طرائف ونوادر اخترتها ليتروح بها الخاطر ويسمر بها السامر ويتحدث بها الجالس فيبتسم منها العابس ويتفكر فيها الذكي ويستفيد الغبي فإلى الطرائف والنوادر : من يقول إن هذا مجنون؟ لما قدم سليمان بن علي (1) البصرة والياً عليها قيل له: إن بالمربد رجلاً من بني سعد، مجنوناً سريع الجواب لا يتكلم إلا بالشعر، فأرسل إليه سليمان بن علي قهرمانه، فقال له: أجب الأمير، فامتنع فجره وزبره، وخرق ثوبه، وكان المجنون يستقي على ناقة له فاستاق القهرمان (2) الناقة وأتى بها سليمان بن علي، فلما وقف بين يديه قال له سليمان، حياك الله يا أخا بني سعد، فقال: حيّاك رب الناس من أمير ... يا فاضل الأصل عظيم الخيرِ إني أتاني الفاسِقُ الجلْوازُ ... والقلب قد طار به اهتزازُ فقال سليمان: إنما بعثنا إليك لنشتري ناقتك، فقال: ما قال شيئاً في شراء الناقه ... وقد أتى بالجهل والحماقة فقال: ما أتى؟ فقال: خرّق سربالي وشقّ بردتي ... وكان وجهي في الملا وزينتي فقال: أفتعزم على الناقة؟ فقال: أبيعها بعد ما أوكس ... والبيعُ في بعض الأوان أكيس قال: كم شراؤها عليك؟ فقال: شراءها عشرٌ ببطن مكهْ ... من الدنانير القيام السُّكهْ ولا أبيع الدهر أو أزادُ ... إنّي لريحٍ في الورى معتاد قال: فبكم تبيعها؟ فقال: خذها بعشرٍ وبخمسٍ وازنهْ ... فإنه ناقة صدق مازنه قال: فحطنا، فقال: تبارك الله العليُّ العالي ... تسألني الحطّ وأنت الوالي قال: فنأخذها منك ولا نعطيك شيئاً، فقال: فأين ربي ذو الجلال الأفضل ... إن أنتَ لم تخش الإله فافعل قال: فكم أزنُ لك فيها؟ فقال: والله ما ينعشني ما تعطي ... ولا يداني الفقر مني حطّي خذه بما أحببت يا ابن عباسِ ... يا ابن الكرام من قريش الرّاسِ فأمر له سليمان بألف درهم وعشرة أثواب، فقال: إني رمتني نحوك الفجاج ... أبو عيال معدم محتاج طاوي المعى ضيق المعيشِ ... فأنبتَ الله لديك ريشي شرّفتني منك بألف فاخرة ... شرّفك الله بها في الآخرة وكسوةٍ طاهرةٍ حسان ... كساك ربي حلل الجنانِ فقال سليمان: من يقول إن هذا مجنون؟ ما كلمت قط أعرابياً أعقل منه. عصى عجيبة !! كان الحكم بن عبدل (2) الشاعر الأسدي أعرج لا تفارقه العصا فترك الوقوف بأبواب الملوك، وكان يكتب على عصاه حاجته ويبعث بها مع رسوله فلا يحبس له رسول ولا تؤخر له حاجة، فقال في ذلك يحيى بن نوفل: عصا حكم في الدار أول داخل ... ونحن على الأبواب نقصى ونحجب وكانت عصا موسى لفرعون آية ... وهذي لعمر الله أدهى وأعجب تطاع فلا تعصى ويحذر سخطها ... ويرغب في المرضاة منها ويرهب فشاعت هذه الأبيات وضحك الناس منها، فكان ابن عبدل بعد ذلك يقول ليحيى: يا ابن الفاعلة !! ما أردت من عصاي حتى صيرتها ضحكة، واجتنب أن يكتب عليها كما كان يفعل وكاتب الناس بحوائجه في الرقاع. من أعاجيب الزمان وكان للحكم بن عبدل صديق أعمى يقال له أبو علية، وكان ابن عبدل قد أقعد، فخرجا ليلة من منزلهما إلى منزل بعض أخوانهما والحكم يحمل وأبو علية يقاد، فلقيهما صاحب العسس بالكوفة فأخذهما فحبسهما، فلما استقرا في الحبس نظر الحكم إلى عصا أبي علية موضوعة إلى جانب عصاه فضحك وأنشأ يقول: حبسي وحبس أبي علي من أعاجيب الزمان أعمى يقاد ومقعد ... لا الرجل ولا اليدان هذا بلا بصر هناك وبي يخب الحاملان يا من رأى ضب الفلاة ... قرين حوت في مكان طرفي وطرف أبي علي دهرنا متوافقان من يقتحم بجواده ... فجوادنا عكازتان طرفان لا علفاهما ... بشرى ولا يتصاولان هبني وإياه الحريق ... أكان يسطع بالدخان أعني على رعي النجوم وكان اسم أبي علية يحيى، فقال الحكم فيه أيضاً: أقول ليحيى ليلة السجن سادراً ... ونومي به نوم الأسير المقيد أعني على رعي النجوم ولحظها ... أعنك على تحبير شعر مقصد ففي حالتينا عبرة وتفكر ... وأعجب منها حبس أعمى ومقعد كلانا إذا العكاز فارق كفه ... يخر صريعاً بل على الوجه يسجد فعكازه يهدي إلى السبل اكمهاً ... وأخرى مقام الرجل قامت مع اليد فصاعقة تحرقه !! قال بعض الملوك لبعض وزرائه وأراد محنته: ما خير ما يرزقه العبد ؟ قال: عقل يعيش به . قال: فإن عدمه ؟ قال: فأدب يتحلى به قال: فإن عدمه ؟ قال: فمال يستره . قال: فإن عدمه ؟ قال : فصاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد. ميت يقضي بين الأحياء !! تقدمت امرأة إلى قاض، فقال لها : جامعك شهودك ؟!!! فسكتت فقال كاتبه: إن القاضي يقول لك جاء شهودك معك، قالت: نعم، هلا قلت مثل ما قال كاتبك كبر سنك وقل عقلك وعظمت لحيتك حتى غطت على لبك ما رأيت ميتاً يقضي بين الأحياء غيرك . الهامش (1) سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عم الخليفة ونائب البصرة تولى نيابتها عام 137ه. وكان من خيار بني العباس، وكان كريما جوادا ممدحا.وبقي واليا على البصرة حتى توفي عام 142ه وهو ابن تسع وخمسين سنة . (2) الحكم بن عبدل بن جبلة بن عمرو بن ثعلبة بن عقال بن بلال بن سعد بن حبال الأسدي؛ شاعر مجيد مقدم في طبقته هجاء خبيث اللسان من شعراء الدولة الأموية، وكان أعرج أحدب، ومنزله ومنشؤه الكوفة. ت حوالي 100ه [email protected]