في حلقة اليوم من «سجالات»، نناقش موضوع الوضع الأمني في اليمن وتداعياته المحتملة على دول مجلس التعاون الخليجي. وفي هذه السبيل نطرح سؤالين على أربعة من الخبراء والمتابعين: السؤال الأول هو هل يجوز أو يصح القول إن اليمن بات يشكل همّا أمنيا أساسيا لدول الخليج؟ ويجيب عنه الدكتور نويل بريهوني الأكاديمي والخبير
هل يجوز القول إن اليمن بات يشكل همّا أمنيا أساسيا لدول الخليج؟ نعم.... كان وسيبقى مصدر همّ وقلق كبيرين.. وأهم دعم يجب أن يكون اقتصاديا
نويل بريهوني كان اليمن منذ زمن بعيد وسيبقى مصدر هم وقلق كبيرين لدول مجلس التعاون الخليجي. ولقد اضطر المجتمع، وعلى رأسه مجلس التعاون للتدخل عام 2011 لمنع انهيار الدولة اليمنية. ولعبت حكومات دول المجلس حقا دورا محوريا في مفاوضات الانتقال السياسي التي يسميها البعض «المبادرة الخليجية». لقد ساند المسؤولون الخليجيون الحوار الوطني الهادف إلى إنشاء نظام سياسي أكثر استيعابا وشمولا، وإعادة بناء القوات المسلحة والأمنية بحيث يغدو ولاؤها للدول لا لأفراد أقوياء، وكانت دول المجلس - بفارق ضخم - مصدر الدعم المالي الأكبر الموعود، بمليارات الدولارات، والمرصود للإغاثة الاقتصادية والتنموية والإنسانية. من المقدّر أن يرتفع تعداد سكان اليمن إلى 30 مليون نسمة بحلول عام 2020، وبالتالي، من غير الممكن بقاء منطقة يعشش فيها الفقر المدقع في شبه جزيرة دولها الأخرى في غاية الثراء. اليوم هناك عشرة ملايين يواجهون صعوبة كبرى في تأمين لقمة العيش. وكل قوائم المؤشرات الإحصائية الدولية الخاصة بالتنمية تضع اليمن قرب المؤخرة. البطالة في أوساط الشباب عالية جدا، في حين أن عوائد النفط والغاز التي حمت اليمن - أو على الأقل النخبة فيه - في تراجع سريع، بينما يعطل تدهور الأوضاع الأمنية عمليات التنقيب والاستكشاف الجديدة. أضف إلى كل ذلك أن بعض مناطق اليمن ستتعرّض لشح أو نضوب كامل لمواردها المائية خلال عشر سنوات إلى 20 سنة. وعليه، ما لم يتيسر عمل شيء ما ستتفاقم مشكلات اليمن، ومعها الهم الأمني لدول مجلس التعاون. على صعيد آخر، لا بد من القول إن جزءا من تعاطي المجتمع الدولي مع اليمن مدفوع بنسبة كبيرة بتهديد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. وتظهر أبعاد هذا التهديد لليمن في الطريقة التي اعتمدها لاستغلال أزمة النظام السياسية عام 2011، محتلا بضع مدن وبلدات في محافظة أبين. ومع أن مقاتلي التنظيم طُردوا منها، فإنهم ما زالوا ينشطون على شكل خلايا وزمر صغيرة. تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يعتمد اليوم استراتيجية الاستنزاف المتواصل في مهاجمة المسؤولين الأمنيين، ولديه الطموح لمهاجمة المرافق الاقتصادية. ومن جانبها، تعد الحكومات الغربية أن هذا التنظيم بالذات هو الأخطر بين كل فروع تنظيم القاعدة وتشظياته. ومن طموحاته اليوم تنفيذ هجمات ضد أهداف داخل دول مجلس التعاون وما هو أبعد منها، مع الإشارة إلى أنه أمكن إجهاض ثلاث محاولات من هذا النوع منذ 2009. وكانت الأساليب الدعائية التي طورها أنور العولقي قد ألهمت البعض بشن هجمات إرهابية في الغرب. في غاية الأهمية إلحاق هزيمة نهائية بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب داخل أراضي اليمن قبل أن ينجح بتعزيز قدراته إلى حد يؤهل له معاودة شن هجمات جديدة في الخارج. ولقد علمت التجربة دول مجلس التعاون أن أفضل وسائل مكافحة الإرهاب إعطاء مواطنيها حصة مصلحية كبيرة في الحياة اليومية، ولعل استخدام المملكة العربية السعودية أسلوب الإقناع وإعادة التأهيل في مواجهة «القاعدة» كان بنظر كثيرين خير مثال يُقتدى به في هذه السبيل. وأرى أن دول مجلس التعاون ستحتاج إلى تسخير مزيد من الموارد لمساعدة اليمنيين على إصلاح أنظمتهم السياسية الأمنية والتخفيف من معاناتهم من الفقر والحرمان، وهي المعاناة التي قد تدفعهم إلى أحضان المتطرفين. مجلس التعاون الخليجي، في ضوء ما تقدم، سيحافظ على دور النشط في مساعدة اليمنيين في السير بالمرحلة الانتقالية، عبر إقناع جميع الأطراف، بالتوافق على تنازلات متبادلة ضرورية، وردع رموز الماضي عن محاولة تدمير ما أُنجز. أي نظام جديد في اليمن لن يكون قابلا للحياة ما لم يتمكن من التعامل مع ظلامات الجنوبيين ومطامحهم وضمان إيجاد الحلول الكفيلة بإنهاء النزاع المندلع في صعدة والمحافظات المجاورة، التي لامست لفترة قصيرة الحدود السعودية بين 2009 و2010. إن إعادة تنظيم قوات حفظ الأمن لا بد أن يحمي الدولة، لكن سيحتاج إلى دعم إضافي لمواجهة خطر «القاعدة». لقد كانت دول مجلس التعاون سخية في دعم اليمن، واليوم سيكون بمقدورها لعب دور كبير في خلق فرص عمل، اليمنيون في أمسّ الحاجة إليها. ولكن طبعا يهم الحكومات الداعمة الاطمئنان إلى أن أموالها ستذهب إلى المحتاجين المستحقين، وليس إلى جيوب شبكات النخب المتنفّذة، أو تضيع في غياهب البيروقراطية. من جهة أخرى، يريد كثير من اليمنيين أن تغدو بلادهم عضوا كامل العضوية في مجلس التعاون، وليس في بعض لجانه فقط. يريدون فرص عمل، ويطمحون إلى مستوى معيشي أفضل، يماثل ما يتمتع به معظم مواطني دول المجلس. وفي المقابل، لأسباب مفهومة، يتردد المجلس في قبول دولة عضو بكثافة سكانية كبيرة وبمشكلات متعددة، كاليمن. غير أن المصالح الطويلة الأجل للدول الأعضاء تقضي بمساعدة الحكومة اليمنية على تأمين الفرص المطلوبة والوظائف المرجوة بشدة، عبر إرفاد الاقتصاد اليمني وتشجيع الشركات الخليجية - وليس فقط تلك التي يملكها ويديرها متحدرون من أصول يمنية - للاستثمار في اليمن. بطبيعة الحال، هذا قد يستدعي المساعدة أولا على خلق ظروف ملائمة للاستثمار، كالشفافية في اتخاذ القرارات وأجهزة الرقابة القضائية والإدارية الموثوقة. مع الإشارة إلى أنه باستطاعة حكومات دول المجلس وشركاته الخاصة تحسين مستوى التعليم في اليمن، بحيث يُتاح لكل مواطن يمني ومواطنة يمنية اكتساب المهارات والمؤهلات التي يحتاجها اليمن، وتحتاجها دول المجلس. لقد أنجز اليمن مسيرة طويلة، منذ مطلع 2011، ولكن ما زال أمامه مشوار أطول وأصعب. ومجلس التعاون في أفضل موقع لتقديم العون لمنع اليمن من التحول، ليس إلى همّ أمني فحسب، بل إلى مصدر تهديد أمني أيضا. * أكاديمي واستشاري بريطاني متخصص بشؤون العالم العربي - رئيس الجمعية البريطانية اليمنية والجمعية
محمد الغسرة لم يكن اليمن يوما همّا لدول مجلس التعاون الخليجي الست، ولم يكن مصدر تهديد لهم، غير أن وجود دولة فقيرة جدا تسيطر على باب المندب وذات كثافة سكانية كبيرة تقاسم شبه جزيرة تضم - باستثناء المملكة العربية السعودية - دولا صغيرة ذات كثافة سكانية قليلة وثروات كبيرة.. أحجية تحتاج إلى حل. لقد تداعت جميع الدول الكبرى وأرسلت أساطيلها البحرية قرب السواحل الصومالية وباب المندب وبحر العرب، عندما هدد القراصنة أمن التجارة البحرية، لأن الأمن الإقليمي جزء من الأمن العالمي، وهو كل لا يتجزأ، ومن مقوماته عدم وجود «دول فاشلة» في الجوار، كما حدث للصومال. من جهة ثانية، يجب القول إنه ربط كثير من السياسيين الاستقرار بدول مجلس التعاون الخليجي باستقرار ورفاهية اليمن الذي يُعدّ اقتصاده من أفقر الاقتصادات في العالم، وذلك ليس بسبب طول الحدود التي تربطها بالسعودية وعُمان، وليس بسبب جغرافيتها المطلة على باب المندب والسواحل المقابلة للصومال فقط، بل أيضا لأراضيها الشاسعة وصحاراها الكبيرة، التي أصبحت معسكرات للتنظيمات الإرهابية التي تساهم في تفريخ الإرهاب لهذه الدول. لقد نجح مجلس التعاون الخليجي في رفع فتيل الأزمة في الحراك اليمني، وكانت «المبادرة الخليجية» التي استطاعت أن تبعد الرئيس السابق علي عبد الله صالح من الحكم لصالح نائبه عبد ربه منصور هادي، والذهاب إلى حوار سياسي يخرج بنتائج توافقية. ولكن ضعف الحكومة المركزية اليمنية سمح ل«القاعدة» بالتنامي في مدن اليمن وصحاريه الواسعة، وأصبحت دول التعاون معنية، ليس بحل الأزمة الناجمة عن الربيع العربي فقط، بل تأهيله سياسيا واقتصاديا، ليغدو دولة تستطيع الاعتماد على نفسها وبمواردها وتحقيق التنمية المستدامة، مما يتطلب مساعدة من دول «التعاون».. وهكذا نجحت «المبادرة الخليجية». غير أن ما يُؤسف له أن الحراك السياسي اليمني الأخير لم يطمئن دول التعاون وإقناعها بالعودة إلى مشروع الانضمام إلى المجلس الذي كان حلم اليمن، لا سيما أن اليمن يستطيع إكمال كثير من النواقص، أهمها القوى العاملة في هذه الدول. لقد خطت دول التعاون، وبإجماع الدول الست، قبل حلول عام 2011، كثيرا من الخطوات، التي من شأنها تأهيل اليمن للدخول بالمجلس، وأدخلته ليس في الرياضة فقط بل في كثير من اللجان المتعددة للمجلس. وتأتي هذه الخطوة متزامنة، وما كان اليمنيون يشعرون به منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي، من أنهم جزء من هذا المنظومة في شبه الجزيرة العربية، وأنه من غير المعقول استبعادهم لأي سبب. ثم كانت مشاركة اليمن في عدد من اللجان المنبثقة عن الأمانة العامة للمجلس مكان ترحيب. وقبل «الربيع العربي»، بدأت دول التعاون بالفعل إعادة تأهيل الاقتصاد اليمني، ودمجه في اقتصادات دول المجلس، في إطار الجهود المبذولة للتسريع بخطوات ضم اليمن إلى منظومة دول المجلس. ويقدّر الاقتصاديون أن مشروع خطط التعاون في سد الفجوة الاقتصادية بين الجانبين - باستثمار ثابت - تتراوح بين 40 و50 مليار دولار أميركي.. وهي توقّفت بعد ربيع العرب. ولقد كان مشروع السكك الحديدية أحد هذه المشاريع الناجحة التي من شأنها ربط اقتصاد اليمن باقتصاد دول التعاون، وخلق كثير من الوظائف والمشاريع ونقل المصادر الطبيعية والمنتجات الزراعية إلى دول التعاون. من الضروري عدّ المشكلة اليمنية مشكلة خليجية، ومواصلة الاستثمار في اليمن على عدة أصعدة في التعليم والاقتصاد والنفط. هموم اليمن كثيرة، بالإضافة إلى فقدان الأمن، الذي يُعدّ أمرا طارئا مرتبطا بالأوضاع الاقتصادية، وبالذات الفقر والجهل لأن الأخيرين هما أساس المشكلة. لقد أسهمت قلة الموارد في رفع نسبة البطالة، وأدى سوء إدارة الحكم إلى استشراء الفساد، لا سيما بعد الاكتشافات النفطية التي من الممكن أن ترفع دخل الفرد قليلا في اليمن. هذا البلد لم يشهد الاستقرار الحقيقي إلا في فترة محدودة بقيادة إبراهيم الحمدي في منتصف السبعينات، غير أنه راح ضحية الانقلاب عليه، لأنه رفض سيطرة زعماء القبائل على القرار السياسي. ولكن الحمدي في المقابل أعطى دورا جديدا قويا للجيش الذي استطاع من خلاله علي عبد الله صالح قيادة اليمن لأكثر من 33 سنة. من ناحية ثانية، لم يستفد اليمن من الوحدة كثيرا، ولم يستفد من استقرار وسيطرة «الدولة المنظمة» في اليمنالجنوبي، التي هي نتاج لاستمرار تأسيس الدولة الحديثة في اليمن أثناء الاستعمار البريطاني لعدن. ولم يستفد أيضا من الانفتاح والحرية الاجتماعية التي كسبها المجتمع المدني من الثورة الاشتراكية اليمنية، مما جعله مقرا آمنا ل«القاعدة». دول مجلس التعاون الخليجي لا يمكن أن تستقر تماما من دون استقرار اليمن، ورفع مستوى معيشته، ورفع مستوى اقتصاده، بصورة تضمن وقف تدفّق العمالة اليمنية إلى الخارج. كذلك على اليمن الحفاظ على حدوده من الهجرة الأفريقية إليه، خصوصا من الصومال المضطرب. وهذا الرأي لم يغب عن النخبة باليمن، إذ قال وزير الخارجية اليمني أبو بكر القُربي في «حوار المنامة» الأخير: «إن اليمن نجا من الدخول في أزمة سياسية طاحنة كادت تودي إلى حرب أهلية»، وتابع أن اليمن «يتعرض حاليا لمحاولات بعض القوى عرقلة مرحلته الانتقالية لحماية مصالحها، غير أن الشعب اليمني لن يسمح لها بذلك.. وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجه اليمن، فإنه يظل عنصرا مهما في المنطقة، من خلال الموقع الجغرافي الذي يطل على ممرات مائية دولية, وباعتباره السياج الجنوبي للجزيرة العربية.. وهناك جهود قوية لمنع انتقال العمالة خصوصا اليمنية إلى دول التعاون الخليجي، الذين يهدفون لتأمين لقمة العيش، بينما هناك تغاضٍ عن انتقال الإرهابيين بيسر وسهولة، وخصوصا إلى اليمن، بالإضافة إلى أن اليمن يعاني من وجود نحو مليون أفريقي على أراضيه، بالإضافة إلى وجود عناصر تنظيم القاعدة.. وهذا يحتاج إلى جهد دولي».
*إعلامي وكاتب بحريني
أ ثمة توافق عريض لدى الحكومات الخليجية على تقدير الحالة اليمنية؟
نعم.... المطلوب خطوات كثيرة أكبر لضبط خطر حالة «الدولة الفاشلة
د. برنارد هيكل كان لدول الخليج العربي دور فاعل في توفير بنية للحوار الوطني اليمني، وهي العملية التي تسعى لحل التوتر الذي طال أمده والاختلافات بين الفصائل السياسية المتنافسة في اليمن. ويعرف ذلك المسعى ب«المبادرة الخليجية» أو «مبادرة دول الخليج». وبينما تُمتدح المبادرة من ناحية أنها أنهت عنف معارك 2011 التي اندلعت في صنعاء، وأفسحت المجال لانتقال سلمي للسلطة من الرئيس علي عبد الله صالح إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي، فإنها قصّرت كثيرا، في معالجة مشكلات اليمن السياسية والاقتصادية المتوطنة. لقد قدمت دول الخليج، بقيادة المملكة العربية السعودية، بالنسبة للسياسة الخاصة باليمن مساعدات مالية لمساعدة اليمن حكومة وشعبا في عدة أشكال، وسعت إلى التأثير على مختلف الأطراف بغية التوصل إلى حل لاختلافاتهم. لكن تلك المساعدة تظل ناقصة، لأن مشكلات اليمن هيكلية بصورة عميقة. اليمن أفقر بلد في الدول العربية، ويُقارن البلد بحسب معلوماته المتوفرة ببعض أقل الدول الأفريقية جنوب الصحراء تقدما. ومن مشكلات اليمن التي تبدو متوطنة سوء التغذية الشديد والنمو السكاني الانفجاري والبطالة الطبقية ومعدلات الفقر والفساد السائد وسوء الحكم، وكلها آفات تستنفد الموارد الطبيعية بسرعة؛ النفط والغاز والمياه، إضافة إلى المجتمع السكاني المعسكر والمسلح بدرجة كبيرة، والانقسامات السياسية العميقة القائمة على الهوية الإقليمية والدينية، ناهيك من الوجود الكبير والمنظم لمقاتلي تنظيم القاعدة، الذين ينفذون هجمات إرهابية بصورة مستمرة. وفي حين ترغب قيادات نافذة في جنوباليمن بالانفصال، وتكوين دولة مستقلة، تحكم محافظات أقصى الشمال الحركة الشيعية التي يطلق عليها عادة اسم جماعة الحوثيين، وهؤلاء متشككون بشكل عميق بشأن الحكومة المركزية، ويقعون تحت تأثير إيران بصورة متزايدة. اليمن باختصار «دولة فاشلة»، وإذا انهار وانزلق إلى حرب أهلية، فإن تداعيات ذلك من حيث اللاجئون والاضطراب السياسي ستتردد صداها عبر جميع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية، التي لها حدود مشتركة مع جارها الجنوبياليمن يبلغ طولها 1800 كلم. تهدف سياسة بعض الدول الخليجية الحالية إلى تهدئة فصائل سياسية يمنية معينة، ولا تنخرط في التعامل مع فصائل أخرى، مثل الحوثيين. وهذا الأسلوب لا يتعامل مع اليمن ككيان ذي مشكلات كلية ومنتشرة. إن كان لليمن أن يصبح بلدا مستقرا على الإطلاق؛ فعلى دول الخليج، بقيادة السعودية، أن تكون أكثر استباقية في عملية تقنع جميع اليمنيين بتحول كبير في سياسات البلد، إضافة إلى توفير فرص العمل المنظمة بعناية لليمنيين في سوق العمل الخليجي. هذه بعض السياسات المحددة التي يمكن تبنيها لدرء المصيبة الوشيكة: أولا: من المهم أن يكون لدول الخليج روابط اتصال قوية وتكوين تأثير فعلي على جميع الفصائل اليمنية. ويشمل ذلك الحوثيين الذين يجب إقناعهم بترك إيران. ليس ذلك بالصعوبة التي يبدو بها، لأن المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، لها علاقات قوية وراسخة مع عدد من الأطراف اليمنية. ثانيا: على دول الخليج مساعدة اليمنيين على التوصل لهيكلة سياسية فيدرالية تعالج تظلّمات الجنوبيين الذين يشعرون بأنهم كانوا مُحتَلين ومُهَمشين منذ عام 1994. إلى جانب تنمية الجانب الاقتصادي للجنوب، ويشمل ذلك ضمن عدة أشياء، تطوير ميناء عدن الذي ستثبت أهميته في هذا الصدد، لأن ذلك سينعش اقتصاد الجنوب. وما لم يشعر الجنوبيون بأن لهم نصيبا في اليمن الموحّد، فإن البلد سيتمزق. ثالثا: على دول الخليج تهميش علي صالح وأفراد عائلته المؤثرين، بالإضافة إلى بعض شيوخ حاشد، بإقناعهم بالخروج من اللعبة السياسة بالمرة. وكان مبعوث الأممالمتحدة الخاص لليمن جمال بن عمر قد ذكر بالتحديد أن عائلة صالح تقوض عملية الحوار الوطني للمصالحة، وليست عائلة الأحمر بأحسن حالا. رابعا: يجب التعامل مع «القاعدة» بطريقة أكثر فاعلية، ولقد أثبتت سياسة الولاياتالمتحدة باستخدام الطائرات من دون طيار (الدرون) قلة فاعليتها في قتل قيادات «القاعدة»، وحاليا تحظى هذه السياسة بدعم بعض دول الخليج. وبالحكم بالهجمات الأخيرة والهجوم الانتحاري الكبير على وزارة الدفاع في صنعاء، من الواضح أن «القاعدة» لا تزال قوة قوية ومنظمة في اليمن. واستطاع هذا التنظيم الازدهار فقط لأنه حصل على ملاذ آمن بين عدة قبائل في اليمن وبدعمها. ومرة أخرى، لدول الخليج تجربة طويلة في التعامل مع الهيكلية القبلية، ومن الضروري الاستفادة من ذلك في خلق شرخ ما بين القبائل و«القاعدة». يجب تحفيز أقاليم القبائل للانقلاب ضد القاعدة بطرق تشابه تلك التي استُخدمت مع قبائل محافظة الأنبار في العراق خلال الاحتلال الأميركي. وبينما تدفع كل السياسات المذكورة أعلاه بسياسة اليمن نحو اتجاه أكثر إيجابية، تبقى قضية التخلف الاقتصادي الشديد في اليمن. ولا يمكن معالجة تلك القضية بفاعلية إلا من خلال استثمار دول الخليج في اليمن لخلق وظائف وفرص عمل. ويبقى من الأكثر أهمية إن أمكن فتح أسواق دول الخليج بطريقة منظمة للعمالة اليمنية. ويمكن أن تحل العمالة اليمنية محل العمالة الآسيوية غير الماهرة في دول الخليج، ويبلغ عددها الملايين. فخلال عدة عقود سابقة أثبت اليمنيون أنهم عمال مقدرون ومجتهدون في دول الخليج ولم يسبّبوا خلال أي فترة تهديدا سياسيا محليا. ولذلك فإن إعادتهم لن تشكل خطرا. إن أنجع وسيلة لمساعدة الاقتصاد اليمني هي بالسماح لليمنيين بالعمل في دول الخليج. لسوء الحظ يبدو أن بعض دول الخليج تتبنى سياسة معاكسة، لأنها تسعى لخلق فرص عمل لمواطنيها، مع أن مواطني دول الخليج لن يشغلوا الوظائف الدنيا التي يشغلها اليمنيون. إن السياسة الحالية باستبعاد اليمنيين ستؤدي إلى المزيد من المعاناة والإحباط في اليمن، وإلى تفاقم الوضع الفظيع أصلا. من الأمور العاجلة أن ترى دول الخليج أن مصيرها مرتبط بمصير اليمن، قبل يقظة متأخرة، عندما ينهار اليمن ويبدأ بتصدير مشكلاته إلى جيرانه. * أستاذ لشؤون الشرق الأوسط في جامعة برينستون الأميركية
لا.... توجد اعتبارات جغراسية وتفاوت في «المزاج» السياسي رغم الهواجس المشتركة
د. أحمد عبد الملك لا شك أن الأوضاع المتردّية في اليمن تحتل مكانة كبيرة لدى دول منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ولكن لدى كل دولة بشكل منفرد أولوياتها واعتباراتها حسب العامل الجغراسي و«المزاج» السياسي السائد، على اعتبار أن هذا البلد الذي حُكم 30 سنة حكما ديكتاتوريا لم يكن يلتفت إلى آمال وتطلعات الشعب اليمني، في الوقت الذي واجه تحديات واضحة كان لا بد أن يتسرب بعضها إلى دول الجوار. هذا ما أزّم العلاقات السعودية - اليمنية في فترة من الفترات، ومنها تداعيات احتلال العراق لدولة الكويت عام 1990. وبطبيعة الحال، فإن هاجس انزياح أو تسرّب اللاجئين من أفريقيا عبر اليمن غير المحكومة شواطئه أمنيا، لمنع التسلل نحو السعودية، مثلا، التي تتشارك مع اليمن في حدود يصل طولها نحو 2000 كلم يشكل خرقا للحالة الأمنية غير المحكومة، وفي الحالة ذاتها، في ظل وجود أكبر تجمع لتنظيم القاعدة في اليمن، ولقد طالت عمليات «القاعدة» مناطق عدة في المملكة العربية السعودية. طبعا، لا يوجد انعدام توافق خليجي على الموضوع اليمني، الذي يبدو أكثر وضوحا في العين الخليجية من الموضوع السوري أو المصري، على سبيل المثال. فلقد كانت المبادرة الخليجية لإزاحة علي عبد الله صالح من الحكم من نتائج الموقف الخليجي الموحّد تجاه اليمن، ولكن من الأهمية بمكان عدم تشتيت الجهود، أو حديث البعض عن «انتصارات» قد لا تخدم كل اليمنيين. تظل المسألة الوحيدة بيد اليمنيين كي يحددوا مستقبلهم - الذي يبدو أنه غير محدد الملامح - خصوصا بعد تعثر الحوار الوطني، وخروج الرئيس عبد ربه منصور هادي يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بتهديد واضح، عبر كلمات «لن نتساهل بالمتاجرة بقضية الجنوب»، في إشارة إلى موقف بعض الأطراف الجنوبية، وانسحابها من الحوار حول عدد الأقاليم، الذي يريده الجنوبيون إقليمين.. بينما ترى الأطراف الشمالية أن يكون خمسة أقاليم. الرئيس اليمني اتهم دعاة التجزئة بأنهم تارة باسم حق تقرير المصير وطورا تحت شعار إعادة دولة الجنوب «إنما يبحثون عن سراب واهم وعن مصالح ذاتية شخصية وليس عن مصالح عامة ووطنية». وفي هذا مساس بمشاعر الجنوبيين الذين يعتقدون أن الوحدة سرقت ثروتهم ومستقبلهم. ومع ذلك، فنحن نعتقد أن اليمن - بحالته الحالية المستعصية - يحتاج إلى «ديكتاتورية ديمقراطية» تمسك بزمام الأمور ليخرج البلد من أزماته التي تطوح به. وكما نقول في المثل الخليجي: «وين ما يضربها عوجه!». فالوحدة اليمنية يراها الجنوبيون «فرضا» شماليا - بدعم إقليمي - وإرهابا بحق الجنوبيين، لذا نلحظ «التململ» الجنوبي في «مؤتمر الحوار الوطني»، الذي لم يثبت نجاحا حتى الآن منذ انطلاقته في 18 مارس (آذار) الماضي، وتحوّل الأنظار إلى الدولة الاتحادية، إما بقسمين «شمالي» و«جنوبي»، كما يطالب الجنوبيون، أو بخمسة أقسام، كما يرى الشماليون، ومنهم الحكومة، كما سبق. هذا ما قامت به لجنة «8 8» المنوط بها هذا الموضوع بالذات، حيث واجهت اللجنة شح الوقت وتنافر الرأي حول توزيع الأقاليم والتركة السياسية المرتبكة للرئيس المطاح به. وما ساهم في تعثر الحوار الوطني عدم اتفاق اليمنيين على قضايا آلية السلطة وتوزيع الثروة بعدالة على الأقاليم المحلية والوطنية. كما يطالب يمنيون في الحوار ببحث قضايا المتضررين وتعويضاتهم منذ قيام الثورة الأولى، في بداية الستينات. وبرأينا، فإن تلك الخلافات فاقمت الوضع مع العامل الاقتصادي المتردّي الذي جعل اليمن في خانة ال133 من أصل 169 دولة شملها تقرير الفساد، كما وجد «صندوق السلام العالمي» أن اليمن بقي ضمن 60 دولة يعدّها الصندوق «دولا فاشلة»، على الرغم من أن المساعدات الإنمائية التي تدفقت على اليمن بلغت 2.7 مليار دولار في الفترة من 2002 إلى 2009. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في عام 2009 وحده بلغت تلك المساعدات 500 مليون دولار، كما أن «مؤتمر الرياض» (فبراير «شباط» 2010) أعلن تخصيص مليار دولار، وهو قيمة التعهد السعودي لليمن، في حين أقر مجلس التعاون تخصيص 3.2 مليار دولار لدعم اليمن. نحن لا نعتقد بجدوى تدفق هذه الأموال في ظل تلاشي الدولة، واستشراء الفساد، والوضع السياسي المضطرب، وممارسة سياسة الترقيع والحلول الآنية غير المعتمدة على استراتيجيات واضحة (كما قال علي أحمد غزوان في دراسته الموسومة «معوقات التنمية الاقتصادية في الجمهورية اليمنية»). وهناك فوق كل ما سبق النزاعات الفئوية (المواجهة مع الحوثيين و«القاعدة»، وأزمات القبائل و«الحراك الجنوبي») وتزايد جرعات العمليات الإرهابية ضد الجيش وقوات الأمن، بل والسكان الآمنين، والتسلل من الشاطئ الأفريقي والبطالة، كل ذلك يجعل التفاؤل في ارتقاء اليمن عتبات سلم التنمية أمرا محفوفا باليأس. كما أن هناك «توجسا» خليجيا من أثر العمالة اليمنية - التي طُرحت لحل إشكالية الخلل السكاني في دول الخليج، وفي ظل تنامي موجات الإرهاب ونشوء التنظيمات الإرهابية في ذلك البلد. أخيرا يحتاج هذا البلد إلى «معجزة» لانتشاله من حالته، وإلى «تطهير» من أوضاعه المقلقة، مع عدم إهمال «توجس» الخليجيين من الدور الإيراني في هذا البلد. * أكاديمي وباحث وإعلامي قطري