العربية كما تنبأ المسيري الذي يبدو أنه مات كمدا وقهرا وحزنا على حال الأغنية العربية في عصرنا حتى بتنا اليوم نترحم على زمان عبد الحليم بل وزمن عدوية. وإلى عدو العزاني الأخير وهو الحسد الذي حلّ في قلوب خصومه وأعداء نجاحه بل ربما حلّ ايضا في قلوب بعض الاصدقاء من محيط دائرته .. بغضوا نجاح العزاني فبغضوه وهكذا شأن الحاسدين دائما فإنهم يتمنون هلاك المحسود ولو كان في هلاكه هلاكهم. ظهور العزاني كان نقمة ونكبة على هؤلاء تماما كما هو نعمة على محبيه ومريديه وهم الأكثر عددا. بالرغم من قصر عمر مشواره الفني الا أن هذا الموسيقار الشاب قد أتى بما لم تأتي به الأوائل. سلاما على عندليب عدن محمد صالح العزاني ورحمة ومغفرة من الله تعالى.