هيئة مكافحة الفساد تتسلم إقراري رئيس الهيئة العامة للاستثمار ومحافظ محافظة صنعاء    اختتام بطولة 30 نوفمبر لالتقاط الأوتاد على كأس الشهيد الغماري بصنعاء    شبوة أرض الحضارات: الفراعنة من أصبعون.. وأهراماتهم في شرقها    بوادر تمرد في حضرموت على قرار الرئاسي بإغلاق ميناء الشحر    أمن العاصمة عدن يلقي القبض على 5 متهمين بحوزتهم حشيش وحبوب مخدرة    قرار مجلس الأمن 2216... مرجعية لا تخدم الجنوب وتعرقل حقه في الاستقلال    دائرة التوجيه المعنوي تكرم أسر شهدائها وتنظم زيارات لأضرحة الشهداء    يوم ترفيهي لأبناء وأسر الشهداء في البيضاء    وسط فوضى عارمة.. مقتل عريس في إب بظروف غامضة    لحج تحتضن البطولة الرابعة للحساب الذهني وتصفيات التأهل للبطولة العالمية السابعة    الرئيس الزُبيدي يُعزّي المهندس عبدالله سالم الدقيل بوفاة شقيقه    انتشال أكبر سفينة غارقة في حوض ميناء الإصطياد السمكي بعدن    مجلس الأمن يؤكد التزامه بوحدة اليمن ويمدد العقوبات على الحوثيين ومهمة الخبراء    خطر المهاجرين غير الشرعيين يتصاعد في شبوة    وزارة الأوقاف تعلن عن تفعيل المنصة الالكترونية لخدمة الحجاج    "الشعبية": العدو الصهيوني يستخدم الشتاء "سلاح إبادة" بغزة    الأرصاد: أجواء باردة إلى شديدة البرودة على المرتفعات    مدير مكتب الشباب والرياضة بتعز يطلع على سير مشروع تعشيب ملاعب نادي الصقر    شركة صقر الحجاز تثير الجدل حول حادثة باص العرقوب وتزعم تعرضه لإطلاق نار وتطالب بإعادة التحقيق    بيريز يقرر الرحيل عن ريال مدريد    عمومية الجمعية اليمنية للإعلام الرياضي تناقش الإطار الاستراتيجي للبرامج وتمويل الأنشطة وخطط عام 2026    تنظيم دخول الجماهير لمباراة الشعلة ووحدة عدن    فريق DR7 يُتوّج بطلاً ل Kings Cup MENA في نهائي مثير بموسم الرياض    الانتحار السياسي.. قراءة في نموذج الثاني والعشرين من يونيو 1969    مقتل وإصابة 34 شخصا في انفجار بمركز شرطة في كشمير الهندية    انهيارات أرضية بجزيرة جاوة تخلف 23 قتيلا ومفقودا    مليشيا الحوثي تستحدث أنفاقا جديدة في مديرية السياني بمحافظة إب    ضبط وكشف 293 جريمة سرقة و78 جريمة مجهولة    معهد أسترالي: بسبب الحرب على اليمن.. جيل كامل لا يستطيع القراءة والكتابة    لاجئون ومجنسون يمنيون في أوروبا يتقاضون ملايين الدولارات شهرياً من أموال الجنوب    حكام العرب اليوم.. ومكياج السلطة    روسيا تمتنع عن التصويت على قرار تمديد العقوبات على اليمن    مؤسسة الكهرباء تذبح الحديدة    توخيل: نجوم انكلترا يضعون الفريق فوق الأسماء    وديا: السعودية تهزم كوت ديفوار    الارياني يرفض إعادة الآثار المنهوبة وبعضها بيع في باريس(وثائق)    أمين عام الإصلاح يعزي رئيسة دائرة المرأة في وفاة زوجها    حين قررت أعيش كإنسان محترم    محافظ عدن يكرّم الأديب محمد ناصر شراء بدرع الوفاء والإبداع    الكشف عن لوحة تاريخية للرسام السويدي بيرتل والديمار بعنوان Jerusalem    المقالح: من يحكم باسم الله لا يولي الشعب أي اعتبار    الصين تعلن اكتشاف أكبر منجم ذهب في تاريخها    نمو إنتاج المصانع ومبيعات التجزئة في الصين بأضعف وتيرة منذ أكثر من عام    وجهة نظر فيما يخص موقع واعي وحجب صفحات الخصوم    الإمام الشيخ محمد الغزالي: "الإسلام دين نظيف في أمه وسخة"    حكام العرب وأقنعة السلطة    مي عز الدين تعلن عقد قرانها وتفاجئ جمهورها    إسرائيل تسلمت رفات أحد الاسرى المتبقين في غزة    الحديدة.. مليشيا الحوثي تقطع الكهرباء عن السكان وتطالبهم بدفع متأخرات 10 أعوام    وداعاً للتسوس.. علماء يكتشفون طريقة لإعادة نمو مينا الأسنان    عدن.. انقطاعات الكهرباء تتجاوز 15 ساعة وصهاريج الوقود محتجزة في أبين    جراح مصري يدهش العالم بأول عملية من نوعها في تاريخ الطب الحديث    عدن تعيش الظلام والعطش.. ساعتان كهرباء كل 12 ساعة ومياه كل ثلاثة أيام    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إستطلاع : طهران: ثقافةُ الشهداء.. أو حضارةُ الأحياء؟
نشر في عدن الغد يوم 24 - 09 - 2013


استطلاعات - أشرف أبواليزيد
من فوق قمة برج (ميلاد) في العاصمة الإيرانية طهران، كنتُ أقلب البصر بين معالم المدينة. لا شيء يكشف لك عن اختلاف من هذه المسافة الشاهقة التي تعلو 185 مترًا عن سطح الأرض، لا تبدو لك أسرار، ولا تبين لك خفايا. تبدو المدينة شبيهة بكل المدن، لها دروبها المشجَّرة، ومعالمها الآسرة، وجغرافيتها النافرة، يحدها جبل في الأفق، وتميزها هضاب في مدى البصر، وتضع علاماتها شواهق معمارية عملاقة تظهر نادرا. بيوت واحدها مثل مكعب الأسمنت، ومساحات خضراء مفردها مثل بساط الريح. مبان بيضاء، ومساجد مزخرفة. حتى أبناء وبنات البلد الذين صعدوا إلى السماء لمشاهدة حاضرتهم، كان يمكن أن ترى مثلهم بابتساماتهم في أي مكان، وزمان، وبينهم أجانب مثلنا يزورون تلك التحفة المعمارية العصرية الأنيقة التي تسجل جدرانها رموز وعلامات الحضارة الفارسية.
قلتُ لنفسي إن اختلافًا تبحث عنه لن يكون في البرج، ولن يسكن قرب السحاب، عليك أن تنزل إلى الشارع، أن تتجول بين العمائر والبساتين، أن تتأمل الوجوه، في الخلاء والزحام، أن تقارب بين الليل والنهار، أن تتعرف على ثقافة الاستشهاد والشهداء، وتتأمل حضارة الأحياء، أن تتنقل ما بين قصر الشاه، وبيت الإمام، أن تستكين لدليلك وهو يقودك، أو تهرب منه حينا لترى ما يفاجئك، أن تستمع بعينيك، وأن ترى بأذنيك، وأن تتذوق بطريقةٍ خاصة حتى وأنت تلتهم طعامًا اشتهر في العالم كله، وقد دخلت مطاعم تكنى باسم (الإيراني) من الكويت إلى كوريا، إلا أنه هنا، في بلاده، لاشك، مختلف. انزل من برجك لتقرأ الائتلاف والاختلاف؛ أهلا بك في طهران.
صالة التشريفات
كل ضيفٍ قادم كان يُمسكُ جواز سفره كأنه جزء منه، لكننا جميعًا حين رأينا ابتسامة مضيفينا الواسعة رضخنا وسلمنا الوثيقة الأهم بيسر إلى موظفي الجوازات، وانتظرنا كوفد رسمي في صالة التشريفات لكبار الزوار. بقينا فترة تكاد تماثل المدة التي قطعنا بها مسافة السفر بين الكويت وطهران (778 كلم)، حتى عادت إلينا وثائقنا مصحوبة ببطاقات تعريف، وهي البطاقات التي سنعيدها لأصحابها في نهاية الرحلة، تحمل صورنا، والمدة التي قضيناها، وبياناتنا باللغة الفارسية، لتضاف إلى وثائق في بلدٍ يهتم كثيرا بالتدوين والتوثيق، سواء كان ذلك في عهد ساد وباد، أم في زمن قائم دائم.
علينا أن نبحث عن تذكاراتٍ أخرى غير بطاقة السماح بالزيارة، تلك التي جمعنا مثلها في زياراتٍ كثيرة لمؤتمرات دولية، لكنها هنا، كما قال ترجماننا حسين، عهدة عليه أن يتسلمها منا. أخبرنا ذلك في ساعة السفر، ومنا من كان دفسها في مخبأ، استعادها منه، لكن الجميع التقط شيئًا من طهران، تذكارًا ما، بين صورة وكتاب، من العسل إلى المكسرات، مما صنع من النسيج وما قد من المعدن والخشب، وكثير من الذكريات.
في المسافة بين المطار وقلب المدينة حيث يقع مقر الإقامة ذو الخمسة نجوم، كنت أتأمل أمرين أدهشاني كثيرًا.
الأول أنني أنا المهتم بطريق الحرير، الذي تمثل طهران إحدى محطاته، كنت أعرف أن للعمارة الفارسية طابعًا رائعا، رأيته في شواهد مصورة وثائقية كثيرة، غير أنني لم أجده في الطريق هنا في واجهات البيوت، التي بدت لي عادية، كأنها ترتدي معطفا شحيح الزخرف. الشرفات نادرة، وليست النوافذ كما تخيلتها، فهي بسيطة في تصميمها. سألت نفسي في دهشتها: وهل كنت تتوقع أن تجد قصورًا في كل درب؟ أما اللوحات الضخمة التي رسمت بالجدران فهي للأئمة والشهداء، وكأنهم يذكِّرون الجميع بأسمائهم ومقولاتهم التي تذيل صورهم المرسومة بتلك الجداريات، وأغلبها مقولات تندد بعدو البلاد الأول.
لكن الأمر الثاني الأكثر إدهاشا هو أنني بحثت عن ابتسامات على وجوه المارة والمارات فلم أجد! لا شك أن هذا صباح وأن هذا وجه العمل، صارم، جاد، بل يكاد يكون متجهمًا. كانت الحافلة التي تقلنا يتعدد وقوفها بعد أن وصلنا قلب المدينة، فبدا الزحام مشابها لمدن كثيرة السكان كالقاهرة، ولم لا، وسكان طهران أكثر من ثمانية ملايين و400 ألف نسمة.
لمتُ نفسي، لأن التوجس وحده هو ما دفع عيني للبحث عن نقائص، لا بد أن هناك ابتسامات قادمة، ولا شك أن هناك شواهد معمارية باذخة آتية، ولا شك أن بلد الفن على طريق الحرير ستعبر عن نفسها، وقد كان لي ما أردتُ وتمنيتُ، حين تأملتُ الفعالية التي كانت سببا وراء دعوتي الأولى إلى طهران؛ معرض طهران الدولي للكتاب.
طهران تقرأ وتكتب وتترجم
تمهد الطريق إلى معرض طهران الدولي للكتاب لافتات عملاقة في كل مكان، تحمل التصميم الموجز له والشعار المعبر عنه «الكتاب.. ينبوع المعرفة الفياض»، ويرشدك تواتر ظهور الإشارات واللافتات إلى أهمية الفعالية، وقوة تأثيرها، ومدى الحراك الذي تفعله، وانخراط أكبر الرموز الدينية في هيكلة الحدث، حتى أن أول الأهداف لإقامة المعرض هو «ترويج ثقافة قراءة الكتاب على أساس إرشادات سماحة قائد الثورة الإسلامية».
عند البوابات بدا زحام كيوم الحشر. على البوابات والجداريات لوحات مرسومة كبيرة لشهداء وأئمة. ستمر بجدارية للجندي المصري سليمان خاطر على بوابة المعرض، مرة بمفرده، ومرة أخرى مع أقران له. لا شك أن الملايين التي تؤم المعرض، ستستدعي سيرة الجندي الشهيد، وهو ما يتسق مع ثقافة الشهداء التي ترسم كل درب تسلكه في طهران، خاصة وأن المعرض مقام على ملاحق مصلى الإمام الخميني، الذي لا يزال طور الإنشاء.
إذا كانت الأرقام تتحدث عن نفسها، فلنتركها توجز ذلك من معرض شارك فيه ناشرون في نحو 80 دولة، بزيادة 15 في المائة عن العام الماضي يتوزعون على قسمين؛ الفارسي الذي يضم أكثر من 2500 ناشر إيراني على مساحة 80 ألف متر مربع، والدولي للناشرين باللغات الأجنبية على مساحة 25 ألف متر مربع، والزوار الذين يتراوح عددهم يوميًّا بين 500 و600 ألف زائر لا يمرون بين قاعات الكتب وحسب، بل يختلفون إلى حيث تقام 200 فعالية ثقافية علمية وثقافية موازية للمعرض. في صالة الناشرين العرب هناك ما يقرب من 1600 ناشر عربي (أو وكلاء لهم) بما يمثل نحو 45 في المائة من القسم الدولي. استمعنا إلى أكثر من مسئول عن إدارة المعرض، حول خلاصات الأرقام، وكيف أن لوائح معرض طهران الدولي للكتاب أعدت بعد الاطلاع على الشروط المعتمدة في 45 معرضاً دوليا، بما فيها معرض الكويت الدولي للكتاب، روعي فيها بالدرجة الألى رقابيا ألا تخالف المطبوعات القيم الإسلامية، وألا تثير الفتنة الطائفية أو النزاعات القومية، ومن الطبيعي أن تكون هناك تجاوزات مع مشاركة 400 ألف عنوان (لجنة الرقابة على محتويات الكتب إحدى 12 لجنة تشرف على المعرض).
هناك أيضا إضافة، للمرة الأولى هذا العام، تتمثل في قسم النشر الإلكتروني، ومن مراقبة الجمهور في المرتين اللتين زرت بهما المعرض، صباحًا ومساء، يمكن القول إن الشباب والأطفال (مع أمهاتهم) هم الأكثر زيارة للمعرض، بين ما يزيد على خمسة ملايين زائر طيلة أيام المعرض (1 -11 مايو) حسبما يقول المنظمون.
لكن تجربتي الخاصة في النشر التي احتفلتُ بها في معرض طهران الدولي للكتاب كشفت لي عن ملامح وتفاصيل قد لا تدركها الأرقام الصماء.
جميل أن ترى دارًا واحدة تجمع عناوينها الشعرية بين أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وأشرف أبواليزيد ونوري الجراح وجمال جمعة وبروين حبيب ومحمد علي فرحات وأحمد مطر، مثلما تضم عناوينها الروائية نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وأحلام مستغانمي التي قدم لي مترجمها رضا عامري، عملها الأشهر ذاكرة الجسد. ومن الأسماء المهمة التي ترفد الدار بترجماتها عن اللغة العربية د.نسرين شكيبي ممتاز الأستاذة بجامعة الزهراء في طهران ويبدو أن (انتشارات أفراز) لا تهتم بالأدب العربي وحده، فقد ضمت عناوينها مئات الترجمات عن أشهر لغات العالم، ومن بينها الكردية والألمانية والإنجليزية، كأكثر اللغات نقلا إلى الفارسية.
تملك الدار ناشرة دقيقة الحجم واسعة الابتسامة هي أعظم كيان أفراز، والأمر ليس مدهشا لانخراط سيدة في حقل النشر، فهناك قصة أخرى لزميلة نوعية كذلك هي الشاعرة بونه ندائي التي ترأس تحرير مجلة شوكران الأدبية، وتتنوع إصدارات دارها (آمرود) بين الأدب، وبين سلسلة تنقل الأدب الكوري إلى الفارسية، وهو أمر لم يبدأ بعد في اللغة العربية، وحان وقته دون شك.
تذكرت أيضا في الترجمة، تجربة مجلة (شيراز) التي تقدم الأدب الفارسي المعاصر باللغة العربية، وهي التي انتقلت من حيز المجلة المطبوعة، لترافقها نسخة إلكترونية يقوم عليها الأديب الدكتور موسى بيدج، والذي حكى لي تجربته ورفاقه من الأدباء والمترجمين عنها حين استضافته (العربي) في أحد ملتقياتها السابقة الذي حمل عنوان (العرب يتجهون شرقا). تمنيت أن تصدر بالفارسية مجلة تقدم أدبنا العربي المعاصر، ليطالعها هؤلاء الشغوفون بالقراءة.
المرأة حاضرة بقوة، تقرأ وتكتب وتنشر وتترجم، وتدرس أيضا. تأملت الزحام الذي يضمها، والعناوين التي تحملها، وبعد المعرض رأيتها باحثة في المكتبة العامة.
أسرار المكتبة العامة
أثبتت عمارة المكتبة العامة (كتابخانه عمومي باللغة الفارسية) البديعة والرصينة نظرتي للعمارة في طهران؛ ففي حين أن عمارة البيوت بسيطة، ستجد عمران المباني الحكومية والعلامات الدينية باذخا ومتميزا وذا حس فني راق.
من بعيد، بدا الجبل المحيط بطهران وكأنه يحرس كنوز المكتبة العامة التي سنطلع عليها بشكل خاص. سنمضي في ممرات بأعمدة عملاقة، رءوسها تلتحم مع الأسقف وتربط بينها أهلة مقوسة، والأهم أنها تستفيد بعمارتها من الضوء الطبيعي الذي يتسلل عبر الأسقف (وكأن الإضاءة المتسللة تستلهم عمارة المكيفات الإيرانية التقليدية التي يتدفق فيها الهواء عبر أبراج قصيرة إلى حوش البيوت)، قبل الدخول سنجدُ معرضا للمخطوطات مقاما في بهو مفتوح تميزه اللوحة النحاسية للآية القرآنية الكريمة {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}. سورة القلم آية رقم 1 - في المعرض طرائف لكتب نادرة من مقتنيات المكتبة، سواء من ألف ليلة وليلة، أو أوائل المطبوعات، أو الكتب الدينية والعلمية ومناهج كتب الأطفال، حتى الموسيقى.
بعد أن نعبر المدخل سنجد نسخة نادرة من مصحف كبير الحجم بخط عثمان طه للقرآن الكريم، ومخطوطات مذهبة لمثنوي محمد جلال الدين البلخي، الذي يعرفه العالم كله باسم جلال الدين الرومي، وسنجد صور أمناء المكتبة منذ تأسيسها، وقاعات للقراءة والبحث. المميز في المشهد هو الأناقة، واستخدام التقنيات الحديثة، ويمكن أن يكون لدى الفتاة هاتفان وجهاز آي باد، كبير أو صغير، ستلمحه بجانبها وهي منهمكة في القراءة والكتابة، لقد تأقلم الجيل الجديد على معطيات التكنولوجيا، ومع إتاحة الإنترنت بدا استخدام هذه التقنيات ميسرا، وإن كان عصيا علي خلال فترة الإقامة الدخول على (فيسبوك)، في حين تمكن آخرون، وهو ما يعني أن يد الإنترنت أكثر مرونة من قبضة الرقابة عليها.
الرقابة على المحتويات تؤمن كل كتاب فلا يمكن سرقة وثيقة أو إصدار، وذلك حفاظا على نوادر التراث العلمي والأدبي والفني داخل المكتبة.
على ذكر الرقابة سنتذكر الرقابة الحديدية للسافاك قبل سقوط الشاه، حين نرى مقتنيات من أوراق ذلك الجهاز العتيد، وهي الآن متاحة، على ما أعتقد، للدراسة. أقلب في ألبوم داخل صفحاته البلاستيكية أوراقا تحمل أختاما وتوقيعات، وإشارات بمنع تداولها. أجد تحت عنوان (درباره رسالة آيت اله خميني)، هناك إجازة من رقابة السافاك بإجازة نشر إحدى رسائل الإمام الخميني: (تجديد جاب رسالة رسالة آيت اله خميني ازنطراين سازمان بلا مانع ميباشد لكن حسين مصدقي صلاحيت چاب رسالة مزبور راندارد. ه رئيس سازمان اطلاعات وامنيت كشور. سبهبد نصيري). تأملتُ الورقة وأنا أمسك الألبوم. كانت لا تزيد مساحتها على (A5) وربما تكون مع أخواتها إشارات زرعت شرارات الثورة الإسلامية عبر رسائل الإمام التي كان الجميع يتداولها، حتى بعد نفيه. ورقة دقيقة الحجم، شديدة الأهمية، كبيرة المعنى، وخطيرة الدلالة.
الكنوز الحقيقية لم تكن في الوثائق فحسب، بل في كثير من صور العائلة الشاهنشاهية، وخرائط إيران على مدى العصور، ومجموعات من الصحف التي تؤرخ لقرن كامل، منها ما كان محفوظا ومفتوحا عند صفحات الصراع مع هتلر في أتون الحرب العالمية الثانية.
بين قصر الشاه، وبيت الإمام
إذا كنا ندوِّن المواقف والمخاطبات، ونشغل الذهن بالمقاربات والمقارنات، ونتقصى ما يجاهر به وما يُسَرُّ، فإن المسافة البلاغية بين القطبين أو النقيضين ستعبر عن نفسها عند الكتابة عن رحلتي قصر الشاه، وبيت الإمام.
بحجم 60 / 40 سم، فردت خريطة لمجموعة قصور (سعد آباد)، وهي ليست قصورًا إلا بالمجاز، لأنها مبان بسيطة العمارة، مثل فيلات، متسعة المساحة، من طابقين أو ثلاثة، تضم 21 متحفا. بالفارسية ستقرأ اسم (موزه) المكتوب مقابل كل اسم لتلك المتاحف، وهو اشتقاق من مفردة Museum الإنجليزية. إذا زرتها كلها فعليك أن تدفع رسوما بقيمة 75 ألف ريال (هنا، تكتب الأسعار بالريال، ويحاسب العام بالتومان بحذف صفر من يمين الأرقام، فيكون المقابل موازيا لستة دنانير كويتية)، وبين هذه المتاحف ثلاثة مجانية أحدها للأكفَّاء، وعناوين القصور تشي لك بمحتواها، الحديقة، الفنون الجميلة الأسلحة الشاهنشاهية، السيارات الملكية، متحف الخط في إيران المسمى بعميد خطاطيهم مير عماد، وهكذا، ولو أن هناك وقتا وجهدا لزرناها كلها، خاصة أن بها متحفا لرسوم الفنان بهزاد.
شرايين خضراء هي الممرات تربط بين المتاحف والقصور، بأشجار لا شك أن بعضها زرع خصيصا لكي ينقل التنوع الأخضر لذلك البساط الأخضر الذي دخلنا إليه من جنوبه عند بوابة الزعفرانية، ولم نتخط ثلثه الأول، حتى درنا لنخرج من حيث أتينا، وكأننا عبرنا حياة الشاه وعائلته في غمضة عين، وطوينا صفحة قصوره مثلما طوى التاريخ صفحة حكمه، فنقل تمثاله هو والإمبراطورة ليستقرا على الأرض، كما لمحت في إحدى الغرف. التقيت بدليل فارسي غير دليلنا حسين، كان يقود مجموعة من السياح الألمان، الذين أعجبهم الفردوس الأرضي، سألني عن بلدي، فقلت مصر، وأردفتُ: «لا تنس أنني أزور ممتلكاتٍ كانت لنا في يوم من الأيام»! ضحك طويلا وقال صدقت. كنت أشير إلى الأميرة «فوزية» إحدى شقيقات فاروق ملك مصر التي أقيم حفل زواج أسطوري لها عند زواجها من شاه إيران الشاب محمد رضا بهلوي، لكن الملكة نازلي الأم، والدة فوزية، حين ذهبت لرؤية ابنتها وحفيدتها «شاهيناز» ذهلت من تواضع القصر، وخططت لتعود الإمبراطورة فوزية معها إلى مصر بعد موافقة زوجها من دون أن يدري أنها المرة الأخيرة التي سيراها فيها، لأن الملك كانت له خطط أخرى، فأجبرها على كتابة رسالة إلى زوجها تطلب فيها الطلاق الذي حدث بالفعل وتزوج بعدها شاه إيران الإمبراطورة ثريا إصفندياري، وانتهت حياته مع الإمبراطورة فرح ديبا. مثلما انتهت العائلتان، عائلة فاروق في مصر، وعائلة الشاه في إيران.
التواضع الذي رأته الملكة نازلي هو نفسه ما رآه أحد أعضاء الوفد وزير الإعلام السابق الأستاذ محمد السنعوسي، الذي قال إن بيته في الكويت أكثر فخامة من هذا القصر المتواضع. كان ما يميز القصر رسوم الشاهنامة على الجدران والأسقف، بينما كان بطل الشاهنامة نفسه يحرس المكان بقوسه وسهمه.
في طريقنا إلى بيت الإمام، فإن ما كان دربنا الأخضر الشاسع في الطريق إلى قصور الشاه، قد تحول إلى زقاق ضيق تقوم على جوانبه ضوضاء للإنشاءات، وتخترق حيزه الأسفلتي مسارب المياه، وكأن بساطة الحياة، وتواضعها، إن لم نقل شظفها، سيؤهلك إلى الدخول في عالم بيت الإمام الخميني.
في هذه الغرفة البسيطة التي يستقر على أرضيتها إطار يحمل صورة نجله الشهيد مصطفى، كان الإمام يجلس مستقبلا كبار قادة العالم، في البيت الذي استأجره، رافضا الإقامة في قصر حكومي. وغير بعيد، وفي الحسينية التي تحمل اسم المنطقة (جمران) كان صوته يتردد حاملا العبارات التي تلهب حماس محاربيه في المدن وعلى جبهات القتال، ولكن ما أضيف للمكان بعد رحيل الإمام كان متحف «مرسم جمران» الذي يحكي بالصور حياة الإمام الخميني، منذ طفولته، ودراسته في مدينة قم، ومقاومة الشاه قبل خمسين عامًا، وألبوم حياته المصورة بين العراق وتركيا وفرنسا قبل عودته هابطا من الطائرة، تشتعل المواكب في استقباله كما احتشدت عند وفاته، وبين المشهدين يؤكد أحد الأدلاء على أهمية صورة في الأيام الأولى للثورة حين جاء سلاح الطيران بضباطه للقاء الإمام، وهو ما أنكره حكم الشاه، لكن سلاح الصورة التي تسربت إلى العالم كان يعني أن القوة باتت بيد الثورة.
مرة أخرى، سأتذكر تقارير جهاز أمن الشاه (السافاك) الأمنية، التي رأينا قسما منها في المكتبة العامة، حين ألمح بين مقتنيات متحف الإمام المصور مكتبته ورسائله، ونظارته، وجواز سفره، وتقريرا بخط اليد عنه، ومع زجاجة عطره دفتر بورق ضارب للصفرة دوَّن فيه الإمام رسائله وأشعاره. ولن تفوت العين رؤية المستشفى الذي بني بجوار المكان والذي طبب حكماؤه شيخوخة الإمام حتى رحيله في سن السابعة والثمانين.
متحف الدفاع المقدس
إذا كان كل ما رأيناه يدخل في إمتاع البصر بالتاريخ، وتملي الأحداث والسير، فإن الزيارة التي ختمت رحلة طهران كانت أكثر رهبة مما تخيلناها. إنها رحلتنا إلى «حديقة متحف الدفاع المقدس وإشاعة ثقافة المقاومة». رغم أننا حللنا المكان في يوم إجازة، فإننا رأينا إصرار المنظمين للزيارة على أن نشاهد محتواه.
في الساحة كان يمكننا أن نرى «عينات» الأسلحة الإيرانية، من الدبابة إلى الصاروخ، من العربات المجنزرة إلى المدافع والطائرات، حيث يعد المكان مزارًا ولا تعدم أن تجد شيخا معمما يلتقط صورة لعائلته في إهاب مدفع!
بعد اتصالات مكثفة، دخلنا إلى مكان يعيد - من دون مبالغة - حياة الحرب الإيرانية العراقية إلى الحياة: كل معركة مسجلة، كل اسم شهيد مدون، كل صورة مخزنة، كل فيلم توثيقي تمكن استعادته، كل صوت بكى من الألم، أو صرخ من تفجير، أو بكى من فرح، هو حي داخل هذه القاعات التي امتلأت جدرانها بالتقاويم والشاشات. وأزيدكم من الشعر بيتا - كما تقول الأمثال العربية - فإنني مشيت مع الزوار وسط مدينة مهدمة، أعيد بناء ديكوراتها تمامًا، يطن أزيز الطائرات فوق رءوسنا، وتهدر أصوات المدافع، ويصم الأذان دوي الانفجارات، مثلما مررنا في خندقين، يقدمان نموذجين؛ الأول تكاد تتجمد أعضاؤك فيه، والآخر يشبه «ساونا» من الجحيم، ليقول دليلنا إن هذه الخنادق كان يختبئ بها الجنود في الشتاء والصيف.
حين جسر ثقافة الاستشهاد بلونه الأبيض، تتدلى من أسقفه مئات الآلاف من السلاسل التعريفية التي توضع في رقاب الجنود، وهم هنا تحولوا إلى أسماء، ستعلق لسماء المتحف، ومن ثم تعلق في خرائط البلاد بطولها وعرضها، لنمر برصيف قطار تقف فيه النسوة منتظرات الأبناء عائدين من الحرب، والأغاني الحماسية تدك المكان.
لن يمر أحد من المكان إلا وتسري فيه قشعريرة الموت، الذي يقدس هنا تحت شعار «إشاعة ثقافة المقاومة»، وإذا كنا شهدنا كل أنواع الأسلحة المستخدمة، بما فيها الألغام، فإن ما فاتنا، لأنه لا يعمل إلا مساء، فهو عرض يقدم بالمياه وضوء الليزر والتعليق الحي والمؤثرات الصوتية فوق بركة عملاقة من المياه تلخص سنوات الحرب.
تمنيت أن أصعد برج «ميلاد» مرة أخرى، لأرى المدينة من عل، لعل المشهد البديع ينسيني الحرب وآلامها. لكنني عرفت أنني لن أنسى، فمن يخض تجربة فعليه ألا ينساها، ليتعلم منها ما يفيده، عظة وعبرة لمستقبله. هكذا تمنيت أن تكون ثقافة الشهداء دربا يفضي إلى ازدهار حضارة الأحياء، وإشاعة ثقافة السلام الذي يسعى العالم كله لها الآن بدلاً من قرع طبول الحرب.. إلى اللقاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.