كتب /سعيد عبدالله سعيد كنا في مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية أولى ثانوي وفي حصة اللغة العربية مادة النصوص عندما قرأ علينا مُدَرِّس المادة قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود دَرْوِيش وكان أول عهدي بسماع هذا اللون من الشعر غير المقفَّى أو العمودي وخلال قراءتنا للقصيدة كنا نتخيل صوراً كثيرة لما جاء في القصيدة فلقد استطاع الشاعر أن يُصَوِّر لنا ببراعته الفذة مجموعة من الأشخاص قد قُبِضَ عليهم وأوقفوهم فالشاعر يصور لنا كيف كانت لحظة إيقافهم وفي أي ساعة كان ذلك الحدث . وكانت تلك أول قصيدة أقرأها للشاعر محمود دَرْوِيش وقد أُعجبتُ بها أيَّما إعجاب وقد حَفِظْتُ بعض أبياتها وكنتُ أرددها بين الحين والآخر. غابة الزيتون كانت مرةً خضراءَ كانت.. والسماء غابة زرقاء .. كانت يا حبيبي ما الذي غيَّرها هذا المساء؟ .. .. .. أوقَفُوا سيارة العمال في منعطف الدرب وكانوا هادئين وأدارونا إلى الشرق.. وكانوا هادئين .. .. .. كان قلبي مرةً عُصْفُورةً زرقاءَ.. يا عش حبيبي ومناديلك عندي، كلها بيضاء، كانت يا حبيبي ما الذي لطَّخَهَا هذا المساء؟ أنا لا أفهم شيئاً يا حبيبي! .. .. .. أوقفوا سيارة العمال في منتصف الدرب وكانوا هادئين وأدارونا إلى الشرق.. وكانوا هادئين .. .. .. لك مني كُلُّ شيء لك ظل لك ضوء خاتم العرس وما شئتَ وحاكورة زيتون وتين وسأتيك كما في كل ليلة أدخل الشبَّاك، في الحُلم، وأرمي لك فُلَّة لا تلمني إن تأخرتُ قليلاً إنهم قد أوقفوني غابة الزيتون كانت دائماً خضراء كانت يا حبيبي إن خمسين ضحيَّة جعلتها في الغروب .. بركة حمراء ..خمسون ضحية يا حبيبي .. لا تلمني.. قتلوني.. قتلوني.. قتلوني..(1) وكانت هذه آخر مرحلة دراسية ثم التحقتُ موظفاً في أوائل نوفمبر 1979م لدى شركة البرق واللاسلكي (cable and wireless) في التواهي آنذاك وحزنتُ لترك مقاعد الدراسة التي كنتُ أتمنى أن أصل فيها إلى صفوف الجامعة لولا ظروفي العائلية البائسة ولكونني العائل الوحيد للأُسرة. وأتذكَّر أنني قرأتُ مقالة جميلة بقلم الأستاذ رجاء النقاش صاحب الأسلوب الجميل في مجلة الدوحة الشهرية القطرية العدد 33 سبتمبر عام 1978م في زاويته الشهرية "أدباء ومواقف" تحت عنوان "أعراس محمود دَرْوِيش" فهذه المقالة زادتني إعجاباً بشعر الرجل وصاحبه . وقد كانت للشاعر الفلسطيني محمود دَرْوِيش زيارات متكررة لمدينة عدن منذُ أوائل الثمانينات وكنتُ أحب أن أتابع عبر التِّلفاز ما يبثه من احتفالات أو مِهْرجانات وكانت قصائد الشاعر محمود درويش التي يلقيها بصوته الجميل وإلقائه الرائع عَبَق المكان وأريجه . وأتذكر أن هناك قصيدة رائعة طويلة من بين القصائد التي كان يلقيها نشرتها صحيفة 14 أكتوبر المحلية في اليوم التالي في صفحة كاملة وقد استمتعتُ حينذاك بقراءتها وتداولتها مع زملائي في العمل الذين لهم اهتمامات بالأدب فأبدوا إعجابهم بها . لكنني ماذا أفعل فأنا أعاني من عادة لم أستطع أن أُؤصِّلها في نفسي وهي أنني لا أستطيع أن أحتفظ بأية صحيفة من الصحف ولم يخطر ببالي موضوع الاحتفاظ بأية قُصاصة من قصاصات الصحف... وبعد ذلك رحتُ أجمع دواوينه المتفرقة كديوان "محاولة رقم 7 " الصادر عن دار الآداب طبعة 1 إبريل 1974م وديوان "حبيبتي تنهض من نومها" الصادر عن دار العودة طبعة 1970م . وفي سبتمبر 2008م اشتريتُ ديواناً يحمل عنوان"الأعمال الجديدة" الذي يضم دواوينه "لا تعتذر عما فعلت، حالة حصار، لماذا تركت الحصان وحيداً، جدارية، سرير الغريبة" الصادر عن دار رياض الريِّس للكتب والنشر الطبعة الأولى 2004م وللعلم أن هذه الدار قد قامت بنشر أعماله الشعرية فقط دون النثرية في ستة مجلدات في طبعة أنيقة وأحجام متساوية وتجليد فاخر وقد تمكنتُ من شراء المجلدات الثلاثة من أعماله الأولى التي تبدأ من ديوان أوراق الزيتون 1964م وتنتهي بديوان "أحد عشر كوكباً 1992م" وأنا بصدد شراء المجلدات الثلاثة الأخرى الأعمال الجديدة حتى تكتمل لديَّ باقة أعماله الشعرية الكاملة. وبينا كنتُ أقوم بفحص المجلدات الثلاثة ورقة ورقة وهي عادتي القديمة التي أقوم بها عند شرائي لأي كتاب من أي مكان خوفاً من بروز بعض الأوراق البيضاء أو أن تكون أرقام صفحات الكِتاب مقلوبة لكي يتسنى لي أن أعيده في اليوم التالي إلى صاحب المكتبة أو المفرِّش إما باستبداله وسحب نسخة نظيفة أو إعادته إذا لم تكن هناك نسخة أخرى... فقد وجدتُ في المجلد الثاني الأعمال الأولى القصيدة التي أشرت إليها في مستهل مقالتي أن صحيفة 14 أكتوبر اليومية المحلية قد نشرتها كاملة منشورة في ديوان "حصار لمدائح البحر" 1984م وعنوانها "سنة أخرى.. فقط" ويمكنك عزيزي القارئ إذا شئت الرجوع إليها فهي قصيدة رائعة . فرحم الله شاعرنا الذي كان سلاحه الكلمة الحقيقية الصادقة التي أرهب بها أعداء شعبه وقد حمل همَّ فلسطين في فكره ووجدانه وصارع الحياة والموت حتى أثقل قلبه ولم يستطع هذا القلب أن يحمل هذا الجسد النحيل وبالرغم من خذلانه أكثر من مرة فقد كان يخرج منها كل مرَّة منتصراً . أليس هو القائل "على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟" . لقد استطاع بشعره المعبِّر وبصوته الآسر أن يصل إلى كل مكان في العالَم وأن يُسْمِع العالم صوت فلسطين.
______________________ (1) قصيدة القتيل رقم 18 من ديوان أزهار الدم، الأعمال الأولى، المجلد الأول، طبعة جديدة، يناير 2009م.