د. نصر محمد عارفتطرح التطورات المتسارعة في العالم العربي تحديا نظريا وعمليا في الوقت نفسه، يتعلق بشكل الدولة، ووظائفها، وإطار حركتها، وعلاقاتها مع المجتمع من ناحية، ومع العالم الخارجي من ناحية أخرى.فلو أن التغيرات الجذرية التي تشهدها العديد من الدول العربية كانت نتيجة لانقلابات عسكرية، أو انقلابات قصور، لكان من السهل التنبؤ بمستقبل تلك الدول. ولكن الجديد كل الجدة أن هذه التغيرات جاءت - ولأول مرة في التاريخ العربي المكتوب- من الشعب، أو من المجتمع بكل قواه وفعالياته التلقائية غير المسيسة، وغير المنظمة والتي لا تحمل مشروعا سياسيا أو أيديولوجيا، ولا يؤطرها حزب أو تنظيم سياسي يمكن، من خلال تحليل أفكاره وخبرته السابقة، أن نستشرف مستقبل الدولة، في ظل حكمه، أو علي الأقل يمكن تلمس ذلك المستقبل، ولو في أبعاده العامة. وهذا لا يعني أن استشراف المستقبل أمر مستحيل، أو خارج قدرات التحليل السياسي، وإنما يحتاج إلي رؤية أكثر شمولا، وأبعد عمقا، تمزج السياسة بالتاريخ بالاجتماع، وتضع الجميع في إطار من الصيرورة الحضارية العامة، أو الرؤية التاريخية الفلسفية التي تتعامل مع المستقبلفي سياق زماني أوسع قد يمتد إلى الوراء قرونا، حتى يستطيع الباحث أن يمد البصر إلى الأمام عقودا.وفي هذا السياق، سوف نقارب مستقبل الدولة في العالم العربي من خلال المحاور الآتية: أولا- اكتمال دائرة تطور العلاقة بين الدولة والمجتمع: قبل قرنين من اليوم، بدأت دورة جديدة من العلاقة بين الدولة والمجتمع، لم تعرفها المجتمعات العربية الإسلامية طوال تاريخها، وذلك حين قام محمد علي باشا باستيراد نموذج الدولة الأوروبية، وفرضه علي المجتمع المصري. وقد أدى هذا النموذج إلي إفقاد المجتمع كل قوته لمصلحة الدولة، بل إنه قام بإفلاس المجتمع بصورة كاملة لحساب الدولة، من خلال القضاء علي جميع الفعاليات والقوي الاجتماعية، مثل: النقابات، والطوائف، والأعيان، والتجار، والمماليك، والأشراف، والصوفية، كل تلك القوي التي كانت تمثل حصانة للمجتمع في مواجهة الدولة، تحول دون توحش الدولة وتعديها علي حقوق الأفراد.
استطاع محمد علي - في سبيل بنائه الدولة الحديثة - أن يخلق نموذجا جديدا في العالمين العربي والإسلامي، يكون فيه المجتمع ضعيفا جدا، وتكون الدولة قوية جدا. وقد استمر هذا النموذج ينمو ويتطور، حتي أصبح المجتمع كيانا عاجزا، مشلولا، عالة علي الدولة، لا يملك من أمره شيئا، حتي جاءت الثورات العربية في بداية عام 2011 لتعيد الاعتبار للمجتمع، وتعيد إحياء مؤسساته، وقواه الفاعلة من مجتمع مدني ونقابات وتجمعات تلقائية .. وغيرها.
وبذلك، تكون الدولة العربية قد أكملت دورة كاملة من التطور: من الضعف إلى القوة إلى الضعف مرة أخري، أو بعبارة أخري من نموذج المجتمع القوي والدولة الضعيفة، إلي نموذج المجتمع الضعيف والدولة القوية، إلى نموذج المجتمع القوي والدولة القوية، الذي يتوقع أن يكون هو النموذج السائد في المجتمعات العربية بعد ثورات 2011.
ثانيا- تراجع قوة الدولة أمام قوة المجتمع: إن التحليل المستقبلي لحالة الدولة العربية يخلص إلي أن هذه الدولة قد تخلت طواعية عن معظم وظائفها وأدوارها لمصلحة القطاع الخاص والرأسمالية الوطنية والعالمية، ولم تحتفظ إلا بأدوات القهر والسيطرة والتحكم، ثم جاءت الثورات العربية لتنتزع منها تلك الأدوات، وتضعفقدراتها علي القهر والسيطرة والتحكم، ومن ثم تفقدها آخر ما تبقي من أدوارها ومصادر قوتها.
ولكن، لا ينبغي السير مع هذا التحليل إلى نهايته. إذ إن طبيعة العصر وأدواته، وتعقد علاقاته، وتعدد الفاعلين فيه سياسيا واقتصاديا وثقافيا، سواء على المستوي الداخلي أو علي المستوي الخارجي، تجعل الدولة ضرورة مجتمعية لا يستطيع المجتمع أن يبالغ في إضعافها، أو أن يعود إلي النماذج التقليدية للمجتمعات القوية والدول الضعيفة.
وعلي الرغم من اعتبار "جول ماجدال" - صاحب نظرية العلاقة بين الدولة والمجتمع - النموذج الأمريكي نموذجا للدولة الضعيفة والمجتمع القوي، فإن الواقع التاريخي في بداية القرن الحادي والعشرين قد أثبت حاجة المجتمع الأمريكي للدولة، حين فشلت اليد الخفية للرأسمالية فيأن تعالج أزماتها، وأن تحافظ على المجتمع ومصالحه.
وسوف تؤدى حالة الدولة العربية وتاريخها، وطبيعة المجتمعات العربية وثقافتها وتركيبتها، إلى بروز نموذج للدولة القوية والمجتمع القوي، وذلك بعد أن كان النموذج السائد هو نموذج المجتمع الضعيف جدا والدولة القوية جدا. ولعل نموذج العلاقة بين الدولة، متمثلة في أدواتالقهر والسيطرة والمجتمع، في دولة مثل مصر، يبين وجهة التطور المستقبلي للدولة. فالعلاقة بين الشرطة والشعب تمثل مقياسا نستطيع من خلاله التدليل علي هذا النموذج.
فعلي الرغم من سعي المجتمع لإضعاف جهاز الشرطة بعد ثورة 25 يناير 2011، لأنه كان يمثل جبروت واستبداد الدولة، وإهدارها لكرامة المجتمع، فإن المجتمع ذاته لم يستطع الاستمرار بدون جهاز شرطة قوي. لذلك، فإن النموذج المستقبلي للدولة العربية سيكون بالقياس نموذجا للدولة القوية والمجتمع القوي، ومن ثم يحدث التوازن والاستقرار، ويتم الحفاظ علي مصالح المجتمع وكرامة الإنسان.
ثالثا- تعاظم دور المصادر الداخلية للشرعية في مقابل المصادر الخارجية: منذ بداية الانفراد الأمريكي بالعالم العربي بعد حرب 1973، تعتمد الدولة العربية بصورة أساسية على رضاء العالم الخارجي كمصدر أساسي، وأحيانا وحيد للشرعية. فرضاء القوي الكبري ومساندتها وتأييدها هي الضمان الوحيد لبقاء النظام السياسي وأحيانا لبقاء الدولة ذاتها. لذلك، تجاهلت معظم النظم السياسية في العالم العربي مطالب شعوبها واحتياجاتها، وأحيانا لم تلق بالا لمآسيها وكوارثها، لأنها لا قيمة لها في ميزان شرعية الدولة، أو شرعية النظام، أو شرعية الحاكم.
فالمصدر الوحيد لهذه الشرعيات الثلاث خارجي يأتي من وراء الحدود أو من وراء البحار. وتأسيسا علي ذلك، كانت أجهزة الدعاية والإعلام، والتسميم السياسي التابعة للنظم الساقطة، تبالغ في وصف المكانة الدولية للرئيس أو النظام، وكان الرئيس نفسه -مبارك مثالا- مشغولا طوال ثلثي فترة حكمه بالقضايا الخارجية، ويتجاهل بصورة عمدية حاجات شعبه وأزماته ومشاكله.
هذا النموذج لمصادر الشرعية الخارجية سقط مع اندلاع الثورات العربية، وأصبح الجميع يسعي لتجديد مصادر الشرعية الداخلية، من خلال وسائل الترضية، وأساليب الاستمالة، أو من خلال نتائج الثورات ذاتها، وما ترتب عليها من وضوح الرؤية عند الشعوب، وأنها لن تسمح بأن تكون نظمها معتمدة علي الخارج في صورة تتجاوز حدود التبعية الاقتصادية والسياسية إلي مصادر الشرعية ذاتها، التي هي حق أصيل للشعوب، تمنحه لمن يحقق أهدافها ويحافظ علي مصالحها، وتنزعه عمن يفشل في ذلك، من خلال عملية ديمقراطية، وسيلتها صناديق الاقتراع. رابعا- التشكيك في شرعية وجود الدولة ذاته: بغض النظر عن الأصول التاريخية للدولة العربية، وكيف أنها قد ولدت ناقصة الشرعية أو فاقدة لها، فإن من أهم نتائج الثورات العربية إعادة السؤال حول شرعية الدولة، وجودا أو حدودا. وهنا، لا ينبغي أن نقفز إلى خلاصة سريعة، مفادها أن الدولة العربية في طريقها إلي التفكك أو الزوال. فالحقيقة أن سؤال شرعية الدولة أو إشكالية شرعية الدولة سوف يأخذ مسارين متعاكسين، هما:
1- الاتجاه نحو تجاوز الدولة لمصلحة كيانات أكبر من الدولة ومتجاوزة لها، وذلك من خلال إنشاء اتحادات، أو تجمعات أو دول كونفيدرالية أو فيدرالية. فالقوي التي شاركت في الثورات العربية، وكان لها دور أساسي أو محوري فيها، لا يؤمن معظمها بالدولة القطرية، ويسعي إلي تأسيس كيانات تتجاوز الدولة وتعلو فوقها. فالإخوان المسلمون، والسلفيون، والقوميون، والناصريون، والاشتراكيون، والشيوعيون، جميعهم لا يؤمنون بشرعية الدولة القطرية العربية، ويحلمون بكيانات أكبر تتجاوز حدود الدولة الحالية.
ولن يكون غريبا أن تظهر تلك الكيانات في المستقبل، خصوصا في ظل التشابه بين القوي الفاعلة في الثورات العربية في العديد من الدول.
ومن ناحية أخري، تسعي بعض النخب الحاكمة في دول لم تشهد ثورات بعد إلي تجاوز الدولة القطرية الحالية إلي كيانات أكبر، سواء لمواجهة أخطار الثورات العربية، أو لمواجهة أخطار خارجية تعاظم تهديدها في ظل الثورات العربية كإيران مثلا. فدعوة دول مجلس التعاون الخليجي لانضمام الأردن والمغرب ثم مصر إليها هو نموذج واضح لمواجهة الخطرين معا: خطر إيران، وخطر الثورات العربية.
2- الاتجاه نحو تجاوز الدولة لمصلحة كيانات أصغر: عرقية أو دينية أو إقليمية. وهذا الاتجاه سبق قليلا الثورات العربية في حالة السودان، ولا تزال يعتمل في العراق، والعديد من الدول العربية مهددة بالدخول في هذا الاتجاه، ما لم تستطع أن تتحرك للتوحد في كيان أكبر، أو صياغة نموذج للحكم يكون أقرب إلي الفيدرالية.
في كلتا الحالتين، فإن شرعية الدولة بكيانها وحدودها أصبحت موضع شك وتشكيك، إن لم نقل إنها قد فقدت أو في طريقها للفقدان. وتبين متابعة الخطاب السياسي في ليبيا وسوريا واليمن عمق هذه الإشكالية، ومدي الخوف من تفجر هذه الدول إلي كيانات سياسية صغيرة علي أسس إقليمية أو مذهبية أو عرقية.
خامسا- التطور التاريخي المعكوس .. من الدولة الموحدة إلي الدولة الفيدرالية أو الكونفيدرالية: سوف تسير الدولة العربية في المستقبل المنظور عكس حركة التاريخ. فإذا كانت الدول جميعها انتقلت من الاتحاد الكونفيدرالي إلي الدولة الفيدرالية، ثم أخيرا إلي الدولة الموحدة أو القومية، فإن الدولة العربية سوف تأخذ الاتجاه المعاكس، وتنتقل من الحالة الموحدة أو البسيطة إلي الحالة الفيدرالية أو الكونفيدرالية.
وتنفرد الدولة العربية بهذه الخصوصية، لأنها ظهرت للوجود بطريقة مصطنعة وغير طبيعية، و رسمت حدودها القوي الاستعمارية بصورة لا تراعي الإنسان أو المجتمع، ولا تحترم خصوصية الجماعات البشرية وثقافاتها، وحدود وجودها وأنماط معيشتها. بل علي العكس من ذلك، تم تمزيق العديد من الجماعات البشرية بين أكثر من دولة، مثل حالة الأكراد في العراق، وسوريا، وإيران، وتركيا، والنوبيين بين مصر والسودان، ناهيك عن القبائل العربية الواحدة التي توزعت بين أكثر من دولة.
والحال هكذا، فإن رفع غطاء الدولة المستبدة القاهرة أو ضعف قبضتها، وبداية تحرك المجتمع وحصوله علي درجة من القوة والاستقلالية، سوف يؤدي إلي تفكك الدولة، أو إعادة صياغة كيانها بصورة تراعي خصوصية المجتمعات.
وعلى الرغم من أن هذه الحالة سابقة علي الثورات العربية، كما في حالة العراق الذي دفعه الاستعمار الأمريكي 2003 إلى حالة من الفيدرالية الواقعية، ثم القانونية فيما بعد، فقد بدأت تنفصل المكونات الثلاثة للدولة، شعوريا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وإقليميا، وتعالتالدعوات إلي الفيدرالية أو الكونفيدرالية.
كذلك، كانت حالة السودان التي دعت إلي الفيدرالية ولم تحصل عليها، وكان الانفصال هو المصير المحتوم لجنوب السودان، من خلال عملية اختيار حر لشعب الجنوب، تثبت بما لا يدع مجالا للشك درجة الفشل التي وصل إليها النظام السياسي السوداني، ومن ورائه الدولة والمجتمع.
وقد لا نبالغ إذا قلنا إن المستقبل القريب سوف يشهد حالات تكون فيها الفيدرالية الحلم أو الحل الأمثل لبقاء الدولة متماسكة، وإن كان بصورة رخوة، بدلا من تفككها وانقسامها. ولعل نموذج اليمن سيكون هو الأول في سلسلة من الدول العربية التي بدأت ثوراتها الآن، أو سوف تبدأ في المستقبل القريب.
ومن جانب آخر، قد تكون الفيدرالية هي طوق النجاة لبعض الدول مثل السودان، الذي سوف يشهد متوالية من الانقسامات والانفصال والتفكك، ما لم يدخل في اتحاد فيدرالي مع مصر، يحافظ علي بقاء الشمال، وقد ينجح في إعادة الجنوب إلى ذلك الاتحاد.
وسوف تلجأ بعض الدول العربية إلى الدخول في خيار الفيدرالية لأغراض وظيفية، مثل تحقيق الأمن، والمحافظة علي الكيان، كما في حالة دول مجلس التعاون، أو تحقيق التنمية والازدهار الحضاري، مثل حالة مصر وليبيا والسودان، أو ليبيا وتونس.
وفي كل تلك الحالات، فإن الدولة العربية الموحدة قد لا تستمر طويلا في المستقبل، المنظور، بل قد تدخل في إطار التاريخ أسرع مما يتصور الكثير من علماء السياسة، والمراقبين لتطورات الشأن العربي. سادسا- الدولة العربية من المركزية إلى اللامركزية: تعاني الدولة العربية خللا هيكليا، أدى إلى تفجر ثورات وسقوط نظم، ذلك الخلل الذي تمثل في تركز التنمية في مناطق وإقاليم معينة تتمحور حول العاصمة كبؤرة تركز سياسي واقتصادي، أو بعض المدن والأقاليم الجاذبة لقطاعات اقتصادية معينة كالسياحة أو التجارة الخارجية.
أما باقي أقاليم الدولة، فإنها قد تركت تعاني الفقر، والجهل، والتهميش، الذي أدي - وسوف يؤدي - إلي الانفجار الاجتماعي والسياسي.في ظل هذه الوضعية من الخلل الهيكلي في خطط التنمية، سوف تجد الدولة العربية نفسها مضطرة للأخذ بنظام اللامركزية في الإدارة المحلية وفي التنمية، حتي تستطيع النهوض بالمناطق الفقيرة والمهمشة. ولعل لجوء الحكومة الانتقالية في مصر إلى إنشاء هيئات خاصة لتنمية سيناءأو منطقة النوبة لهو خطوة أولى في طريق تحقيق اللامركزية في الإدارة والحكم المحلي، وفي خطط التنمية كذلك.
وعلى الرغم من أن بعض الدول العربية قد أخذت بنظام اللامركزية في فترات تاريخية سابقة، مثل حالة مصر، فإن التجربة المتوقع حدوثها مستقبلا سوف تكون مختلفة عن التجارب التاريخية في هذا المجال، حيث إنها ستكون لامركزية في التخطيط والتنفيذ، وليست لامركزية شكلية فاقدة للجوهر والمضمون. إذ سوف يشهد نموذج اللامركزية المستقبلية درجات من التمييز الإيجابي لمصلحة المناطق الفقيرة والمهمشة، وسيدفع المجتمع في هذا الاتجاه، حتى وإن تقاعست الدولة. سابعا- من دولة الأحزاب إلى الدولة الكوربراتية: يبدو غريبا الهوس الذي تعانيه النخبة المصرية بالأحزاب وأهميتها والتعويل عليها، في عصر بدأت تتراجع فيه الأحزاب دورا ووجودا ووظيفة وفعالية. فانتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية شكل بداية لنهاية مفهوم الحزب كمؤسسة وسيطة، تقوم بتجميع المصالح والمطالب من المواطنين، وتعبر عنها أمام الدولة، وتمارس الرقابة السياسية على الحكومات، وتقدم بديلا للحكم القائم. فقد استطاع المرشح باراك أوباما أن يتجاوز كل مؤسسة الحزب وقيودها وضوابطها، وأن يتواصل مباشرة مع المواطنين عبر شبكة الإنترنت، وأن يقوم بحشد أكبر ميزانية انتخابية في تاريخ الولاياتالمتحدة من خلال تبرعات عبر الإنترنت، وأن يفقد القوي الحزبية المسيطرة، وما وراءها من المصالح الاقتصادية للمركب الصناعي العسكري، قدرتها علي التحكم والهيمنة علي العملية السياسية، كل ذلك مثل بداية لنهاية دور مؤسسة الحزب.
ولكن للأسف، فقد ضيع العديد من القوي السياسية في مصر قيمة الثورة وأهدافها، وأفسدت روحها، من خلال السعي لتأسيس أحزاب، في زمن يتجاوز فيه العالم الأحزاب إلي مؤسسات المجتمع المدني من ناحية، وإلي المؤسسات الكوربراتية من ناحية أخري.
والكوربراتية نموذج لتنظيم الدولة وعلاقتها بالمجتمع، يشهد أفضل تطبيقاته في دول أمريكا الجنوبية، حيث تعتمد الدولة علي الكيانات الرأسية وليس الأفقية كالأحزاب وجماعات المصالح. والكيانات الرأسية هي النقابات، والطوائف، والحرف، وجميع الكيانات التي تتمايز عن غيرها وظيفيا، ويكون أعضاؤها منضوين تحتها بصورة لا إرادية، إما لانتمائهم لطائفة معينة، أو حرفة معينة. وهذه الجماعات تمثل أعضاءها أمام الدولة، وهي منظمة بصورة هيراركية تعبر عن مصالح الأعضاء، ولا تسعي للوصول إلي السلطة.
والناظر في حالة الدول العربية التي شهدت ثورات حتي الآن يخلص إلي أن المستقبل سيكون للتكوينات الكوربراتية، لما لها من قدرة تمثيلية، ومن عمق اجتماعي، ومن عضوية كثيفة قد لا تستطيع الحصول علي جزء منها الأحزاب الافتراضية الموجودة في الدول العربية، خصوصا في مصر،والتي لا تستطيع أن توجد لها قاعدة اجتماعية خارج العاصمة. ثامنا- تصاعد التوظيف السياسي للدين: بداية، لابد من إقرار أن الدين والدولة لا ينفصلان إلا علي المستوي الافتراضي أو التحليلي، فجميع دول العالم الديمقراطية للدين فيها دور سياسي محدد. فملكة بريطانيا تترأس الكنيسة، ورئيس الولاياتالمتحدة لابد أن يؤدي بصورة علنية صلاة الأحد في الكاتدرائية الكبري بواشنطن، والأحزاب المسيحية جزء من الديمقراطية الغربية، حتي الهند أكبر أحزابها حزب هندوسي متطرف، واليمين المسيحي جزء من العمل السياسي الغربي.
ولكن كل تلك الممارسات والنماذج يقدم فيها الدين القيم والغايات، فهو مصدر للقيم التي تسعي إليها الأحزاب، أو هو مصدر للهوية، أو هو مقياس للالتزام بقيم الآباء المؤسسين، كما في الولاياتالمتحدة. ولكن لا يتدخل الدين في الصراع السياسي، ولا يتم توظيفه لتبرير أو تسويغ سياسات معينة، ولا يعد معيارا للفرز السياسي بين الأشخاص، كذلك لا يمكن تصور أن يكون وسيلة للدعاية الانتخابية، أو لحرمان أبناء دين آخر من حقوقهم السياسية.
أما في الواقع العربي المعاصر، وما سوف تفرزه الثورات العربية، فإن الدين سوف يكون له شأن آخر يقترب من مفاهيم "الكهنوت السياسي"، كما مارسته الكنيسة في عصور مختلفة، وكما تمارسه بعض القيادات الدينية المعاصرة، المسيحية والمسلمة، في لبنان ومصر والعراق والسعودية.
هنا، يكون توظيف الدين من قبل جماعات تمارس العمل السياسي انتهازيا وذرائعيا، حيث يتم احتكاره من خلال فهم وتفسير معين لمصلحة رؤية معينة، وبصوره تنزع هذا الحق من الآخرين.لذلك، ستدخل الدولة العربية في المستقبل القريب في عملية صراع مع هذا التوظيف للدين في الصراع السياسي، إلي أن يتم إنضاج التجربة الديمقراطية في الدول العربية التي مرت بثورات خلال عام 2011 وما بعدها، بصورة تؤدي إلي درجة من الرشادة والعقلانية في التعامل مع هذه الظاهرة الطارئة، والناتجة عن عقود من الاضطهاد لهذه الجماعات الدينية، سواء إسلامية أو مسيحية، وعزلها أو تهميشها، وإبعادها عن العمل السياسي المباشر والعلني.
والخلاصة أن الدولة العربية سوف تمر بالعديد من التحولات في المستقبل المنظور، تتوقف نتائج هذه التحولات علي مدي نضج النخبة المثقفة وقدرتها علي قيادة هذا التحول، وتوجيهه الوجهة السليمة، وعدم ترك تداعيات الواقع تتحرك بصورة تلقائية عفوية، قد تقود إلي انهيار الدولة أو فشلها بصورة كاملة. ولعل نماذج الصومال والعراق وأفغانستان ليست بعيدة عن أذهان الدارسين للنظم السياسية، أو المتابعين للتطورات في المنطقة.
ودور النخبة المثقفة هنا لا ينبغي أن يكون مقصورا علي الرصد والمتابعة والتحليل، بل ينبغي أن يركز علي رسم الطريق، وتحديد التوجهات والسيناريوهات المستقبلية، وتوجيهها الوجهة التي تحقق مصالح المجتمع وتحميها. تعريف الكاتب:أستاذ العلوم السياسية، جامعة القاهرة