لم نُفاجئ بكلمةِ رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي السيد عيدروس قاسم الزبيدي، التي تحدّثَ بها يوم الأحد أمام القيادات المحلية للمجلس بالعاصمة عدن،وقال فيها بما معناه أن استقلال الجنوب ليس على الأبواب. وتحدث فيها عن صعوبة الإمساك بمصادر الموارد المالية وصعوبة استكمال السيطرة على الأراض في ظل التزام المجلس باتفاق الرياض. وهي الكلمة التي اعتبرها البعض بأنها كلمة مشوبة بالإحباط ، مع أنها ليست كذلك تماما ، و أن كان فيها شيء من هذا. فكلامه كان مبنيا عن دراية بأن الأوضاع السياسية والعسكرية بالنسبة للمجلس الانتقالي ولعامة الناس بالجنوب ليست اليوم كما كانت من القوة والثقة بالنفس قبل الانسحاب الإماراتي، وبعد أن صارت اليد الطولى بالجنوب للسعودية حتى بعد أن ظفرَ المجلس باتفاق الرياض ومزاياه السياسية بالنسبة للجنوب. كما أن الرجُل يدرك جيدا ما تخطط له السعودية بالجنوب وباليمن عموما، وكيف تسوّف وتداهن الطرف الآخر باتفاق الرياض على التملّص من تنفيذ بنوده، مع أن بمقدورها الضغط لتنفيذه ولكن مقتضيات مصالحها وحالة الابتزاز التي تتعرض لها من الطرف الآخر جعلها تعرِض عن ممارسة أي ضغوطات على الطرف الآخر " الشرعية" . كما ويعلم الزبيدي تماما الموقف السعودي من الوحدة اليمنية ومن الانفصال. فهي لا تفضّل وحدة ما قبل عام 90م ولا وحدة ما بعد 94م، ولا حتى وضع ما بعد عام 2015م أن يصب باتجاه استعادة دولة الجنوب برغم ما تضمره للقوى الشمالية على اختلاف مشاربها من شعور عدائي. فالرياض منذ اليوم الأول من هذه الحرب اي حرب 2015م كل ما علمته حيال القضية الجنوبية أنها استخدمتها قنطرة وصول لتحقيق غرض بعاصفتها الحزمية ولتتخذ منها ورقة تركيع لأي قوة شمالية متمردة عليها ،بل وهذا ما فعلته تجاه الجنوب منذ نهاية حرب 94م حين فازت المملكة بحلمها التاريخي: ترسيم الحدود الدولية مع اليمن، عام 2000م بصفقة تاريخية بثمنٍ بخس مع سلطة ما بعد تلك الحرب.
- الموقف السعودي من الدعم الإماراتي للانتقالي : ويعلم السيد الزبيدي ونعلم معه جميعا كيف ظل الموقف السعودي ساخطا على الموقف الإماراتي الداعم للمشروع الجنوبي منذ بداية حرب 2015م .فصانع القرار السعودي اليوم وبالتوافق مع الموقف الغربي والأمريكي تحديداً يخطط لتفصيل يمن اليوم ليكون على المقاس الخليجي وبمسحة غربية وأن كان ذلك على حساب الجنوب والشمال والجهات الأربع كلها.. يمن يمكن التحكم به سعودياّ عن قُرب وليس فقط عن بُعد كما كان، والهيمنة على قراره السيادي والوطني شمالا وجنوبا، وعلى ثرواته وجغرافيته الحيوية بسهولة بعد إخضاعه وتقليم مخالبه وقلع براثنه، ونزع أنيابه ..يمن لا موحد قوي ولا مُفتت ومنفلت من عقاله.
- الخطاب السعودي تجاه الجنوب والشمال: ولبلوغ هذه الغاية السعودية نرى المملكة تقول الشيء ونقيضه ، تجمع بين السُخل والذئب في قفصٍ مغلق، وبين الماء والنار في وعاءٍ واحد، تتحدث بلسانين متضادين بحسب الطلب: لساناً وحدويا مُبين حين يكون المتلّقي شماليٌ. وانفصالي حتى العظم حين يكون المستمعُ جنوبيٌ. باختصار المملكة تمارس بكل دهاء وذكاء حالة من الاستهبال والاستغفال مع سُذّج الشمال والجنوب على السواء، خطابات وتصريحات بحسب ما يطلبه المستمعون...!
-السعودية مع الكل وضد الجميع، ومع وضع:( بين بين): فهي مع الكل وضد الجميع.. وما حالة اللاحرب واللاسلم التي تسود اليمن بما فهيا جبهات القتال وحالة اللافشل واللاتنفيذ التي يتّسم بها الوضع بين طرفي اتفاق الرياض خير دليل على أن السعودية تودُّ أن يظل الوضع يراوح مكانه : ( بين بين). فبرغم قدرتها على تنفيذ هذا الاتفاق بمجرد ضغطة زر صغيرة على آلة شيكات الريال السعودي الذي تتلقاه الشرعية إلا أنها لا تحرص على ذلك لاعتقادها أن هكذا وضع يصب بمصلحتها، أو دعونا نحسن الظن ونقول أنها تعزف عن أي ضغوطات على الشرعية حتى لا تتفاقم حالة عدم الثقة بينها وبين هذه السلطة التي تبرع هذه الأخيرة بممارسة ابتزازها بوجه الرياض بالتلويح بفتح قنوات حوار مباشرة مع صنعاء أو الاقتراب أكثر نحو الحضن القطري التركي. وبعيد عن هكذا صداع قد يتسبب للرأس السعودي فأننا نجدها تفضل أن يظل الاتفاق في حالة سكون وأن يكون مستقبله غامض مع سبق الإصرار والترصد بعد أن استطاع هذا الاتفاق بمجرد التوقيع عليه أن ينزع فتيل الحرب الشاملة بين شركاءها الشرعية والانتقالي، وهو هو مبلغ ما تريد السعودية من هذا الاتفاق بالوقت الراهن .
-هكذا تهدّي السعودي من روع الانتقالي: وإزاء الطرف الجنوبي" المجلس الانتقالي" نرى السعودية ترمي بين الفينة والأخرة تصريح هنا وتغريدة هناك لأحد كُتابها تتحدث عن ضرورة تنفيذ الاتفاق لتلهي بها المجلس الانتقالي وتهدّئ من تذمره من هذا الوضع الغامض الذي يتكرس برضاء سعودي واضح. نقول أن هذا التعاطي السعودي الضبابي والمتذبذب في موضوع اتفاق الرياض بين شريكيها" الشرعية والانتقالي" هو أنصع صورة يمكن من خلالها أن نعرف الموقف السعودي الشامل في اليمن شمالا وجنوبا الذي تخطط لها المملكة أن يكون، على الأقل بالمدى المنظور الى أن تستكمل تموضعها عسكريا وسياسيا على الأرض والى أن تخرج من ورطتها في الشمال وتبحث لها مع الحركة الحوثية" انصار الله وحزب المؤتمر الشعبي العام" عن تسوية سياسية وامنية مشرفة، وهو ما يتم اليوم فعلا خلف الكواليس وأمامها.
- ولكن الصورة ليست موحشة بالمطلق لا بالشمال ولا بالجنوب: وبرغم كل ذلك فالصورة ليس موحشة كليا لا بالشمال ولا بالجنوب، وان كانت قاتمة فعلاً .ففي الشمال وبرغم حالة الشتات والضغينة التي تعصف بالوحدة الاجتماعية هناك ،وسوط العوز الذي يجلد الناس بقسوة إلّا أن الدولة ظلت موجودة ولو على شكل معالم وعناوين، و أن كانت سلطة أمر واقع ودولة مؤسسات مضطربة فقيرة، إلّا أن هذه السلطة نجحت بالإمساك بالوضع لئلا ينهار تماما وبالذات بالجانب الأمني،كما أن ثمة بقايا مؤسسات يمكن من خلالها بثُّ الروح بجسد الدولة من جديد. وفي الجنوب وبرغم حالة البؤس المعيشي والاستهداف الذي يطاول الأوضاع الامنية ويحاول تمزيق النسيج الوطني الجنوبي إلّا أنه ظل وما زال يقاوم ذلك بجلاده، ويحقق معه شيء من المكاسب وبالذات السياسية. فالقضية الجنوبية استطاعت أن تخرج من دوامة تعدد الرؤوس وغياب المظلة السياسية ومن شرنقة المحلية التي ظلت في دائرتها منذ انطلاق الثورة الجنوبية، استطاعت ان تخرج من ذلك بعد تشكيل المجلس الانتقالي الذي وبرغم ما يسجله عليه خصومه من مآخذ إلّا أنه استطاع أن يخرِج الجنوب من تلك الدوامة، واستطاع مؤخراً أن ينتزع من بين أنياب الضباع المحلية والاقليمية اعترافا سياسيا بالقضية الجنوبية، وجعلها مطروحة بقوة فوق طاولة الأجندة الدولية والاقليمية فضلا عن المحلية، يصعب تجاوزها الى حلول جائرة. هذا علاوة على أن الجنوب اليوم قد صار له قوة عسكرية وأمنية يمكن أن تكون صمصام أمان لتحقيق حل سياسي عادل للقضية الجنوبية في أية تسوية سياسية قادمة.