روائع جمعتها من بطون الكتب سقت لك بعضها كما هي وشذبت وهذبت بعضها وعلقت على بعضها وهي روائع متنوعة ستخلب لب القارئ وتدهشه وتفيده فإلى الروائع : تمدح أهل بيتي ولا تمدحني ؟ قال العباس بن الوليد بن عبد الملك الأموي - وكان بخيلاً لا يحب أن يعطي أحداً شيئاً - ما بال الشعرأء تمدح أهل بيتي أجمع ولا تمدحني ؟. فبلغ ذلك ابن هرمة، وكان قد مدحه فلم يثبه، فقال يعرض به ويمدح عبد الواحد بن سليمان بن عبدالملك الأموي : معجب بمديح الشعر يمنعه ... من المديح ثواب المدح والشفق يا آبي المدح من قول يحبره ... ذو نيقة في حواشي شعره أنق إنك والمدح كالعذراء يعجبها ... مس الرجال ويثني قلبها الفرق لكن بمدين من مفضى سويمرةٍ ... من لايذم ولا يشنا له خلق أهل المدائح تأتيه فتمدحه ... والمادحون إذا قالوا له صدقوا - يعني عبد الواحد بن سليمان - : لا يستقر ولا تخفى علامته ... إذا القنا شال في أطرافها الحرق في يوم لامال عند المرء ينفعه ... إلا السنان وإلا الرمح والدرق يطعن بالرمح أحياناً ويضربهم ... بالسيف ثم يدانيهم فيعتنق يكاد بابك من جود ومن كرم ... من دون بوابه للناس يندلق إني لأطوي رجالاً أن أزورهم ... وفيهم عكر الأنعام والورق طي الثياب التي لو كشفت وجدت ... فيها المعاوز في التفتيش والخرق وأترك الثوب يوماً وهو ذو سعة ... وألبس الثوب وهو الضيق الخلق إكرام نفسي وأني لايوافقني ... ولو ظمئت فحمت المشرب الرنق فلما قال ابن هرمة هذه القصيدة أنشدها عبد الواحد بن سليمان وهو إذ ذاك أمير الحجاز فأمر له بثلثمائة دينار وخلعة موشية من ثيابه، وحمله على فرس وأعطاه ثلاثين لفحة ومائة شاة، وسأله عما يكفيه في كل سنة ويكفي عياله من البر والتمر، فأخبره به، فأمر له بذلك أجمع لسنةٍ، وقال له: هذا لك علي ما دمت ودمت في الدنيا، واقتطعه لنفسه وأنس به، وقال له: لست بمحوجك إلى غيري أبداً. ولكن سقطةٌ عيبت علينا قال ابن ربيح راوية ابن هرمة قال حدثني ابن هرمة قال: أول من رفعني في الشعر عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، فأخذ علي ألا أمدح أحداً غيره، وكان والياً على المدينة، وكان لا يدع بري وصلتي والقيام بمؤونتي. فلم ينشب أن عزل وولي غيره مكانه، وكان الوالي من بني الحارث بن كعب. فدعتني نفسي إلى مدحه طمعاً أن يهب لي كما كان عبد الواحد يهب لي، فمدحته فلم يصنع بي ما ظننت. ثم قدم عبد الواحد المدينة، فأخبر أني مدحت الذي عزل به، فأمر بي فحجبت عنه، ورمت الدخول عليه فمنعت، فلم أدع بالمدينة وجها ولا رجلاً له نباهةٌ وقدر من قريش إلا سألته أن يشفع لي في أن يعيدني إلى منزلتي عنده، فيأبى ذلك فلا يفعله. فلما أعوزتني الحيل أتيت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعليهم - فقلت: يابن رسول الله، إن هذا الرجل قد كان يكرمني وأخذ علي ألا أمدح غيره، فأعطيته بذلك عهداً، ثم دعاني الشره والكد إلى أن مدحت الوالي بعده. وقصصت عليه قصتي وسألته أن يشفع لي، فركب معي. فأخبرني الواقف على رأس عبد الواحد أن عبد الله بن حسن لما دخل إليه قام عبد الواحد فعانقه وأجلسه إلى جنبه، ئم قال: أحاجةٌ غدت بك أصلحك الله؟ قال نعم قال: كل حاجة لك مقضية إلا ابن هرمة فقال له: إن رأيت ألا تستثني في حاجتي فافعل قال: قد فعلت قال: فحاجتي ابن هرمة قال: قد رضيت عنه وأعدته إلى منزلته قال: فتأذن له أن ينشدك قال: تعفيني من هذه قال: أسألك أن تفعل قال ائتوا به فدخلت عليه وأنشدته قولي فيه: صرمت حبائلاً من حب سلمى ... لهندٍ ما عمدت لمستراح فإنك إن تقم لا تلق هنداً ... وإن ترحل فقلبك غير صاحي يظل نهاره يهفي بهند ... ويأرق ليله حتى الصباح أعبد الواحد المحمود إني ... أغص حذار سخطك بالقراح فشلت راحتاي وجال مهري ... فألقاني بمشتجر الرماح وأقعدني الزمان فبت صفراً ... من المال المعزب والمراح إذا فخمت غيرك في ثنائي ... ونصحي في المغيبة وامتداحي كأن قصائدي لك فاصطنعني ... كرائم قد عضلن عن النكاح فإن أك قد هفوت إلى أمير ... فعن غير التطوع والسماح ولكن سقطةٌ عيبت علينا ... وبعض القول يذهب في الرياح لعمرك إنني وبني عدي ... ومن يهوى رشادي أو صلاحي إذا لم ترض عني أو تصلني ... لفي حين أعالجه متاح وإنك إن حططت إليك رحلي ... بغربي الشراة لذو ارتياح هششت لحاجة ووعدت أخرى ... ولم تبخل بناجزة السراح وجدنا غالباً خلقت جناحاً ... وكان أبوك قادمة الجناح إذا جعل البخيل البخل ترساً ... وكان سلاحه دون السلاح فإن سلاحك المعروف حتى ... تفوز بعرض ذي شيمٍ صحاح وهذه القصيدة الحائية التي مدح بها عبد الواحد من فاخر الشعر ونادر الكلام ومن جيد شعر ابن هرمة خاصةً، أغص حذار سخطك بالقراح هل كان عبدالواحد بن سليمان يستحق هذا المديح من ابن هرمه ؟ سيجيبنا ابن هرمة نفسه !! فقد سأله عبد الله بن إبراهيم الجمحي : ( أتمدح عبد الواحد بن سليمان بشعر ما مدحت به غيره فتقول فيه هذا البيت: وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمة الجناح ثم تقول فيها: أعبد الواحد الميمون إني ... أغص حذار سخطك بالقراح فبأي شيء استوجب ذلك منك ؟ فقال: إني أخبرك بالقصة لتعذرني: أصابتني أزمة بالمدينة، فاستنهضتني بنت عمي للخروج، فقلت لها: ويحك! إنه ليس عندي ما يقل جناحي فقالت: أنا أنهضك بما أمكنني، وكانت عندي نابٌ لي فنهضت عليها نهجد النوام ونؤذي السمار، وليس من منزل أنزله إلا قال الناس: ابن هرمة! حتى دفعت إلى دمشق، فأويت إلى مسجد عبد الواحد في جوف الليل، فجلست فيه أنتظره إلى أن نظرت إلى بزوغ الفجر، فإذا الباب ينفلق عن رجل كأنه البدر، فدنا فأذن ثم صلى ركعتين، وتأملته فإذا هو عبد الواحد، فقمت فدنوت منه وسلمت عليه فقال لي: أبو إسحاق! أهلاً ومرحباً، فقلت لبيك، بأبي أنت وأمي! وحياك الله بالسلام وقربك من رضوانه فقال: أما آن لك أن تزورنا فقد طال العهد واشتد الشوق، فما وراءك ؟ قلت: لا تسلني بأبي أنت وأمي فإن الدهر قد أخنى علي فما وجدت مستغاثاً غيرك، فقال: لا ترع فقد وردت على ما تحب إن شاء الله. فوالله إني لأخاطبه فإذا بثلاثة فتية قد خرجوا كأنهم الأشطان ، فسلموا عليه، فاستدنى الأكبر منهم فهمس إليه بشيء دوني ودون أخويه فمضى إلى البيت ثم رجع، فجلس إليه فكلمه بشيء دوني ثم ولى، فلم يلبث أن خرج ومعه عبد ضابط يحمل عبئاً من الثياب حتى ضرب به بين يدي، ثم همس إليه ثانيةً فعاد، وإذا به قد رجع ومعه مثل ذلك، فضرب به بين يدي. فقال لي عبد الواحد: ادن يا أبا إسحاق، فإني أعلم أنك لم تصر إلينا حتى تفاقم صدعك، فخذ هذا وارجع إلى عيالك، فوالله ما سللنا لك هذا إلا من أشداق عيالنا، ودفع إلي ألف دينار، وقال لي: قم فارحل فأغث من وراءك فقمت إلى الباب، فلما نظرت إلى ناقتي ضقت فقال لي: تعال، ما أرى هذه مبلغتك، يا غلام، قدم له جملي فلاناً. فوالله لقد كنت بالجمل أشد سروراً مني بكل ما نلته فهل تلومني أن أغص حذار سخط هذا بالقراح! ووالله ما أنشدته ليلتئذ بيتاً واحداً .) استقل الموصلا لما ولي الخليفة المأمون خالد بن يزيد بن مزيد الموصل خرج معه الشاعرأبو الشمقمق - توفي في حدود الثمانين ومائة - فلما كان وقت دخوله البلد اندق اللواء، فتطير خالد لذلك، واغتم غما شديداً، فقال أبو الشمقمق فيه: ما كان مندق اللواء لريبة ... تخشى ولا سبب يكون مزيلاً لكن رأى صغر الولاية فانثني ... متقصداً لما استقل الموصلا وكتب أصحاب الأخبار بذلك إلى المأمون، فولى خالداً ديار ربيعة كلها، وكتب إليه: هذا لاستقلال لوائك ولاية الموصل. وأحسن إلى أبي الشمقمق، ووصله بعشرة آلاف درهم. حكمة شعرية ولستُ بمفْراحٍ إذا الدهرُ سًرّني ... ولا جازع من صَرْفه المُتقلِّب ولا أَتمنىَ، الشرِّ والشرُ تاركي ... ولكنّ مَتى أحْمَل على الشر أَرْكَبَ [email protected]