ما يميز حراك القومية اليمنية (أقيال) أنه بدأ جماهيرياً متسلحاً بالفكر الوطني الخالص، البعيد عن كل الانتماءات الما دون وطنية والما فوق وطنية، وجاء استجابة لروح الأمة اليمنية المتعطشة للخلاص من هذا التيه والضياع الذي أخرج اليمن عن دائرة الفعل الحضاري. هذه الميزة لم تتوافر في كثير من التحولات التاريخية اليمنية، إذ كانت أغلب الانتفاضات والثورات اليمنية تنطلق من القمة نحو القاعدة الجماهيرية، وهذه القاعدة لم تكن قد تهيأت بعد للقيام بدورها الوطني المنشود والحفاظ على لحظة التحول الوطني المفصلية. على سبيل المثال، انطلقت ثورة 26 سبتمبر الخالدة من أعلى الهرم هبوطا نحو القاعدة، لكن القاعدة الشعبية العريضة المشبعة بالفكر الوطني لم تكن قد تخلّقت بعد، وكانت -حينها- في أضيق الحدود لأسباب شتى أبرزها الجهل وغياب الوعي السياسي الوطني، وهو ما أشار إليه فقيد اليمن اللواء علي عبدالله السلال بقوله إن ثوار سبتمبر لم يكونوا يتوقعوا وقوف القبائل إلى جانب الكهنوت السلالي بعد الثورة، رغم ما كانت تعانيه هذه القبائل من صنوف الظلم والفقر والحرمان. الأمر كذلك بعد اندلاع الثورة السبتمبرية وتحوّلها إلى حقيقة وطنية ناصعة، إذ غاب التنظيم السياسي الوطني الذي يحافظ على بقاء جذوة الثورة مشتعلة في الوجدان الشعبي، وبسبب غياب هذا الحامل الوطني واجهت الثورة الكثير من العوائق، لاسيما أن سنوات ما بعد الثورة أفرزت الكثير من التنظيمات والانتماءات وأغلبها كانت امتداداً للخارج. وبرغم أن هذه التنظيمات كانت تتفق على قدسية الثورة وأهدافها لكنها اختلفت في أحقية كل انتماء وقدرته على تحقيق تطلعات الجماهير، وهو ما أثر كثيرا على مسار الثورة وعودة الكهنوت السلالي من "طاقة المصالحة" بعد أن تم ركله من الباب، وقدّم الشعب اليمني قُرابة 225 ألف شهيد دفاعاً عن الثورة! هذا الحراك القومي اليمني بمضمونه الفكري الثقافي له أروماته التأريخية البعيدة، سواء منذ عهود ممالك اليمن القديم أو ما دوّنه أقيال اليمن المستنيرين خلال الألف عام الماضية؛ إلا أن الدافع الثقافي الثوري يكاد يكون أكثر ارتباطاً بالحركة الوطنية اليمنية خلال القرن العشرين وصيرورتها النضالية المتمثلة بثورة 26 سبتمبر الخالدة، ولعلنا نجد الكثير من الأقيال يستحضرون ما كتبه رواد الحركة الوطنية، من الزبيري إلى النعمان والدعيس والبيضاني والعيني والسلال وجزيلان وكل الأحرار اليمنيين. لذلك، فإن لهذه الثقافة القومية ينابيعها وروافدها، ومن المسلّم به أنها ثقافة تغييرية لها قوتها وسطوتها، تتخذ منحى تصاعدياً ناتج عن انتشارها الرأسي والأفقي، ولها بالطبع ارتدادات عكسية لأنها كسرت الجمود، وهنا يحضرني قول رائي اليمن عبدالله البردوني في هذا الصدد: "إن أرومة ثقافة كل عصر نبتت في تربةِ سابقهِ وسوابقهِ من العصور. فلم تتشكّل ثقافة القرن العشرين في أشكال مذاهب سياسية واقتصادية وفنية؛ إلا بعد أن تشكّلت كثقافات نظرية وعلمية في القرن التاسع عشر، ذلك أن العصور الثقافية متطورة عن أصولها خالقة خبرة تحريكها ومجاري صيرورتها في الأجيال المتعاقبة، إذ لا يخلو عصر من ثقافة اتجاهية ومن ثقافة عكسية."