في عام 1994م وبعد انتهاء الحرب وإحكام سيطرة نظام صنعاء على مدن وقرى الجنوب وتدميره للبنية التحتية ومؤسسات الجنوب، يقوم الأستاذ "عبدالقادر باجمال" أحد قيادة الحزب البارزين بزيارة لمدنية المكلا، ومن هناك يطلق تصريحه المشهور بأن العصر هو عصر علي عبدالله صالح، حينها لم استغرب من التصريح، وإنما من الشخصية التي أطلقت التصريح باعتبار تلك الشخصية من أكثر قيادات الحزب ثقافةً ورقياً وفهماً وإدراكاً لجدلية التاريخ، كونه يمتلك خصائص المثقف العضوي الذي شخصه (غرامشي) في أدبياته ويمثل مع الرئيس علي ناصر محمد الجناح التقدمي في قيادة الحزب الاشتراكي. اذهلني التصريح كيف يمكن لهامة قيادية بحجم "باجمال" أن يمتهن نفسه بهذا الشكل من الإسفاف والسفه الأخلاقي؟ وكيف ينزل إلى هذه المرتبة الدنيا؟.
وفي عام 1997م عندما أراد النظام إجراء مسرحيته بالانتخابات ليشرعن نتائج الحرب المجنونة والقذرة، كانت قيادات الحزب بزعامة المناضل علي صالح عباد مقبل قد اتخذت قرار بمقاطعة الانتخابات لتقطع الطريق على النظام حتى لا يتخذ مشاركتهم بالانتخابات الاعتراف بنتائج الحرب فهرول أحد قيادات الحزب من مخبئه بالقاهرة وشد الرحال نحو صنعاء ليقود معركة شرسة وصعبة من أجل المشاركة وبذكاء المخبر ساق العديد من المبررات من أجل المشاركة، ولكن صلابة موقف "مقبل" أفشل مساعي ذلك القيادي، وحاولت بعض القيادات خرق قرار المقاطعة ودخلت الانتخابات بصفتها الشخصية، وبعدها بخمس سنوات حاولت تلك الشخصية القيادية السباحة عكس قوانين التاريخ، بإقحام الحزب في تحالف حزبي مع ركن قوي من أذرع الاستبداد للنظام، وهي القوى التي وفرت الغطاء الشرعي والديني للنظام باقتحام الجنوب، وتم التوصل مع تلك القوى إلى تأسيس ما سمي بعدها اللقاء المشترك، وقد هللت قواعد الاشتراكي لذلك المنجز، وبالرغم أن العملية بسيطة لا تحتاج إلى عقلية خارقة لتحقيقها، فهي بالأساس عملية نقل ميكانيكي لفكرة (غرامشي) الأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي لتكوين الكتلة التاريخية لمواجهة الفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعدها تحول الحزب الاشتراكي غلى حامل لمشروع القوى الرجعية ومدافعاً عنها، وآخذت الشخصية القيادية تلك على عاتقها عملية تسويق القوى الرجعية أمام العالم الخارجي الذي كان قد وضعها في خانة الإرهاب الدولي، وبالرغم من دفاعه عنها إلا أنها لم تشفع له، فقد أفتت بقتله وأوكلت مهمة تنفيذ الفتوى إلى أحد كوادرها، فقتله في مؤتمرها الثالث في 28/ديسمبر 2002م، ومع أن القتل مجرَّم ومدان، إلا أن تلك القوى أسدت للضحية خدمة جليلة قبل أن يتخذ مواقف رجعية من الأحداث التي توالت ويموت رجعياً.
ومع استمرار القبضة الحديدية للنظام وإمعانه في تدمير الجنوب ودولته أرضاً وإنساناً وتاريخاً، لزم الحزب الاشتراكي الصمت عن الانتهاكات التي يمارسها النظام ضد الحياة، ومع ازدياد الضغط والقمع الممنهج ضد أبناء الجنوب أطر أبنائه أنفسهم وأعلنوا حراكهم السلمي في 7/7/2007م في الذكرى الثالثة عشر لاجتياح القوات الشمالية عدن وباقي المدن الجنوبية الأخرى، وبعد إعلان النضال السلمي وإعلانه رسمياً، حاول الحزب الاشتراكي أن ينكر صلته بالحراك وأعلن براءته من القيادات التي ساهمت في تكوينه مثل الدكتور/ ناصر الخبجي وغيره من القيادات.
فقام النظام في صنعاء بمحاولة إزهاق روح المولود الجديد مستخدماً أساليب الترغيب والترهيب واعتقال واغتيال نشطاء الحراك وإعلان الحرب ضد الجنوب مرة أخرى، ولكن هذه المرة على مواطنين عزل، فلم يعد هناك جيش جنوبي، حيث تم تدميره في 1994م ومصادرة عتاده العسكري وحل بقية ألويته المهزومة.
وعند وصول الحراك الجنوبي إلى مستوى متقدم من التنظيم والتنسيق بين جميع مكوناته وقياداته، وبعد وصول جميع الجنوبيين بمختلف مكوناتهم السياسية والاجتماعية إلى تفاهم مشترك، وهو استعادة الدولة وتقرير المصير، تطل قيادات الاشتراكي برؤوسها وبعد صمتها الطويل لتنطق الزور والبهتان وتنصب نفسها من جديد وصية على الجنوب وأهله، وتحاول أن تقفز على خياراتهم متناسية أن الشارع قد تجاوزها وتجاوز مشاريعها في تسويات أصبحت هذه التسويات محاولة لإعادة القضية إلى الصفر، والشعب قد مشى في خط مستقيم وتسارعت عجلة السير، والعودة إلى الخلف لا يستطيع من قطع ثلثي المسافة بين نقطتي الانطلاق ونقطة الوصل أن يتراجع مرة أخرى، لأن كمية المقاومة ستكون كبيرة، وعندما تكون العلاقة عكسية بين القوة والمقاومة فإن السرعة تكون ضعيفة.
لقد حاولت القيادات الاشتراكية أن تسوق العديد من المبررات، منها أن الانفصال بين الشمال والجنوب سيقود إلى عودة الجنوب إلى عهد ما قبل الاستقلال عام 1967م وعودة السلاطين من جديد، وبدأوا يقدمون البدائل منها: نظام الحكم المحلي كامل الصلاحيات، وتقسيم اليمن إلى عدة أقاليم، متناسين أن مثل تلك المشاريع كانت مطروحة في وثيقة العهد والاتفاق، وهذه الوثيقة قاد نظام صنعاء بكل أطرافه (الديني – القبلي – العسكري) حرباً من أجل إسقاطها، وأن الزمن قد تجاوزها، وكان عليهم أن يقرؤوا الواقع على الأرض، وأن يحللوا مواقف القوى الرجعية والظلامية التي حملوا مشاريعها.
لكن يبدوا أن قيادة الاشتراكي تعيش تحت ما دون السياسة كما يقول المفكر التونسي العفيف الاخضر، عليهم أن يقرؤوا المسيرة التي خرجت لإحياء ذكرى الثلاثين من نوفمبر 2012م ومسيرة ذكرى التصالح والتسامح في 13 يناير 2013م، والمسيرات التي خرجت في 20 ، 21 مارس 2013م، وأن يحللوا مضمون الشعارات التي حملتها الجماهير، وكان عليهم أن يدركوا مغزى مقاطعة الانتخابات في 21 فبراير 2012م، وأن يفهموا أن أبناء الجنوب لم تكن مشكلتهم مع علي عبدالله صالح، وإنما مع منظومة كاملة دينية واجتماعية وسياسية وعسكرية، هذه المنظومة جميعها هي من أعلنت الحرب واستباحة الأرض والعرض، فالمؤسسة الدينية برموزها المعروفة هي من أصدرت الفتوى المشهورة عام 1994م وقواعدها المدربة في أفغانستان وفي الشيشان وكشمير وبيشاور وفي كوسوفو والبوسنة والهرسك هي وقود المعركة التي دخلت الجنوب وهي تهتف "الله أكبر"، والقبيلة وزعاماتها هي من تفيدت واستولت على الممتلكات الخاصة والعامة، والعسكريون هم من مارسوا التعذيب والانتهاكات ورؤوس النظام المتعددة كانت تحتفل في كل عام بيوم اجتياح الجنوب، وتقلد الأوسمة لتلك المجموعات، لمن أفتى ولمن تفيد، ولمن مارس البطش والتنكيل على مدى عشرون عام.
من هنا يتوجب على قيادات الاشتراكي أن تراجع خياراتها وحساباتها في تحالفاتها الغير مبررة، في الوقت الحاضر مع القوى الظلامية والرجعية والتي تسعى إلى جرنا إلى ماضيها السحيق، إذا ما كانت هذه القيادات حريصة على مشروعها الحداثي، مالم فليس هناك من مخرج أمام كوادر الحزب المستنيرة والقيادات الوسطية سوى أن تجد لها مكاناً ضمن المشاريع السياسية الجديدة والقوى الحداثية التي تمتلك برامج سياسية حية تؤسس لدولة مدنية حقيقية بعيداً عن الغيبيات وأوهام الماضي، وترك القيادات الهرمة تراوح مكانها أسيرة لمشاريع قوى الماضي.