نكتب عن المؤتمر الشعبي العام لا لشيء الا باعتباره ضرورة وعنصر توازن للحياة السياسية بين مراكز القوى الحزبية والاجتماعية المختلة في اليمن , وقد تحول جزء كبير منها بفعل الصراع المسلح على السلطة من بنى ومكونات سياسية مدنية ظاهريا الى مليشيات متماهية مع بنية وارضية نشأة التخلف الاجتماعي التاريخية الحاملة لها .. فعبرت بذلك اكثر عن تبعيتها واخلاصها المطلق لأسوأ قيم الماضي بمعزل عن شعارات ادعاء المدنية والتحضر .. نقول ذلك على فرضية إن المؤتمر لا يزال في عنفوانه كما تركه مؤسسه علي عبدالله صالح وليس بمعايير التحولات والخضات والتقلبات الفعلية التي عصفت منذ حركة فبراير الثورية بكل مسلمات وبديهيات ما كان سائدا او رتيبا على مدى عقود في مسار الدورة الدموية بجسد الاحزاب والمكونات الاجتماعية. نتحدث عن كيان وقوة سياسية إذا لم تكن موجودة بالفعل علينا إعادة إنتاجها وتشكيلها بأي ثمن على قاعدة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض). المؤتمر الشعبي العام غطاء وضرورة لخصومه قبل قواعده وقياداته وانصاره .. ويدرك الاصلاحيون كما الحوثيين( أنصار الله) والسلفيين خانة التصنيف والاستهدافات الإقليمية والدولية التي وضعوا فيها بعد بروزهم أكثر طوال سنوات الحرب الاربع والنصف كمراكز قوى عسكرية أكثر منها كتكوينات حزبية مدنية .. بل إن ابرز حسنات سقوط نظام صالح هي تطهير المؤتمر من مطية الاستقواء السياسي بالمؤسسة العسكرية التي فقد 95% منها .. * الإصلاح والاشتراكي ولعبة التوازنات * تتذكر قيادات حزب الإصلاح الاتهامات الدولية الموجهة لها بالخفاء بعد مقاطعة الاشتراكيين لانتخابات 1997م النيابية بدعوى رفضها عودة الحزب الاشتراكي الى واجهة الحياة السياسية .. وفي الواقع كان زعيم المؤتمر الذي وجه الاتهام لحليفه (الاستراتيجي) أكثر حماسة منهم للقضاء على كل شركائه السابقين واللاحقين ومنهم الدكتور قاسم سلام زعيم حزب البعث القومي العربي . وعندما التقيت الأستاذ محمد اليدومي أمين عام الحزب في مكتبه بصنعاء أوائل مايو 1997 م بعد الانتخابات قال لي بعد جلسة مصارحة صاخبة واعتراضي بشدة على استمرار تكفيرهم للاشتراكيين ما ملخصه: ( نحن الآن لا نطالب بتوبة الحزب الاشتراكي الدينية , بل نطالب بتوبته الوطنية) في إشارة الى اعلان بعض قادة الحزب للانفصال اثناء حرب 1994م .. وكلها مواقف كانت معلنة في الصحافة ومنابر ومحاضرات المساجد تصدرتها القيادات الفكرية الراديكالية في الاصلاح الى درجة ان فقهاء مثل الزنداني والديلمي وصعتر استفاضوا واسهبوا لسنوات في شرح وتحديد شروط ومرجعيات توبة الحزب الاشتراكي الدينية.. وبرغم عدم رضى حزب الإصلاح عن نتائج انتخابات 97م النيابية المخيبة (54) مقعدا فقط مقارنة ب63 في انتخابات 1993م السابقة , إلا أنهم على مايبدو كانوا مضطرين للتظاهر أمام الصالح باستمرار خصومتهم المفرطة للاشتراكيين , وقد رفضوا قبول حقائب وزارية عرضها عليهم لاستخدام مشاركتهم المحدودة بالحكومة الجديدة في تخفيف وامتصاص تبعات انفراده وحزبه بادارة وحكم البلاد. ولكن بعد عام ونصف أواخر 1998م فقط بدأت المعارضة بفرض لعبة توازنات جديدة على الساحة بتقارب حزب الاصلاح العقائدي الإسلامي مع خصمه اللدود الحزب الاشتراكي اليمني بتوجهاته اليسارية الذي سبق له عام1996 م مع مكونات أخرى مثل البعث القومي(قاسم سلام) وحزب الحق والتنظيم الوحدوي الناصري واتحاد القوى الشعبية والتجمع الوحدوي اليمني الى تشكيل ما يسمى ( مجلس التنسيق الاعلى لاحزاب المعارضة) واعقب ذلك الكثير من الصخب والاحتجاجات وعدم الرضى في صفوف قيادات وقواعد حزب الإصلاح المعبأة ضد خصومها الكفرة الفجرة .. وميزة هذه التحالفات أنها أفرزت معارضة شعبية متدرجة وقوية بمسمى جديد هو (احزاب اللقاء المشترك ) قوضت أركان النظام بعد ذلك في فبراير 2011 م بعد أن وصل المؤتمر الحاكم أقصى درجات الانفراد والاستحواذ على الرئاسة والحكومة والبرلمان ب(238) مقعدا من 301 مقعد , وترهل سلطته التي فقدت الإرادة السياسية في الاصلاح الإداري وتحسين الأداء ورمت بثقلها في النهاية نحو مشروع التوريث الذي أيقظ مشروع الحكم السلالي البديل من جبال مران في صعدة. * صالح والفرص الضائعة * كان حال صالح وحزبه بعد تخليهم القسري عن الرئاسة وسلطة الانفراد بالبرلمان والحكومة في فبراير 2012 م أفضل حظا من مصير الاشتراكيين الذين أسسوا لقيام دولة الوحدة اليمنية , وافضل حالا من شريكهم اللدود حزب الإصلاح الذي أسهم في التمهيد لانفراد الزعيم بالسلطة بعد القضاء على قوة الاشتراكيين العسكرية. لكن الرئيس السابق صالح سرعان ما فقد قدرته على التكيف مع ظروف وضعه الجديد بعد 33 عاما من الانفراد بالحكم ومغانمه رغم أن آخر احتشاد جماهيري أقامه في صنعاء أغسطس 2017 م قبل مقتله بأشهر أظهر ثبات حجم شعبيته على رغم العقوبات الدولية المفروضة عليه ونجله احمد , عدا انضمام بعض قيادات حزبه الى مائدة خصومه الإصلاحيين ونائبه الذي ورث كرسي الرئاسة. * خليفة الصالح * لم تؤثر تحالفات صالح الطارئة مع الحوثيين أواخر 2013 م على مكانة المؤتمر الشعبي الا بصورة نسبية , كما أن القرار التنظيمي الذي اتخذه نفر من أعضاء اللجنة العامة في الرياض بعزل صالح من رئاسة الحزب في أكتوبر 2015 م وتنصيب الرئيس هادي خلفا له لم تفلح ايضا او تؤثر في خلق حراك معاكس او مواتي لصالح الشرعية داخل المؤتمر .. وقبلها ايضا العقوبات الدولية بتجميد أموال صالح واسرته وأقاربه في الخارج ووضع اليد عليها ومنعه مع احمد من السفر في نوفمبر 2014 م. ويوجد في الأحزاب المنافسة من يغذي التباينات الداخلية والتطلعات الشخصبة لطموح القيادة والتنافس لتحويلها إلى هيروشيما موقوتة داخل المؤتمر. اما الخصومات المعلنة مؤخرا بين قيادات بين قيادات مؤتمر عدنوالرياض وأبو ظبي والقاهرة في معظمها تنازعات شخصية على المزايا والمغريات التي يوفرها الاقتراب من سلطة الرئيس هادي النسبية , ثم هي كذلك خلافات على حصص هبات أموال الرياض وابو ظبي .. دونكيشوتيات من أصحابها لا تتسم بالحد الادنى من النزاهة على الاطلاق. وفي الزفة تفتعل أيضا معركة تنصيب هادي رئيسا للمؤتمر التي لم تفلح في حياة صالح أواخر 2014 م ولا بعد موته , بدلا عن التوجه للحفاظ على المؤتمر التائه نفسه .. فليست المشكلة في من يخلف علي صالح في قيادة هذا الكيان المتأرجح بل في الرهان على إبقاء وحدة التنظيم متماسكة وواقفة على قدميها. الرهان على المؤازرة السياسية التي قد يقدمها للمؤتمريين التقارب مع احزاب فاعلة أخرى مثل الإصلاح او انصار الله وحتى احزاب السلفيين تعتبر اكثر فاعلية من أموال ضخمة تكرس لتفكيك المؤتمر وعزلته أكثر من لملمته. اما القول ان حركة فبراير 2011 م وحزب الإصلاح يقفون وراء تشظي المؤتمر والقضاء على زعيمه فنوع من الهروب وإعلان العجز عن مواجهة استحقاقات ما بعد خروج حزب السلطة الى الشارع. وفي السابق استمدت بعض قيادات المؤتمر المتحلقة حول مائدة هادي حظوتها ليس من تميزها او انجازاتها او مواقفها بل من بقاء الرئيس صالح على قيد الحياة , أما الآن فأهمية الالتفاف حول رئيس(جلده)بدون منافس قوي أشبه بعرض مجاني لزواج المطلقات .. وما تقدمه قيادات مؤتمر صنعاء لصالح بقاء الحزب ووحدته التنظيمية اكبر بكثير من الرهان على قيادات تسوق لمطامعها وحساباتها الشخصية في الخارج. * مرضى الزعامة في المؤتمر * التقاذف الإعلامي الأخير الذي بدأه ابوبكر القربي قبل اسبوعين ضد الشيخ سلطان البركاني وحديثه عن الطموحات غير المشروعة والنظام الداخلي ليس اكثر من نشر غسيل , فالبركاني كان سباقا في إدانة تحالف صالح - الحوثي وانضمامه مبكرا الى صف (الشرعية) , ولا يعيب عليه قبول رئاسة البرلمان او حتى سعيه الشخصي وراء ذلك فيكفيه دعم وتأييد عدد كبير من أعضاء كتلة المؤتمر النيابية من الشمال والجنوب وحتى كتلة حزب الاصلاح وغيرهم .. وما يعيب على البركاني الأكثر ديناميكية وقبولا من غيره هو اكتراثه بالردود على ترهات زملائه. اما معركة المهندس احمد الميسري الاعلامية وتصريحاته الاخيرة ضد الدكتور رشاد العليمي رغم ضراوة الاتهامات الموجهة للاخير والحاجة الى اثباتها إلا أنها تصلح كثيرا للمقارنة بين قيادات مؤتمرية تخوض معركة الوجود السياسي والمصيري على الارض وباقصى سخاء وتضحيات شخصية مكلفة وباهضة, وبين قيادات الابراج العاجية واصحاب البشرة الناعمة الملساء والخدود المتوردة والموز المقشر , جماعة ال( داخلين في الربح , خارجين من الخسارة) , فالميسري في ظروف استثنائية تمكن من لفلفة المؤتمريين وحال دون تشرذمهم في محافظات الجنوب وحافظ ايضا على مستوى مقبول من تماسك العلاقات بين قيادات وقواعد المؤتمر , ويتمتع فوق ذلك برصيد شعبي في أوساط غير المنتمين للحزب , فتتجاوز كاريزميته الى الاستقطاب وتجديد حيوية المؤتمر .. فلا يحتاج المؤتمريون إلى خصومات ومعارك مفتعلة لا يستطيعون دفع كلفتها ضد القوى والتيارات الأخرى , فنظام الرئيس صالح رحمه الله كغيره من انظمة الحكم العربية الفردية وصل إلى طريق مسدود فقد معه الارادة السياسية والقدرة على تجديد أسلوب إدارة سلطة الدولة بعد عقود من الاستحواذ على الحكم .. وبعد خروجه من السلطة اتيحت له فرص نادرة وثمينة في الممارسة السياسية دون غيره من حكام ضحايا الربيع العربي , أمثال بن علي , وحسني مبارك , والقذافي .. لكنه وقع في فخ تحالفاته القاتلة مع الحوثيين الذين فتح لهم حتى مخازن السلاح وتمكنوا من اسراره وخباياه .. ويخطىء من يراهن على بقاء وجود المؤتمر من كونه اداة مرغوبة موازية في مواجهة التيارات والجماعات الإسلامية او غيرهم من الأحزاب والقوى. فالمؤتمر الشعبي العام اليوم او في المستقبل ليس بحاجة إلى الخصومة مع نفسه او مع الآخرين , وعلى قياداته العليا والوسطية إن تقيس بدقة حدود علاقاتها ببعضها والتزامها بمرجعيات وضوابط النظام الداخلي والبرنامج السياسي واخلاقيات الميثاق الوطني. على المؤتمريين التفكير بالتحالفات والتصالحات قبل مراكمة تركة الخصومات القاصمة للظهر .. تحالفات حذرة ومدروسة لا توقع مجددا في فخاخ ردود الأفعال المدمرة التي أوقعت زعيمهم من قبل .. وسيجدون على الرصيف شتى انواع البضاعة السياسية , بين مزجاة اوصالحة للاستهلاك من قوميين وسلفيين واسلاميين وحوثيين ومستقلين .. ولكن عليهم معرفة من هم أولا وماذا يريدون وأين يضعون اقدامهم ولمن يمدون ايديهم ومتى وأين يوسدون رؤوسهم .. فلابد من تجاوز الصدمات والخضات والفجائع وحالات الذهول والتكيف العنيد معها , فلا يجعلون من موت الزعيم كربلاء جديدة او مزارا للذكريات والمواساة ولطم الخدود والمناحة والعزاء الطويل .. ولا يزال يؤمل في عقلاء المؤتمر قيادات وقواعد وأنصار ان يسمون فوق صنوف الكبوات بعقليات ونفسيات منفتحة تبذل وتضحي وتقدم ولا تنتظر من يجزل لها العطاء او يكافئها .. وعندها فقط يؤمل ان يكون المؤتمر متصالحا مع نفسه وغيره وقابلا للحياة والتجدد ولعب دوره المأمول في إعادة التوازنات المفقودة الى جسد الحياة السياسية المختل في اليمن.