وقفنا في الحلقة الأولى عند الأسباب التي تحاول فرض الماضي بكل وقائعه على الحاضر السياسي. . وحول طبيعة هذه الأسباب، نلاحظ أن انفتاح المشهد السياسي على مصراعيه أتاح لها الظهور، ووقوفاً عند هذا المصطلح «الماضوية» نرى تشظى الرؤية وتعددها، وقد تكون مختلفة أيضاً لدى كل الأحزاب السياسية اليمنية، خاصة لو ركزنا على الأحزاب الثلاثة الكبرى المؤتمر والاشتراكي والإصلاح فكل حزب يعمل على دحر المفهوم السابق هذا من خلال التنظير السياسي، اما مزاولة العمل على أرض الواقع، تلاحظ التباين الشاسع بين المنظور والعمل ولذا سترى بين الفينة والأخرى، انعكاسات لمواقف واحداث، كانت الأحزاب السياسية هي السبب في ذلك. الشيباني فالماضوية تعني الرغبة في تطبيق الماضي، الثمانينات والسبعينيات والستينيات برؤية معينة وتلاحظها في الخطابات السياسية للأحزاب بطريقة غير مباشرة، والماضوية تعنى تجذير العادات والتقاليد الاجتماعية، خارج إطار الديانة والتمسك الشديد بها، رغم أنف الحداثة الاجتماعية والسياسية، وتتمسك بها شخصيات تبحث عن ولاءات قبلية أو مناطقية أو عشائرية. والماضوية قناعات جوهرية لا تؤمن بالحوار ولا تشارك بإيجابية في مناقشة قضايا الواقع الاجتماعي والسياسي وتؤمن بواحدية الرؤية ومازالت في انغلاق دفين وتقع فيها شخصيات في الحاكم والمعارضة أيضاً. والماضوية ابتزاز سياسي تمارسه بعض الشخصيات على الواقع المأزوم، من اجل تحقيق قضايا شخصية واهداف ذاتية وهذا يتم عبر العصور، والماضوية شعور بعدم جدوى اي نظام أو برنامج سياسي ذي اطر واستراتيجيات أي اللجوء إلى الفوضوية، وعدم احترام رغبات الشعب وتطلعاته. ومن العقل والحكمة ان ترى هذا المصطلح يهوي بعيداً عن الحراك الحالي، لأن التفاعل السياسي الآن، يريد ان يخلق واقعاً جديداً، يشعر فيه المواطن بأنه اخذ كل حقوق المواطنة، وان هناك تقدماً ملموساً حدث له في حياته. من الوطنية بواجب ان ترى الأسباب التي تعيد هذا المفهوم تنهار وتدمر قبل ان تستفحل في حياتنا ولكن لن يكون ذلك إلا بالعمل الدؤوب على محاصرة هذه الأسباب التي ذكرناها في العدد السابق وهي: 1- عقم المشروع السياسي الحاضر. 2- تفاقم الأزمات الاقتصادية. 3- جيل المخضرمين السياسيين. 4- النعرات الطائفية والولاءات القبلية المحضة. 5- تكريس البابوية السياسية. 6- ردود الأفعال الشخصية. وقد فصلناها في موضوعنا السابق، وهنا سوف نركز على المعالجات المهمة التي ستعمل على الحد من وجود الماضوية في حياتنا بأسلوب غير حضاري والشعب اليمني من اقصاه إلى أقصاه وكذلك كل الاحزاب السياسية اليمنية معنية بهذا الشأن وهي مسؤولية جماعية ان نبذل كل الطاقات حتى نرى الواقع، والحاضر يقرآن كما يجب ويصنعان مستقبل اليمن بكل شموخ واعتزاز ومن هذه المعالجات ما يلي: تكريس التعددية السياسية بأسلوب منطقي: هناك بعض التحركات تعمل خارج إطار التعدد والايمان بالآخر وتمارس نوعاً من العنجهية والعبث ولا تؤمن بمفهوم التعددية السياسية وتطلق الاحكام الجاهزة مباشرة على الآخرين وبعدها عن الساحة يشكل قلقاً لدى كل النخب، لذا لابد من تكثيف الحضور الإعلامي السياسي بشكل فاعل، وبأسلوب منطقي تكون المشاركة السياسية وبالبرامج القانونية في تشكيل الأحزاب يتم التعامل مع ذلك ولابد ان تبذل الجهود في طرح مفهوم الآخر السياسي، وماذا يعني لأن هذا الأسلوب سيجعل الجميع يشاركون في صناعة الواقع، أما العودة إلى التقوقع وتذكر الماضي، فلن يفيد ابداً والأجدر ان تلاحظ كل القوى الوطنية تتفاعل مع هذا الموضوع، خاصة بعض المناطق القبلية ليتسنى تشكيل وعي سياسي جديد لدى العامة من الناس. القضاء على الولاءات القبلية المحضة والمناطقية البغيضة: لأن ممارسة التفاعل السياسي وفق الولاء يعيدنا إلى سياسة القبيلة في العصر الجاهلي بكل اصنافها، رغم ان التعددية مشروع ناجح ويحتاج إلى ان يكسر كل الأنماط الثقافية الماضوية، وذلك بتصحيح وجهة النظر السياسية لدى القبيلة وادراجها في مؤسسات المجتمع المدني، واحتوائها ضمن البرامج السياسية الحداثوية، وهذا سهل وممكن جداً ان تحديث هذه الولاءات يصنع واقعاً جديداً مهماً يخضع للقانون والدستور ويحدث تنمية على مستويات عديدة تلتقي فيها المناطقية، وتصبح اليمن شعوراً واحداً واحساساً ملتئماً. أما ما نلاحظه على المشهد فهو يكرس الماضي، لذا من الضروري ان نعيد صياغة هذه المجتمعات معرفياً وثقافياً والعمل على تطوير التعليم وتفعيله في هذه المناطق، وقد يكون القضاء على هذه الولاءات بالطريقة المذكورة فبالمعرفة تغير كل المجتمعات. مراعاة الصياغة التاريخية ل«تاريخ اليمن الحديث» قد يلاحظ القارئ على المستوى الرسمي ان التاريخ اليمني الحديث، خاصة تاريخ النخب السياسية بحاجة إلى تدوين وقراءة جديدة للاحداث حسب حضور جميع القوى السياسية للواقع، حتى تشعر كل النخب انها فعلاً صنعت تحولاً ملموساً وان سياسة التهميش والإلغاء تسبب الكثير من الغضب والتمسك بالماضي لأن في الحاضر هناك اقصاء وقد تلاحظ العديد من المفكرين والمشتغلين بالحقل السياسي يندرج تحت هذا الإطار بل يمانع البعض أي حوار مع الآخرين، إلا اذا شعر بأنهم انصفوه وصياغة التاريخ السياسي تحتاج جهود كل الأطراف ولأن علاقة التاريخ اليمني بالماضوية قوية ومتينة لذا لابد من مراعاة التحولات الدقيقة ونقلها بالصورة الكاملة دون اقصاء وبهذا نحاصر الماضوية وندفع بالمستقبلية اليمنية نحو الأمام. التنمية بدلاً عن الاحتقان: ان الاحتقان بين السلطة والمعارضة يجعل التفكير يسير في اتجاهات غير محبذة وقد تتسع الفجوة بينهما مما يجعل التفكير بالماضي كحل سلمي بين الأطراف، ومن هنا تبدأ بعض الاطراف في نسج الزمن الماضي، والاستشهادية ومحاولة طرحه امام الآخرين وبذلك تفكر القوى الأخرى بنفس الطريقة، وهو ما يجعل يجعل الاحتقان على أوجه وبدلاً عن ذلك لابد من التفكير في تقديم بدائل مستقبلية تخدم الأجيال. فالتنمية السياسية هي البديل الأوحد لكسر رؤى الماضوية والسيطرة على الأفكار الهدامة التي تمس الثوابت الوطنية سواء من احزاب ام شخصيات وهي -أي التنمية- مسؤولية كل اطراف العملية السياسية وفعلاً ستوقف كل الأصوات المغرضة التي تعمد إلى تصعيد المواقف. وضع الخطط والبرامج المستقبلية: أين وضع يمن 2020م أو يمن 2030م في خارطة الحزب الحاكم واللقاء المشترك، لاشك ان هذه الأحزاب تعمل على قراءة الواقع المحيط فقط، لا غير ولا تطرح المعالجات والبرامج في كل المجالات ولو عمل احد قراءة في البرامج الانتخابية لكل حزب على حدة أ ومجتمعه للاحظ ان الحاضر هو المسيطر بشكل كبير وان المستقبل يكاد يكون غائباً تماماً، هذا الغياب يقف حجر عثرة امام التطوير، ولولا حظ امرؤ خطط الحكومة المستقبلية نرى غيابها تماماً، لأن الحاضر يعد مشكلة عويصة امام كل القوى والذي لا يتجاوز حاضره، لا يمكن ان يقدم رؤى أفضل للشعوب. ودائماً المستقبلية قد تستفيد من الماضي، لكن لا يمكن الاتفاق بين المستقبلية والماضوية ويعد التطلع هو الركيزة الأساس في تبني المستقبل ورؤاه وغيابه يعني إعادة روح الماضي وهنا يكون التناقض ولابد من التأمل والتمعن في ذلك. القضاء على الطبقة الاجتماعية: لقد عمل الفساد بكل اصنافه على تقسيم المجتمع إلى أغنياء وفقراء وحضور القطاع الرأسمالي الذي نتج عن اخذ المال العام والسرقة، يقلق أوضاع البلد، ولذا في ظل تردي الأوضاع ظهرت الطبقة الاجتماعية والتفريق بين العباد، والطبقية تجعل العقل البشري يعمل خارج المألوف، لأن هناك ظالماً ومظلوماً، ووجود كذلك الحساسية من الفقراء تجاه الأغنياء يجعل المواطن اليمني يبحث عن حالات العدالة المطلقة، أو الحالات السياسية الأكثر انصافاً، وهذه المقارنة تحدث في لاوعي الشعوب، ومن هنا يحدث ارتداد إلى اقرب لحظة زمنية وجدت فيها نسبة عدالة اجتماعية مهما كان شكلها أو خلفياتها السياسية ويتم القضاء على الطبقة بإيجاد المستوى المعيشي العادل فيه طبقات الشعب، والتعامل مع الواقع بكل ادارة حازمة لأن الاجتماعي يؤثر في السياسي وينتج الأزمات وما الماضوية إلا احدى هذه الأزمات. والحق أن الهوة العميقة الطبقية صنعتها التصرفات السياسية الحمقاء من قبل المتنفذين الذين امتصوا كل طاقات البلد وثرواتها ولذا لابد من محاسبة الناهبين لكل القيم. الحضور الثقافي الفعال: سواءً ثقافة الايديولوجية السياسية، أم ثقافة المؤسسات أم ثقافة الأفراد كلها تخلق الواقع الاجتماعي المتقدم وتوجد مساحة كبيرة لنقاط الائتلاف والاختلاف مع كل الاطراف والمتابع للحضور الثقافي من قبل الاحزاب فان الحزب الحاكم يمارس عملاً ثقافياً لا يعنى بالفرق ولا يقدم شيئاً قوياً ملموساً اما احزاب المعارضة يكاد يكون العمل الثقافي في برامجها غائباً تماماً، وهذه من اخطر المشاكل الثقافية فلو ماتت الثقافة الحزبية فيعني ذلك ركود المستوى السياسي في أسوأ حالاته. وفي السيطرة على الماضوية تمارس بعض انشطة من قبل مؤسسات المجتمع المدني لكنها محدودة ومقصورة على منطقة بعينها والعمل الثقافي السياسي بحاجة إلى جهات رسمية كبيرة وجهود جبارة. وغياب فاعلية الثقافة في المحافظات اليمنية هو الذي شكل هذا الركود واعاد العقل إلى التفكير في الماضي، وللتغلب على ذلك يتم عبر وسائل الإعلام والسينما والتلفاز. . . الخ لأن الثقافة تغير طبيعة المجتمعات مهما كانت والمجتمع اليمني يحتاج الكثير من البرامج والأنشطة والفعاليات حتى يخرج من النطاق الضيق الذي يسيطر على الغالبية من الناس. تطوير الفكر السياسي والمقصود هنا العقل السياسي، لأن الذين يحتلون مراكز الأمانة العامة في الأحزاب اليمنية يعيشون عجزاً فكرياً، إلا القليل منهم الذين يملكون رؤى مفرقة غير محسوبة ولاننا نعيش تردياً سياسياً فنحن في أمس الحاجة إلى التفكير والتعكير من أجل الخروج من الشرانق المغلقة، وحتى يستعيد العقل السياسي قدرته في الحضور وتغيير الواقع إلى الأفضل، حيث تعد المشكلة الكبرى مشكلة العقل والعمل الآلي له، فهل فعلاً يعقل العقل السياسي هذه التطورات ومجريات الأحداث. ان حيوية الفكر السياسي تفرض علينا ان ننظر إلى من يقدم البدائل العميقة للأزمات الحالية وهي ملحة حضارية وثقافية لابد ان يجدها المجتمع في حياته، وتطوير العقل السياسي سواءً الحزب الحاكم أو المعارضة يتم عبر تفعيل القضايا لصالح القضية الوطنية بمفهومها الشامل ولنا في الحوار الحالي مثل شرود تقف عنده كل القوى السياسية، وان التسرع في اطلاع الاحكام والاتهامات، يعد خارج عمل العقل السياسي وتطوره لأن ذلك ينبنى على الانفعال الشخصي فقط لا غير. التبعية المطلقة في الفكر الحداثوي: هناك بعض المبالغات الفكرية من قبل التيار الحداثوي وهو الذي ينسف الماضي ويعلن القطيعة معه مما يسبب ردة فعل لدى الاصوليين ويكون التفكير بالماضوية مقابلاً للحداثة السياسية والاجتماعية وقد تورث التبعية العمياء رؤى وقضايا خطيرة تتفاقم على مستوى من المستويات ثم تشهد أزمات على المستوى السياسي وما بين التبعية المطلقة والحوار مسافة شاسعة لأن التيار الحداثوي ليس مقدساً بل هو مشروع بشري فيه الصواب والخطأ وبهذه الطريقة يكون التعامل، اما التطرف للحداثة في مجتمع اصولي محض فانه يورث ردة فعل تكرس الصنمية الماضوية بأسلوب ملفت وتكون بسبب التطرف الفكري لدى شخص ما، أو حزب ما، ولابد من الإيمان المطلق بحيوية الفكر، وان الاختلاف والاتفاق هو شرعية البقاء في الفكر الحداثوي وان المصادرة تورث الأزمات بأسلوب خطير. كل هذه الإجراءات والنقاط، يمكن الاشتغال عليها من قبل كل التيارات والاتجاهات والعمل الدؤوب على كسر الانماط السياسية السائدة التي فاقمت الأمور بالتفكير الماضوي الذي يحاول ان يكرس الماضي بأساليب شتى، ان العقل السياسي اليمني هو المقصود بالدرجة الأولى لأنه من يصنع التحولات السياسية الداخلية ويحل الأزمات بكل سلمية وهدوء هل سنشهد في المستقبل السياسي محدودية الماضوية؟ أم انه ستنهال علينا ضرباً بالسياط الفكرية؟. . سؤال موجه إلى كل النخب السياسية والثقافية والإعلامية ويحتاج إلى مشروع عملاق.