منذ سنوات مضت استوقفني ديوانه الشعري " أصحي يا مصر" عشر قصائد قرأتها بلمح البصر لأنغمس بعدها في ((جمهورية القاع))خاصته وأنصهر بثقافة وعمق وبساطه الشاعر الكبير ((أحمد فؤاد نجم)) الذي غادرنا صباح الثلاثاء الماضي عن 84 عاما لنفقد اتصالنا الجسدي بقلم وروح إنسان جميل ولن ينقطع اتصالنا وارتباطنا بحبله الإبداعي ما حيينا . تكاد قصيدة ((نجم)) كالرصاصة إن لم تكن هي الرصاصة فعلا , تخرج من فمه متحديه الحصار والإرهاب الأمني والإعلامي والسياسي , لا يوجد بلد عربي لم تصله أشعار نجم وأغاني رفيق النضال الثوري ((الشيخ إمام عيسى )) اللذين شكلا معا ((ثنائي عبقري)) نقلا الفن العربي والثوري لمرحلة متطورة جدا بعد أن تجرعا معا مرارة الفقر وشظف العيش وظلمة السجون والزنانين . أبى ((نجم)) إلا أن يعيد تجربة استاذه ((عبدالله النديم)) الذي رفض المنفى بعد فشل الثورة العرابية ووقوع مصر تحت الإحتلال الإنجليزي , فآثر أن يعيش حياة الصعلكة والثورة فوسعته مصر برحابة صدرها وأحتضنت أشعاره ونتاجه الإبداعي قلوب وأرواح كل عشاقه ومحبيه في كل البلدان . راح يكتب ويفكر , يتألم ويتعلم من تجربة شعبه وحكمته وصموده في كل المراحل التي مرت بها مصر والتحديات والانكسارات التي عصفت بالأمة العربية منذ قرن مضى . يعود نموذج الشاعر ((نجم)) ليجسد حقيقة أن ((المعاناة تولد الإبداع)) فهو ليس ثائرا وحسب أو شاعرا وحسب فهو نموذج لن يتكرر فقد أعاد للفن العربي قدرته على الثورة والتحدي والتحريض . أراد أن يتمرد منذ صباه على هذا المجتمع الظالم وأن يخرج عليه فأودع في السجن لأكثر من مرة لجريمة " الشعر" لجريمة " الثورة " التي لم تستطع أجهزة الأمن قمعها في روحه وإن قمعتها كثيرا على أرض الواقع.
يقول ((نجم)) في المرة الأخيرة التي اعتقلت فيها وبينما كنت في طريقي للسجن قال لي أحد ضباط الأمن أنهم لا يطلبون مني شيء سوى أن اتوقف عن كتابة الشعر الذي أكتبه وأن أكتب شعر ((فرايحي)) لمدة ستة أشهر ويستطرد لو فعلت ذلك كنت سأصبح نجم تلفزيوني وإذاعي شهير وأغادر حارتي الفقيرة ((حوش قدم)) لأسكن أفخم أحياء الزمالك وكنت في زنزانتي ليلتها أفكر أننا نعيش في مصر ((أمرأة العزيز)) فمجرد محافظتك على نقائك جريمة ومجرد دفاعك عن وطنك جريمة وحتى بكاءك على أخ استشهد بيد الأعداء جريمة .
لا استطيع أن أضيف أكثر مما قاله ((نجم)) فنحن حقا منذ قرون نعيش في بلدان لا تحترم ضمير الإنسان العربي ونقائه وتلقائيته , فأنحسر أثر المثقف العربي الحديث الذي نفاه واقعه الى أبعد منطقة ممكنة حتى لا يصل تأثيره على البسطاء حوله , تطورت مسألة النفي تلك أكثر من مجرد إغتراب أرض أو سجن الى انكماش نفسي وفكري على الذات لتنحسر طليعة المضطهدين التي عودتنا الذوذ للدفاع عن الحرية والديمقراطية والإنسانية في أروع تجلياتها مثلما عاشها شاعرنا الكبير .
الفردوس المفقود الذي حلم به ((نجم)) عاشه واقعا موجودا بكل تفاصيله في حارة ((حوش قدم)) ملتقى الشعراء والمثقفين والمضطهدين , روح مصر الحقيقية التي تفجرت منها شرارة الثورة الشعرية والفنية الأولى لشاعر كتب وغنى لفقراء الحارات وعشاقها لأحلامهم وأشواقهم للحرية والخبز والعدل , لخيباتهم وانكساراتهم , أتقن ((نجم)) في التعبير عنا جميعا بصورة بسيطة وعميقة جدا وكانت وسيلته الوحيدة للتمرد هي ((التجاوز)) تجاوز كل شيء , كل ما يشد المجتمع نحو العبودية حتى في مسألة الحلال والحرام بمعناهما الإجتماعي.
الشعر هوية وإنتماء وإلتزام ,يظل حلما غامضا , محبوبا مرفوضا من قبل السلطات لكنه الشيء الوحيد الذي التزم به نجم كمسألة وجود ومبدأ أمام حياة التمرد والتجاوز التي عاشها حتى وفاته متحديا بها كل أجهزة الدولة أن تعتقله روحا وفكرا وقصيدة مادام اختبىء وأختفى وانصهر في قلوب محبيه فهاهو يجسد في قصيدته الشهيرة ((استغماية)) مكان اختبائه الحقيقي في قلوب الناس وهو المكان الوحيد التي لم تستطع السلطات بكافة أجهزتها القمعية أن تعتقله منه :
عارفين أنا فين أنا ساكن قلبي ومتونس بالناس والناس الونسه كتير ماليين القلب وشاغلينه سارحين في الدم وفي التفكير وجناين قلبي العمرانه بالناس الأزهار العصافير سايعاني وسايعه اللي باحبه وتساعي معايا رفاقه كتير شايفين انا فين ؟ الشاطر فيكو يحزر فزر في دقيقتين والأشطر طبعا حيحزرها في غمضة عين أنا ...... فين ؟
آخر قصائد نجم قبل وفاته :
إلى الأمة العربية : بعد ال”طز” لم يعد يليق بكِ التحية .. الى الأمة العربية ..ما أخبار فلسطين .. شعب بلا وطن .. وطن بلا هوية .. ما أخبار لبنان .. ملهى ليلي كراسيه خشبية وطاولته طائفية ما أخبار سوريا .. تكالبت عليها سكاكين الهمجية ما أخبار العراق .. بلد الموت اللذيذ والرحلة فيه مجانية ما أخبار الأردن .. لا صوت ولا صورة والإشارة فيه وطنية ما أخبار مصر .. عروس بعد الثورة ضاجعها الاخونجية ما أخبار ليبيا .. بلدّ تحولّ الى معسكرات أسلحة وأفكار قبلية ما أخبار تونس .. انتعلّ رئاستها مهرجّ بدعوى الديمقراطية ما أخبار المغرب .. انتسب الى مجلس خليجي باسم الملكيّة ما أخبار الصومال .. علمها عند الله الذي لا تخفى عنه خفيّة ما أخبار السودان .. صارت بلدان والخير خيران باسم الحرية ما أخبار اليمن .. صالحها مسافر وطالحها كافر وشعبها قضيّة منسيّة ما أخبار عمان .. بلد بكل صدق لا تسمع عنه إلا في النشرات الجوية ما أخبار السعودية .. أرض تصدرّ التمر وزادت عليه الافكار الوهابية ما أخبار الامارات .. قبوّ سري جميل تحاك فيه كل المؤامرات السرية ما أخبار الكويت .. صارت ولاية عربية من الولاياتالمتحدةالامريكية ما أخبار البحرين .. شعب يموت ولا أحد يذكره في خطاباته النارية ما أخبار قطر .. عرابّة الثورات وخنجر الخيانات ومطبخ للامبريالية الى الأمة العربية .. بعد ” الطز ” لم يعد يليق بكِ التحية لم يعد يليق بكِ سوى النعيق والنهيق على أحلامك الوردية لم يعد يليق بكِ سوى أن تكوني سجادة تدوس عليها الأقدام الغربية لم يعد يليق بكِ شعارت الثورة حين صار ربيعك العربي مسرحية لم يعد يليق بكِ الحرية حين صارت صرخاتك كلها في الساحة دموية لم يعد يليق بكِ أن تصرخيّ بالاسلام وتهمتكِ بالأصل أنكِ ارهابية لم يعد يليق بك يا أمة مؤتمراتها مؤامرات وكلامها تفاهات وقراراتها وهمية لم يعد يليق بكِ التحيةّ .. يا أمة دفنت كرامتها وعروبتها تحت التراب .. وهي حية