الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    "هل تصبح مصر وجهة صعبة المنال لليمنيين؟ ارتفاع أسعار موافقات الدخول"    "عبدالملك الحوثي هبة آلهية لليمن"..."الحوثيون يثيرون غضب الطلاب في جامعة إب"    شاهد.. أول ظهور للفنان الكويتي عبد الله الرويشد في ألمانيا بعد تماثله للشفاء    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    علي ناصر محمد يفجر مفاجأة مدوية: الحوثيون وافقوا على تسليم السلاح وقطع علاقتهم بإيران وحماية حدود السعودية! (فيديو)    شاهد الصور الأولية من الانفجارات التي هزت مارب.. هجوم بصواريخ باليستية وطيران مسير    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    عودة الثنائي الذهبي: كانتي ومبابي يقودان فرنسا لحصد لقب يورو 2024    لا صافرة بعد الأذان: أوامر ملكية سعودية تُنظم مباريات كرة القدم وفقاً لأوقات الصلاة    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    لحج.. محكمة الحوطة الابتدائية تبدأ جلسات محاكمة المتهمين بقتل الشيخ محسن الرشيدي ورفاقه    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    انهيار جنوني .. لريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى منذ سنوات وقفزة خيالية للدولار والريال السعودي    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الحاجة إلى الشعر: القصيدة ((الرسالية)) والربيع العربي
نشر في عدن الغد يوم 22 - 03 - 2014


1-
في البدء تمتم الإنسان ودمدم كلاما مبهما، هو من جنس المجاز الشعري . منذ ذاك الحين والشعر هو الرفيق الوفي للإنسان في حياته. وعن أهمية هذا الكائن يقول الرفيق ليون تروتسكي: ‘يجب أن نوفر لكل إنسان نصيبه من الخبز… ونصيبه من الشعر'.
حاجتنا للشعر إذن كحاجتنا للخبز. ما بالك والأمة العربية أمة شعر حتى أخامص القدم . ثمة عشق متبادل بين القصيدة والعرب. هي ثقافة مشدودة إلى العمق الإنساني، ومصطبغة بالوجدانية والرؤية الشاعرة في بعدها الحالم. مما سلف يمكن امتشاق مأثورة ابن خلدون ‘الشعر ديوان العرب'. إنه كلام يعدم مجرد الشك والريبة في حجم العشق المتبادل بين العربي ونظم القوافي. علاقة مركبة من نزوع فني أصيل، وشرط تاريخي حافل وموّار. لذا فهي تتأرجح بين الانعكاس والتدوين والإشباع. إشباع انتظارات الجمهور نقصد.

من مضمون هذا الكلام، نخلص إلى أن الواقع التاريخي هو سرير النهر الذي كان يجري فيه ماء الشعر العربي الذي لم يكفِّ البتة عن محاورة الحياة، وعن أن يكون نابضا بالإخلاص والوفاء لها. ثمة اختيارات شعرية عديدة منذ القدم، وثمة رؤى مختلفة ومتمايزة . لكنها ظلت راشحة بالحاضر والمستقبل، بالكائن والممكن . أليس الشعر إحساسا بالحياة، وحوارا مسجورا بالقلق الخلاق القادر على إعادة ترتيب السائد والمعطى؟

يقول شكري عياد عن جوهر الشعر ‘ هو إحساس بالحياة، ومحاولة لتشكيل هذا الإحساس في لغة قادرة على أن تأخذنا من الحياة التي نعرفها ثم تعيدنا إليها'.ولئن كان هذا المدخل يتواشج مع مشروعية السؤال الرئيس في الموضوع، أي دور الشعر في ظل هذه الاهتزازات السياسية العربية المتسارعة، فإنه من المقبول والمعقول أن نستفهم، كيف تعامل الشاعر العربي مع هذا المعطى التاريخي الحاسم؟ هل كان تفاعله إيجابيا، أم أنه التزم الحياد السلبي بدعوى الحداثة الفنية تارة، وبدعوى الولاء التام للمشروع القومي تارة أخرى؟ وماذا عن الشعري في خضم هذا التدافع الحدثي؟
- 2
في إحدى المناسبات، كان ذلك قبل أن تَهُبَّ رياح التغيير على البلدان العربية، وقبل أن يزحف الربيع نحو أراض قصية ظلت لزمن ليس بالقصير مسكونة بصمت الفيافي ورطانة القوافي، قال شاعر البندقية أحمد فؤاد نجم. في مقابلة تلفزيونية ما مضمونه، إن العرب حالة خاصة لم يعد يؤثر فيها الشعر في الوقت الذي تعيد فيه شعوب أخرى تقدير المظلومين من شعرائها كناظم حكمت في تركيا، وبابلو نيرودا في تشيلي.

أغلب الظن أن شاعرا مناضلا كأحمد فؤاد نجم كان يُلبد الحقيقة بسخط كبير على هكذا واقع، نقصد الواقع العربي المشلول والمستكين إلى عجزه . مسوغنا في ذلك أن قصائد هذا الشاعر كانت بمثابة الحطب الذي ألهب النار وقد التهمت رموز الاستبداد في مصر، بل إن حضور الشاعر في ميدان التحرير وقتئذ يغني عن إثبات الظن وتأكيد الزعم.لقد خاب ظن الطاغية العربي عندما توهم أن أمة الشعر هجرت القصيدة إلى غير رجعة، وأن الشعر الرسالي أضاع رسائله في صناديق بريدية مهجورة . واقع الحال يعدم مجرد الشك في ذلك.

ولئن كانت الاتجاهات النقدية الحديثة قد دفعت بأقلامها إلى الازْوِرَار عن كثير من هذا الشعر بمسوغ نعتبره مقبولا، نقصد شحوب روح الفن في هذا المنجز الشعري،، فإنه من حيث وظيفته الإنسانية كحد آخر للشعرية وليس ما سنقول ردة نقدية أو نكوصا كانت وستبقى وردة جميلة توبخ هذا العالم الذي يفور ويمور بالوحشية والقسوة، عالم مفعم بالقنوط والمرارة.

- 3
عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه احتجاجا على ‘ ‘ الحكرة'، فإنه كان يفك بغير وعي أو قصد، عقدا من الألسنة، الشيء الذي جعل الشعب التونسي يعيش شرطه التاريخي. الشعر ليس في معزل عن هذا الشرط، هو مرآته، وعطفا هو لغته، أليست اللغة هي مسكن الوجود بتعبير هايدغر؟ ولنا أن نستفهم هنا مرة أخرى، هل ينبعث الشعر مثلما ينبعث الفنيق من رماده السديمي؟ وماذا عن الشعري في القصيدة التي آثرنا وسمها بالشهادة والاستشهاد على غرار الدارس عبد الله راجع؟
صحيح أن التحريضي يظل ملبِّدا للشعري كأفق يجعل النص يخفي فتنته في جل النصوص المنتسبة إلى هذا الصنف الشعري، لكنها تبقى اختيارات شعرية وجمالية مبرَّرة على كل حال. فالكتابة عند الشاعر عبد اللطيف اللعبي هي ‘ رفض الصمت وإعطاء الكلمة بعدها الثقافي والتاريخي'. وإنه مبررنا نظنه معقولا في تدوين بعض الملاحظات بخصوص هذا النوع من القول الشعري في ارتباطه بالحراك الشعبي العربي الراهن.
- 4 -
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا فلافلافلا
فلابد أن يستجيب القدر
ولاولا بد لليل أن ينجلي
ولا ولابد للقيد أن ينكسر

من منا لم يحفظ قصيدة ‘إرادة الحياة' عن ظهر قلب. قصيدة مثخنة بالقلق الوجودي التشوفي . كنا نرددها في المظاهرات ونحن طلاب في الجامعة. ربما كان ذلك بدون معنى أو على الأقل بدون مذاق. كنا نعرف أنها لأبي القاسم الشابي، الشاعر التونسي الذي انحاز في جل منجزه الشعري للقصيدة الهروبية، نقصد الخطاب الرومانسي . تونس وللصدفة كانت البداية، وكان هذان البيتان وقودها وتدفقها الهادر. وإذن ألم يكن الشابي نبيا حين تنبأ في النصف الأول من القرن الفائت بما يقع في تونس الآن ؟ ألم تكن قصيدته هذه تجربة شعرية ‘ضدية' بكل ما في الكلمة من معنى ؟ ضد الارتكاس والنكوص نعني . إنه المنسي في تجربة هذا الشاعر الرسالي. لنقف قليلا عند هذين البيتين، تحديدا عند ثلاث كلمات نعتبرها مفاتيح لنبوءة الشابي، هي نفسها مفاتيح فلسفة الفيلسوف الألماني نيتشه: الإرادة، الحياة، القدر.

يقول نيتشه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) ‘إن الإنسان خالق ذاته . وهو مصدر حديثه'. والإنسان الحقيقي هو الذي يحدد موقفه اتجاه اللحظات التي تتبدى فيها إنسانيته، واقفا في مفترق الطرق ومتخليا عن الثبات. حتما هناك خطر ما يتربص بهذه المغامرة. المهم بالنسبة لنيتشه تخطي الماهية الثابتة وحشد القوى الخلاقة للإنسان للسمو بهذه الماهية. لحظتئذ فقط يتحول الإنسان إلى خالق أو صانع.

وبالعودة إلى قصيدة الشابي، فإن الحياة عنده هي الحرية التي لن تتحقق سوى بإرادة القوة كما يقول نيتشه . الحرية هنا بما هي سمو إلى مرتبة الخلق، حيث يقرر الإنسان مصيره، ويتحكم في قدره. وأما الموت عند الشاعر فيعادل الفداء عند المسيح، المخاطرة عند نيتشه.مجمل القول إنها فلسفة الموت من أجل مقاومة الموت، وهكذا كان .. تكسرت القيود، وانجلى الليل، واستجاب القدر، وانتصرت الحياة على الموت بالفداء. إنها فلسفة الشابي المائزة، فلسفة مقاومة الموت ومواجهته بالموت.
- 5 -
ليس من شك أن الشعر الرسالي، هو شهادة راشحة بمعاني التمرد على بؤس الواقع، بله تشوف موارب نحو المستقبل المزدان بالحرية والكرامة. إن الالتزام بقضايا الوطن أو الأمة، ليس بالضرورة من وحي توجه حزبي أو إيديلوجي، وإنما من وحي ذات متأزمة ومتصدعة بسبب واقع مأزوم ومعطوب، حيث يحس فيه الشاعر بأن وجود الإنسان مصاب بالهشاشة ومهدد بالانكسار. وارتباطا دائما، بما وقع ويقع في الوطن العربي من حراك شعبي انتهى بهزم قوى الشر والفساد المستحكمة في مصائر البلاد والعباد، سنقف عند شاعر ثوري انماز من ضمن شعراء جيله بكاريزميته المخصوصة، ومواقفه المتشددة ضد الظلم والاستبداد .

لقد استطاع سفير الأمم المتحدة للفقراء، الشاعر أحمد فؤاد نجم أن يوقع على حضور قوي في تهييج الجماهير وتحريضها ضد النظام المصري التوتاليتاري المنهار، وبذلك أعلن عن ولادة جديدة لتجربة شعرية بالكاد كانت تقاوم موتها. فلا مراء أن الشعر النابض بالحياة لا يموت. جيل جديد، مختلف تماما من حيث الرؤى والمرجعية والأحلام والتطلعات، لم يكن يعرف اسم أحمد فؤاد نجم، أو على الأقل لم يكن قد قرأ قصائده . قصائد حفظها الجيل السابق عن ظهر قلب من خلل أوتار الراحل الشيخ إمام بعثت من جديد، كما لو أنها كتبت لتوها. ‘حاحا' ‘ياللي السجارة' ‘الورد اللي فتح في جناين مصر'، كلها قصائد تغنت بها الجماهير في ميدان التحرير، وكانت الطاقة التي حفظت هذه الجماهير من شدة البرد في القاهرة المثخنة بالعصيان المدني. يقول الشاعر في قصيدة ‘الورد اللي فتح في جناين مصر' وقد قيلت سابقا في حرب أكتوبر 1973 وبعثت مرة أخرى.

صباح الخير ع الوَرْد اللي فتّحْ في جناين مصر
صباح العندليب يشدِي بألحانِ السُّبُوعِ يامَصْر
صباح الدَّالْيَة واللفَّة ورش الملحِ في الدَّفة
صباح يطلع بأعلامنا من القلعة لباب النصر
هكذا هي القصائد التي تكتب بلغة استباقية استشرافية لغة تسبغ على الآتي والمستقبل معاني الحياة الدفّاقة بالحياة.

وكعادته لم يكن أمام الشاعر أحمد فؤاد نجم سوى الإذعان لنبض الشارع المصري في ثورة يناير، حيث جادت قريحته المدرارة بقصيدة سامقة وعارية من كل المساحيق، مضمونها سياسي وتحريضي يستضمر سخطا شديدا ومباشرا على النظام المصري التوتاليتاري. القصيدة بعنوان ( كأنك مافيش )، يقول فيها :
بِرُغم أن صُوَّرك في كل الدواير
وكل المداخل وكل المحاور
ومالية الشوارع على كل حيط
مطنّش علينا وعامل عبيط
كأنك مافيشْ
يافرحةْ قلوبْنا
رئيسْنَا ظريفْ
فكاهي، ابن نُكتَةْ أُدمُّ خفيف
في عهد سيادتك فرشنا الرَّصيفْ
وآخر منانا الغُلُوس والرَّغيفْ
ولا يزال الشاعر يسخر من الرئيس ويتهكم عليه، حتى خلص إلى إدانته المباشرة لهذا النظام المستبد قائلا :
مسيَّبْ علينا عصابة حبايبو
فضايحْ، ونَهْبْ، وسرْقة بْسبايْبَكْ
ما بين حزب نجلك
وهانم جلالتك
وجيش الغوازي اللٍِّي داير يجاملكْ
ونملك وقملك وحارسك وأمنك
شبعنا مهانة . شبعنا لطِيش
وأنت ما فيش.
هذا هو الشاعر فؤاد نجم الذي قال فيه الشاعر الفرنسي لويس أرغون ،ذات مناسبة، كلمة أدخلته قاموس الأنبياء (شاعر فيه قوة تسقط الأسوار).

- 6 -
وبالموازاة مع هذا الحراك الشعبي، خصصت مسابقة المليون شاعر، التي تنظمها دولة الإمارات العربية بأبو ظبي، حيزا مهما يليق بالحدث، واحتفت بشعراء شباب تحدَّروا من ميدان التحرير. شعراء استطاعوا، بقصائدهم الثورية، استثارة عاطفة الجماهير وحماستهم، قصائد راشحة برؤى ثورية وقومية تبعث على الأمل في بعث حياة جديدة، عبر التضحية والاستشهاد وذلك من خلل خوض الصراع ضد قوى الفساد والتفرقة التي تحول دون هذا الأمل الكبير. من بين هؤلاء نذكر تمثيلا لا حصرا، كل من هشام الجخ، وإيمان بكري، ومصطفى حسان، ويحيى قدري…
والملاحظ بخصوص ريبرتوار هؤلاء الشعراء، هو مزاوجتهم في الكتابة بين الفصيح والشعر العامي، مع نزوع شديد إلى الزجل الذي تحقق فيه جانب من الشعرية، في مقابل الفصيح الموسوم بالسطحية والعفوية والتعبير المباشر . ولعل هذا الميل إلى لغة اليومي يشي بنوع من التمرد على أرستقراطية اللغة وبذخها الذي يحجب الرسالة لا محالة. يقول الشاعر هشام الجخ في قصيدة ‘التأشيرة':
أنا العربي لا أخجل
‘ولدْت بتونس الخضراء من أصل عماني
وعمري زاد عن ألف
أنا العربي في بغداد لي نخلٌ وفي السودان شِرْيانِي
أنا مصري، موريتاني وجيبوتي وعمان
مسيحي وسني وشيعي وكردي وعلوي ودرزي
إن هذه القصيدة تمثل أقصى أشكال الرفض الجماهيري العربي لتفنن الحكام في لعبة التفرقة والتجزئة، بأسلوب مباشرة ينتفي فيه الإبداع الفني المطلوب في الشعر. والقصيدة أيضا وعطفا تتقاطع بشكل مكرور مع قصيدة محمود درويش ‘سجل أنا عربي' بما لا يحقق الاختلاف والفرادة . سمينا هذا ‘بالتناص الغرضي'.
فلئن كان الجمهور العربي قد خندق محمود درويش في شعر المقاومة والثورة، وأصبحت الذائقة العربية تقيِّم تجربة هذا الشاعر انطلاقا من هذا الحد أو المعيار، فإن درويش قد فطن، بحدسه الشعري، مبكرا لهذا العطب، فقال قولته المأثورة ‘أنقذونا من هذا الحب القاسي'. هنا تحديدا تكمن المطبات والأعطاب، أي عندما ينظر إلى الشعر بما هو مضمون أو رسالة، لا بما هو خلق واكتشاف لتخوم دائمة الهروب، تلك التي يسميها أبو نواس ب ‘مضايق الشعر'.
وبالعودة إلى قصيدة ‘التأشيرة' نقول إن للشاعر هشام الجخ قدرة فائقة على استثارة عاطفة الجمهور الذي يظل أبدا المجال الذي يحيى فيه الشعر. فلنصغ لهذا المقطع، ولنلق بظلال خيالاتنا في ميدان التحرير لحظتئذ. يقول الشاعر:
أنا لا أحفظ الأسماء والحكام إذ ترحلْ
سئمنا من تشتتنا وكل الناس تتكتل
ملأ تم ديننا كذبا وتزويرا وتأليفا
أتجمعنا يد الله ؟ وتبعدنا يد (الفيفا)؟
هجرنا ديننا عمدا فعدنا الأوس والخزرج
ونعبد نار فتنتنا وننتظر الغبا ومخرج
إنه صوت مواطن عربي حر لا زال يحلم في هذا الزمن الرديء بوحدة عربية تأتي ولا تأتي. وبذلك تكون قصيدة ‘التأشيرة' تعبيرا صريحا عن واقع عربي مشتت بين جماهير تحلم بوحدة عربية مفقودة، وحكام يجعلون منها مجرد شعارات في المؤتمرات ليس إلا.

- 7 -
عندما تواطأت السخرية في الكلمة مع سخرية الأقدار، انفضحت عورة العرب بطريقة كاريكاتورية. بؤس عربي لا نظير له. آلاف الشهداء من الشعوب العربية، وأنظمة من رمل تتهاوى صريعة كما ثور إسباني. فماذا عن السخرية في أشعار هؤلاء الشباب؟
في قصيدة ‘ديك ده ثور' الرائقة والريِّقة للشاعرة إيمان البكري، تتحقق المفارقة والسخرية في أبهى صورها منذ العنوان. فمنطوق العبارة يقول هل الحاكم العربي ديك أم ثور، فيما كيمياء المعنى المقصود يقر بأنه ديكتاتور. إنه عنوان ثلاثي الأضلع من حيث المبنى والمعنى: الديك، والثور، والديكتاتور. للإشارة فإن هذه القصيدة تضمين مباشر لقصيدة شاعر الثورة الأول محمود درويش الموسومة بخطاب الديكتاتور.
تقول الشاعرة إيمان البكري في قصيدتها السالفة، بنفس البناء الغرضي ونفس السخرية لقصيدة درويش:
أيها السادة اللي مش سادة
إليكم نشرة الهم المعادة
في حديث خاص لإذاعة هسِّ هِسْ العالمية
صرح الوالي المعظم من ولالية ننّا ننّا
للولاية بتاعْنا إحنَا
اللي عارف كلِّ حاجة
واللي فاهم كلِّ حاجة.
إلا شوية عزيمة على حب من إرادهْ
بسْ عايزين الصراحه
كان حديثه نيلة خالص
سوري عفوا
كان حديثه هو خالص
والمذيعة حلوة خالص
من خلال هذا المقطع نلفي الكتابة عند الشاعرة مزيجا رائعا من الجد والهزل، الواقعي والمتخيل، التهكم والمأساة. بالمناسبة فإن الشاعرة هنا تستعمل التهكم بدل السخرية، لأنها في موقع قوة لا موقع ضعف.
إن المتهكم، يقول أحدهم، ينطلق دائما من أعلى، ويصدر تهكمه عن إحساس بالقوة، لذا فهو لا يتهكم على نفسه، بينما السخرية متواضعة، تسخر من نفسها أولا. لقد كان سقراط متهكما فيما ساخرا كان نيتشه. وكلنا لاحظنا الضعف الذي كان عليه الحاكم العربي لحظة سقوطه، في الوقت الذي كانت فيه الشعوب العربية تستأسد في معركة انقلبت موازينها.إن أشعار إيمان البكري، نقصد بالخصوص قصائد : حزب الوز، وضربة جزاء، وتصريح بالقتل، راشحة بالمفارقة والضحك الشبيه بالبكاء، الشيء الذي يمنحها عنفا يتوالج فيه الدم والدمع والسخرية السوداء، كل ذلك في نسيج فني منذور للدهشة. هي أشعار تلتقط صورها من الواقع وتجعل المشهد اليومي الأليف من دعامات النص الرئيسة بعيدا عن كل المساحيق البلاغية.

هكذا إذن هو الشعر الرسالي، شعر مرتهن أساسا بمضمونه وبوظيفته الخُلُقية، وبمدى قدرته على تهييج الجماهير واستثارة عواطفها، في إطار ما يمكن تسميته ‘بالغاية الانتفاعية'. لكن ماذا عن ‘ الغاية الاستماعية' كتكريس للبنية النصية للأثر الفني، تلك التي لا تقل أهمية عن الغاية الأولى؟

فيما مضى كان المقبل على نظم الشعر ينصح بالحفظ والنسيان. وهنا تحديدا يصبح النسيان كما يقول نيتشه' قدرة إيجابية بالمعنى الدقيق للكلمة'، بله، يضيف موريس بلانشو. ‘القوة الحارسة التي بفضلها يحافظ على سر الأشياء'. إن الكتابة الشعرية بهذا المعنى تغدو طرسا شفافا palimpseste مزدانا بأثر الأثر La trace de la trace . إنها نسيان بحجم الصمت. نسيان التكرار في مقابل تذكره، وأما الصمت، فهو صمت المضايق. فلا مجال للتكرار في الكتابة الشعرية الجديرة بأحقيتها، فقط لأن، لهذه الأخيرة، أفقا مشرعا باستمرار على التخوم، أي على ممكنات شعرية دائمة الانفلات.

ولعل الخلاصات التي انتهينا إليها بخصوص شعر الثورة العربية، تجعلنا نُقرُّ بأن هناك تفاوتا من حيث الاهتمام بجمالية النص، بين الشعر العامي والفصيح منه. وهي على كل حال، تبقى مجرد ملاحظات أولية، لأن الأمر يستدعي المزيد من البحث والتمحيص، ملاحظات نجملها كالآتي:

فبخصوص الشعر الفصيح، فإن ميزته الأساس هي المباشرة والنثرية. ربما كان ذلك بسبب تسارع الأحداث وكذا انفعال الشاعر السريع معها، مما أعدم التنقيح والتشذيب والمعاودة . وربما كان ذلك أيضا بسبب رغبة الشاعر في الكشف عن المضمون الرسالة. غير أن الكتابة الشعرية الأصيلة تظل دائما كتابة ماكرة ‘ تغلق القول وتبعد معناه عن المباشرة'.

كذلك نسجل، تكرار بعض النماذج الشعرية المؤسسة للقصيدة الرسالية العربية من حيث المبنى والمعنى في إطار ما يسميه أحدهم ‘ بالتماص' أو ‘ التلاص ‘ . والحال أن التعابير التي لها قيمة ‘ تظهر لأول مرة، دون أن يكون لها نظير سابق، فتصبح إذا اقتضى الحال أحيانا، نماذج لتعابير أخرى. وفي هذا الإطار تغدو جديرة بأن ينظر إليها على أنها تمثل إبداعات'، وأما التعابير المبتذلة، وعددها كثير ‘ لا تتمتع بأية أصالة، بل تكرر ما قيل قبلها، وأحيانا تعيده بحذافيره' يقول أحدهم.
أما بخصوص التصوير الشعري، فإن ميزته الأبرز هي الضعف والتكرار وعدم قدرة الشاعر على خلق صور شعرية خاصة، علما أن جل هذه الصور تصدر عن رؤية دينية وقومية قديمة جديدة. وعموما تبقى شعرية النص في الشعر الرسالي الفصيح، بالنسبة لصاحبها، مجرد تشويش على المضمون بما يفسح المجال للتعتيم. فنادرا ما نلفي قصيدة ثورية تنقل المعاني بعناية، ليظل الفني في النص مجرد جملة اعتراضية ليس إلا.

وعلى عكس الفصيح، نحت القصيدة الزجلية منحى خاصا راهن على تِكْنِيكْ المفارقة الصادمة، الشيء الذي أضفى عليها شعرية مواربة، فد يسميها البعض بشعرية' السهل الممتنع′. فليس من شك أن إحساس الشاعر بفداحة الواقع المعطوب، وبصعوبة مواجهته، جعله يستقوي بسخرية مرة تتحول إلى موقف دراماتيكي من الحياة تارة، وإلى سخط معلن على كل الأنظمة التوتاليتارية في الوطن العربي، عدوة الفكر والتحرر تارة أخرى.

من: محمد الديهاجي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.