المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية بات وضع الولاياتالمتحدة ك "قوة عظمى"، ومدى قدرتها على الاضطلاع بهذا الدور محوراً للعديد من الكتابات الأكاديمية، إذ أن انسحاب الدور الأمريكي من السياسة العالمية، وتقلصه بصورة أو بأخرى، يؤثر على بنية التفاعلات الدولية والإقليمية، سيَّما منطقة الشرق الأوسط الذي اعتادت الولاياتالمتحدة لعب الدور المحوري فيه، لاعتبارات تتعلق بأمن إٍرسرائيل، وأخرى خاصة بتأمين منابع النفط. وقد تجلى ذلك الانسحاب التدريجي من المنطقة، عقب موجة من التدخل العنيف إبان فترة الرئيس السابق جورج بوش الإبن، من خلال الانسحاب الأمريكي من العراق، والتخطيط لانسحاب كامل من أفغانستان بحلول 2014، بالإضافة لتخفيض عدد القوات المتواجدة بالخليج العربي بسحب اثنين من حاملتي الطائرات المقاتلة، وما يمثله ذلك من قلق لدول الخليج العربي التي كانت تعتبر الوجود الأمريكي يمثل توازناً وردعاً لإيران، خصوصاً مع اتجاه النوايا الأمريكية-الإيرانية للحوار. يعزز من الرأي السابق، الموقف الأمريكي خلال الأزمة الليبية، إذ اكتفت بدعم لوجستي ومخابراتي، بينما تصدر الناتو المشهد لإسقاط القذافي؛ ويتكرر السيناريو نفسه في مالي إذ تقوم فرنسا بالدور المحوري في مواجهة المتمردين الإسلاميين؛ هذا بالإضافة للموقف الأمريكي المتحفظ على دعم الجماعات المعارضة في سوريا بالسلاح، فضلاً عن فتور حماسها للتدخل العسكري لإسقاط نظام الأسد. وفي هذا السياق نشرت "الجارديان" مقتطفاً هاماً من كتاب الفيلسوف الأمريكي "نعوم تشومسكي" بعنوان "نظم القوة Power Systems"، وهو عبارة عن كتاب حواري حول الانتفاضات الديمقراطية العالمية، والتحديات الجديدة أمام الأمبراطورية الأمريكية، ويمثل "دايفيد بارسميان" الطرف المتسائل خلال الحوار. السيطرة على منابع الطاقة بالشرق الأوسط يقلل "تشومسكي" من أثر ثورات "الربيع العربي" فيما يتعلق بأمن الطاقة، لبقاء تلك الدول، وهي بالأساس دول الخليج العربي، بمنأى عن هذه الثورات، إلا أن هذا لن يدوم طويلاً إذ بدأت تلك الأنظمة، والسيطرة الأمريكية بالتبعية، في التآكل. فالاحتلال الأمريكي للعراق، على سبيل المثال، كان الهدف من ورائه واضحاً للعيان، لم يكن حباً في الديمقراطية، بل لأن العراق تعد ثان أو ثالث أكبر منبع للبترول في العالم، بالإضافة لوقوعها في قلب المنطقة الرئيسية الأكثر غنىً بالبترول في العالم. ومن الواضح أن الولاياتالمتحدة قد هُزمت في العراق، في معركة كانت للمقاومة السلمية فيها اليد الطولى، إذ لا يمكن للولايات المتحدة التعامل مع حشود نصف مليونية كما تتعامل مع المتمردين، ما دفع جورج بوش الإبن في 2007 للإعلان بشكل رسمي عن أن أي ترتيبات مع العراق يبنغي أن تتضمن شرطين، الأول حق الولاياتالمتحدة في شن هجمات قتالية من خلال قواعدها في العراق، والثاني هو تشجيع تدفق الاستثمارات الأجنبية، وبخاصة الأمريكية، للعراق، وهو ما أكده بوش في 2008 أيضاً، إلا أن الولاياتالمتحدة تخلت عما سبق أمام المقاومة الشعبية العراقية. ما سبق يدل على اتساق سياسات الولاياتالمتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ورغبتها في إعادة نظام السيطرة التقليدي، إلا أنها تعوزها القدرة لتطبيقه. أسباب تقلص السيطرة الأمريكية في حين يشير البعض إلى التراجع الاقتصادي للولايات المتحدة، كعامل من عوامل تقلص قدراتها ونفوذها، فإن "تشومسكي" يرى أن السبب الرئيسي هو أن العالم قد أصبح أكثر تنوعاً وتبايناً، على النقيض من الوضع في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حينما كانت الولاياتالمتحدة تملك وحدها نصف ثروات العالم، بينما يعاني منافسيها من الدمار، مما أهلها لوضع خطط قيادة العالم آنذاك، وفق خطة "المنطقة الكبرى Grand Area"، والتي وضعها جورج كينان، رئيس وحدة التخطيط بوزارة الخارجية في ذلك الوقت. يُشبه "تشومسكي" ما تتعرض له الولاياتالمتحدة الآن في الشرق الأوسط، بما سبق وأن تعرضت له في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وذلك عندما شاع تعبير "خسارة الصين"، و"الخسارة" وفق المفهوم الأمريكي تعني أن تتجه الدول أو المناطق لانتهاج سياسة مستقلة، وهنا ينتقد "تشومسكي" الافتراض الأمريكي القائم على "امتلاك العالم"، وهو اتجاه سائد لدى الجمهوريين بصفة خاصة؛ ورغم تقلص القدرة على السيطرة منذ السبعينيات، حين استقر نظام اقتصادي ثلاثي الأقطاب (الولاياتالمتحدة، وألمانيا، واليابان)، تبع ذلك ظهور قوى اقتصادية أخرى، إلا أن ذلك المبدأ الخاص بامتلاك العالم والرغبة في السيطرة لم يتغير كثيراً. وفي حين يرى الأكاديمي الصيني "وانج جيسي" أن أحد دعائم القوة الأمريكية تتجلى في حكم القانون والتقاليد القانونية، فإن عملية اغتيال "أسامة بن لادن" تثور حولها، والقانون الذي تمت بموجبه التساؤلات، فقد تم اغتيال "بن لادن" دون محاكمة، ما يتنافى مع أهم القواعد القانونية الأمريكية، كما تم إهدار مبدأ "المتهم برئ حتى تثبت إدانته"، والذي يمكن الرجوع إليه في وثيقة "الماجنا كارتا" المشكلة لمبادئ القانون الأنجلو-أمريكي. ويبدو أن تلك الأراء قد أثارت غضب كثير من المثقفين، والذين أشاروا إلى سذاجة وسخافة مثل تلك التصورات، مؤكدين على أن أهم مهام مؤسسات النظام الدولي هو إسباغ الشرعية على استخدام القوة المسلحة من قبل القوى الغربية لتحقيق أهدافها.ويشير "تشومسكي" إلى أن ما تعانيه الولاياتالمتحدة هو نوع من "البارانويا" أو جنون العظمة. الربيع العربي وإشكالية دعم الديمقراطية تميل الولاياتالمتحدة لصالح الاستقرار، إلا أن ذلك الاستقرار يتعلق بمدى الانسجام مع السياسة الأمريكية، ففي حين تتهم الولاياتالمتحدةإيران بزعزعة الأمن في العراق وأفغانستان عبر زيادة نفوذها في تلك الدول، فإن الولاياتالمتحدة "تجلب الاستقرار للدول عبر غزوها وتدميرها".كما تعد حالة الإطاحة ب"سلفادور الليندي" وتنصيب ديكتاتورية عسكرية متمثلة في "بينوشيه" في 1973، مثالاً لما يعنيه الاستقرار بالمفهوم الأمريكي، وهو ما أكده أحد المحللين الأمريكيين بقوله "يجب زعزعة استقرار تشلي لصالح الاستقرار". وعليه، فإن المخاوف المتعلقة ب "الإسلام السياسي" هي ذاته المتعلقة بأي تطور مستقل، لأن ذلك الاستقلال قد لا يصب في المصلحة الأمريكية؛ وهنا يبرز تناقض، إذ أن الولاياتالمتحدة وبريطانيا كانتا أكبر داعمتين للحركات الأصولية الإسلامية، وليس الإسلام السياسي، لمواجهة القومية العلمانية. فالمملكة العربية السعودية، الدولة الأكثر أصولية، تقوم بنشر الأصولية وتمويل الإرهاب في باكستان، إلا أنها في الوقت نفسه تعد مرتكزاً لسياسة الولاياتالمتحدة وبريطانيا، ونالت الكثير من الدعم في مواجهة قومية "عبد الناصر" في مصر، و"عبد الكريم قاسم" في العراق، وغيرهم. وبشكل عام فإن الولاياتالمتحدة لن تدعم الديمقراطية، إلا إذا ما انسجمت مع أهداف استراتيجية واقتصادية معينة، وهو ما دفع بعض الباحثيين للقول بأن الولاياتالمتحدة تعاني من "انفصام في الشخصية". الأهداف الأمريكية بين السمو والنفعية ألف "هانز مورجنتاو"، مؤسس نظرية العلاقات الدولية المعاصرة- وأحد أهم منتقدي حرب فيتنام على أساس أخلاقي، كتاباً بعنوان "الغاية من السياسات الأمريكية"، وهي تلك المبادئ "السامية" كنشر الحرية والعدالة حول العالم، إلا أنه وباستعراض السجل الأمريكي في هذا السياق، يصل لنتيجة مؤداها أن الولاياتالمتحدة لم ترق لهذه الغايات، ومن ثم انتقد الغاية السامية مشبهاً إياها بالوقوع في "خطيئة الإلحاد الذي ينفي وجود أي دين على أرضية مشتركة". ويشير "تشومسكي" أن أي انتقاد للسياسة الأمريكية من خلال مقارنة مبادئها "السامية"، بسجلها على أرض الواقع، يجلب الهرع والاتهامات بمعادة الولاياتالمتحدة وكراهيتها، وهي مصطلحات لا توجد في مجتمع ديمقراطي، وإنما في المجتمعات "الشمولية، والولاياتالمتحدة".