سنقف في هذه الحلقة أمام جزئية وردت في «الوثيقة الفكرية والثقافية» ضمن عنوان «الاصطفاء»؛ ذلك أن أصحاب «الوثيقة» بعد قولهم: «ونعتقد أن الله سبحانه اصطفى أهل بيت رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فجعلهم هداة للأمة وورثة للكتاب من بعد رسول الله إلى أن تقوم الساعة» زعموا أن الله «يهيئ في كل عصر من يكون – من أهل البيت – مناراً لعباده وقادراً على القيام بأمر الأمة والنهوض بها في كل مجالاتها». وأضافوا: «ومنهجيتنا في إثباته وتعيينه هي منهجية أهل البيت عليهم السلام». لستُ بصدد نقد فكرة «اصطفاء أهل البيت»؛ ففي طيات الحلقات السابقة ما يكفي، وسأحيلُ القارئ إليها. أما هنا فيعنيني مناقشة زعمهم أن الله يهيئ من (أهل البيت) من يقوم بأمر الأمة والنهوض بها في كل مجالاتها.. (وعليكم أن تضعوا خطاً تحت قولهم: «والنهوض بها في كل مجالاتها»)، فإن أصحاب الوثيقة لم يترددوا عن إيراد هذه الفرية الكبرى؛ على الرغم مِن أنهم أعجَز عن أن يُسَمُوا أحداً (من أهل البيت الذين يتحدثون عنهم) في هذا العصر، أو الذي قبله، استطاع أن ينهض ب (الأمة) في كل مجالاتها. اللهم إلا إذا كانوا يَقصُدُون ب «في كل مجالاتها» معنىً آخر غير الذي يتبادر إلى ذهن كل عاقل!! علينا إذاً أن نتوقف عند مقولة: «النهوض بالأمة في كل مجالاتها». أما قولهم: «القيام بأمر الأمة» فهم يعنون ب «الأمر» الرئاسة، إنما ما زالوا يستخدمون المفردة المتقادمة، التي كان يُشار بها إلى الخلافة والملك، ف «قد أطلق الصحابة على معنى الملك لفظاً عاماً هو "الأمر". وهكذا صارت عبارة: "من سيتولى هذا الأمر" تدل على ما تدل عليه عبارتنا المعاصرة: "من سيرأس الدولة"..»(1). أما لماذا لم يستخدم أصحاب الوثيقة مفردة «الرئاسة» بدل «الأمر» فلأن الإمام – وليس الرئيس – هي المفردة التي يُشار بها في عُرفهم إلى صاحب أعلى منصب في الدولة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى – وهي الأهم – فإنه لا يتبادر اليوم من مفردة «الأمر» (حين يقال: «القيام بأمر الأمة») دلالتُها على الرئاسة والحكم، إلا لدى الذين يَعرفون ما كان من ورودها في سياقها التاريخي الذي أشرنا إليه قبل قليل، وهذا ما يُمَكن القائلين اليوم ب «أن القيام بأمر الأمة حق خاص ب (أهل البيت)» ليس مِن عدم الاعتراف بشرعية الحاكم إذا لم يكن من (أهل البيت)، فالقول بحصرها فيهم يعني تلقائياً عدم الاعتراف بشرعية غيرهم كائناً من كان؛ وإنما يُمَكنهم في العلن من التظاهر بالديمقراطية والتسليم بحق الشعب في اختيار من يرتضيه حاكماً له، بينما هم في صميم عقيدتهم لا يرون في الحكم حقاً لأحد إذا لم يكن منهم. فإذا قيل لهم: إنكم بقولكم: «إن القيام بأمر الأمة حق خاص ب (أهل البيت)» تؤكدون أنكم لا تعترفون بحق الشعب في اختيار رئيس له؛ سيسعفهم عموم لفظ «الأمر» في التستر بأنهم لا يعنون به الرئاسة. بينما سياق وروده في الوثيقة – فضلاً عما سبقه عند حديثهم عن الإمامة وحصرها في ذرية الحسن والحسين رضي الله عنهما – لا يعني أنهم يحتكرون الرئاسة (بأيِ مسمى كانت) فيهم فحسب؛ وإنما يعني أن «القيام بأمر الأمة» أكبر من مجرد رئاستهم لها، وذلك أن ما يعنيه لفظ الرئاسة في القاموس السياسي أدنى بكثير جداً جداً مما أعطته «الوثيقة» لقائم (أهل البيت)؛ الذي هو معنيٌ ليس بسياسة الدولة في ضوء دستورٍ يرتضيه سكانُها، وإنما بزعامة (الأمة) في ضوء حاكمية ثيوقراطية هو فيها كلُ شيء، وإليه يرجع كلُ شيء. فرية النهوض الكبرى لنعُد إلى مقولة: «النهوض بالأمة في كل مجالاتها»؛ فالنهوض ب (الأمة) يستلزم بلا شك الارتقاء بها ورفعتها إلى مستوى لا تكون فيه منافِسةً للأمم الأخرى، وإنما أرفع شأناً منها. وقطعاً فإن النهوض ب (الأمة) لا يتحقق إلا بإيصالها إلى مستوى الاكتفاء الذاتي، ليس في الخطب والشعارات، وإنما في كل متطلبات الحياة.. فمَن (مِن أهل البيت) هذا الذي يُمكِن لأصحاب «الوثيقة» أن يقولوا لنا إنه نهض بالأمة؛ إن في هذا العصر أو من قبل؟!.. هذا فقط ما يستلزمه قولهم: «النهوض بالأمة»؛ إذ أنه كافٍ حتى لو لم يُتبعوا ذلك بقولهم: «في كل مجالاتها»؛ أما وقد فعلوا فإنها فرية ما بعدها فرية؛ ف «في كل مجالاتها» عائدٌ على «الأمة»، أي أنه ليس مجال الخُطب والشعارات فحسب، كلا ولا ما تضمَنته «الوثيقة» على أنه فكرٌ وثقافةٌ فقط.. وإنما «النهوض بالأمة في كل مجالاتها» يعني من دون ريب النهوض بها فكرياً وثقافياً وتربوياً وتعليمياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وصناعياً وتنموياً وخدمياً وأمنياً وعسكرياً.. وقل كل ما يخطر ببالك ممَا تحتاجه (الأمة) لتكون أمةً يُشار لها بالبنان؛ أمةً إذا ما قُورنت بغيرها في أي مجال كان لها السبق.. فعن أي «نهوض بالأمة في كل مجالاتها» تتحدثون يا هؤلاء؟! سَمُوا لنا واحداً من (أهل البيت) هؤلاء الذين قلتم إن الله يهيئ منهم في كل عصر من يقوم بأمر الأمة والنهوض بها في كل مجالاتها؟! بل دعوكم من «النهوض بالأمة في كل مجالاتها»؛ وَسَمُوا لنا واحداً نهض بها في أقل القليل من تلك المجالات؟! أما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن «الأمة» التي يعنيها أصحاب «الوثيقة» لا تقف عند حدود المجتمع المحلي (محافظة صعدة وما جاورها) ولا الوطني (اليمن) وإنما تتعداه إلى العالم الإسلامي على أقل تقدير؛ فإن تلك الدعوى ستكون أكثر غرابة؛ إذ المعلوم بالضرورة – من حقائق التاريخ ودلائل الواقع – ينفي وجود هذا الذي (مِن أهل البيت) نهض باليمن (أو جزء منه) في كل مجالاته، فما بالك بالأمة كلها؟! هذا الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي الذي يُورد صاحب الحدائق الوردية(2) أن عمه محمد بن القاسم قال له وهو يُوَدِعه عند خروجه لليمن: «أتراني أعيش إلى وقت تُوجه إلي مما غنمته ولو بمقدار عشرة دراهم أتبارك بها»(3) فإنه في «المرض الذي مات منه (20 ذي الحجة 298ه) كان القتال يدور على مشارف صعدة وفي أطراف المدينة نفسها، وقد [خلَف] وراءه دويلة متدهورة إلى درجة الانهيار..»(4)؛ وهو الذي جاء صعدة مسكوناً بهاجس الانطلاق منها لإعلان دولة (أهل البيت) وإقامة مملكتهم على كل البلدان الإسلامية؛ ففي دعوة وجهها إلى أحمد بن يحيى بن زيد قال الهادي: «ألستم ترون رحمكم الله إلى أبواب النصر قد فتحت، وعلامات ما تأملون من دولة آل رسول الله قد أقبلت، ودلالات ملكهم قد شرعت..»(5).. ولهذا فإن الهادي بعد أن خرج «من صنعاء سنة 294ه منكسراً يغص بالشعور بالخيبة، وهو يشاهد مشروعه الكبير يتحطم أمام ناظريه، وتتهاوى آخر أحلامه "..." عامَلَ الانتفاضات التي قامت ضده بشدة وقسوة أربت كثيراً عمَا عُرف به من قبل من شدة وقسوة. فلأول مرة في سيرة الهادي نجده يضيف إلى ما عُرف عنه من هدم للبيوت، وقطع للزروع، من نخيل وأعناب وغيرها، تخريبَ الآبار ومصادر المياه، وتدمير قرى بأكملها قرية قرية»(6). إذا كان هذا الهادي؟! وطالما بدأنا من عند الإمام الهادي - رحمه الله - فإن في رسالته تلك إلى أحمد بن يحيى بن زيد ما يَح�'سُن إيراده ونحن نناقش مقولة أصحاب الوثيقة: «إن الله يهيئ من (أهل البيت) من يقوم بأمر الأمة والنهوض بها في كل مجالاتها!!». فالهادي بعد أن يتحدث عن دواعي وجود الإمام، فإنه يُشدِد على أن الإمام «لا يكون إلا من آل محمد صلى الله عليه وعليهم، الذين استنقذ الله بهم الأمة من شقاء الحفرة، وجمع بهم كلمتها، وألف بين قلوبها من بعد الافتراق والاختلاف، والتشاجر وقلة الائتلاف، فأصبحوا بنعمة الله على الحق مؤتلفين، ولما كانوا عليه من الكفر مجانبين، يعبدون الرحمن من بعد عبادة الأوثان، ويقرون بمحمد عليه السلام، داخلين في النور والإسلام، ناجين من عبادة الشيطان، تالين لآيات القرآن، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويقرون بالربوبية للواحد الجبار..»(7). ما يقوله الهادي هنا فيه تلبيسٌ واسع؛ فهو يتحدث عن أن الله ب (آل محمد) استنقذ الأمة من شقاء الحفرة، وجمع كلمتها، وألف بين قلوبها.. الخ، فإن كان يقصد ب (الأمة) الناسَ في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام فواضحٌ جداً أن الله استنقذ هؤلاء الناس بمحمد عليه السلام وليس ب (آل محمد) أيٍ كانوا. فالذين ألف بين قلوبهم، وجمع كلمتهم، وانتشلهم من عبادة الأوثان، فأقروا بنبوته صلوات الله عليه هم صحابته رضي الله عنهم. ثم لاحقاً – من بعد وفاته (ص) وإلى اليوم – فإنه عليه الصلاة والسلام هو الذي يلتقي المسلمون على رسالته، ويجتمعون على منهجه. فلا يستقيم بأي حال من الأحوال أن يكون (آل محمد) الذين يقصدهم الهادي هم الذين جمع الله بهم كلمة أمة محمد في حياته عليه الصلاة والسلام. فلم يبق إذاً إلا أن نَحمل كلام الهادي على أنه يقصد ب (الأمة) من جاءوا في العصور التي تلت وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وهنا فإن المعلوم بالضرورة، في ضوء حقائق التاريخ المتواترة، أن الدين الذي جاء به محمد عن ربه، هو مدار تلاقي المسلمين وائتلافهم واجتماع كلمتهم، وليس آل محمد (ص). سيجد من يعيد قراءة نص الهادي سالف الذكر أنه يعني - قبل كل شيء - الزمنَ الذي بعث الله فيه محمداً عليه الصلاة والسلام وهو ما زال حياً يُبلغ عن ربه عز وجل. لكنه، أي الهادي، بَدَلَ أن يقول إن الله استنقذ الأمة بمحمد (ص) إذا به يُقِيم (آل محمد) مقام النبي محمد، فيقول إنهم الذين استنقذ الله بهم الأمة!! - وبأثر رجعي لأن الآل الذين يعنيهم الهادي لم يكونوا موجودين عند ابتداء الدعوة المحمدية!! - وكأن النبي عليه الصلاة والسلام ليس إلا واحداً في أسرة (آل محمد)، وأن الإشارة إلى الأسرة مجتمعة أولى من الإشارة إلى النبي (ص) منفرداً!! .. فماذا عن الباقين؟! ومهما يكن فإن دعوى أصحاب الوثيقة ب «أن الله يهيئ من (أهل البيت) في كل عصر من يقوم بأمر الأمة والنهوض بها في كل مجالاتها» دعوى مردودة عليهم؛ فإذا كان مِن أمرِ الإمام الهادي ما كان، فإن من جاءوا بعده ليسوا بأحسن حالاً، فهل من النهوض بالأمة في كل مجالاتها «تَقَاتُل حفيديه – أي الهادي – من ابنه احمد الناصر (يحيى بن أحمد الذي تلقب بالمنصور، والقاسم بن أحمد الذي تلقب بالمختار) مما أدى إلى سقوط الدولة التي أسسها الهادي، وجر على صعدة الخراب»(8)؟ وعلى سبيل المثال: فهل من «النهوض بالأمة في كل مجالاتها» أن يزعم أكثر من شخص أنه الإمام، فلمَا يَغلب أحدهم يرتكب في حق الآخر أبشع الجرائم كما كان من سجن الإمام المنصور علي بن صلاح للإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، وما كان من قتال بين الإمام مطهر بن محمد بن سليمان الحمزي، الذي تلقب بالمتوكل على الله، والإمام صلاح الدين بن علي ابن أبي القاسم. وهذا الأخير تقاتل أيضاً مع الناصر بن محمد بن الناصر، والناصر هذا أمه هي مريم بنت علي بن صلاح، وقد مات صلاح الدين بن علي في سجن الناصر بن محمد. كما أن هذا الأخير تقاتل مع المتوكل على الله مطهر بن محمد بن سليمان، وسجنه، وطلب منه أن يتنازل له عن الإمامة، ثم لما دارت الأيام ووقع الناصر بن محمد بن الناصر أسيراً في أيدي قبائل في ذمار بعد خسارته في حربه مع المَلِكين علي وعامر ابني طاهر، كان أن سلمه آسروه إلى الإمام مطهر الحمزي الذي سجنه وقام على تعذيبه حتى قضى الناصر نحبه في السجن مقتولاً سنة 869ه، إذ قبل أن ُينزله أهله القبرَ فتحوا كفنه فوجدوا على جسده العديد من الطعنات، وكان محمد بن الإمام مطهر قد أشرف على تغسيله وتكفينه، فجعل في مواضع الطعنات الشمع والكافور بغية إخفاء ما فيه، ولكن الأمر انكشف(9)؟! هذا قليلٌ من كثيرٍ وَقَعَ مِن أئمة (أهل البيت) في حق بعضهم، فكيف بما كان منهم في حق الآخرين؟! أهذا هو نوع «النهوض بالأمة في كل مجالاتها» الذي عناه أصحاب الوثيقة؟! إن كان عندهم جواب غير هذا فليسعفونا به؛ لأن «النهوض بالأمة في كل مجالاتها» شعارٌ كبيرٌ يستحي أن يُزايد به حتى الذين لهم في خدمة المجتمع، وعلى أكثر من صعيد، باعٌ طويل، فكيف بمن ليس لهم - إلا ادِعاء التميُز - أيَ ميزة؟! ثم لقد قال هؤلاء إن منهجيتهم «في إثباته وتعيينه – أي إثبات وتعيين هذا الذي يقوم من (أهل البيت) بأمر الأمة وينهض بها في كل مجالاتها - هي منهجية أهل البيت عليهم السلام». (وهذا ما سنقف أمامه بالتحليل والنقد في الحلقة القادمة). بيد أنه لا ينبغي أن يفوتني هنا التأكيد على كَم أن (الأمة) بحاجة إلى من ينهض بها في كل مجالاتها، وطالما وأصحاب «الوثيقة» يَعرِفون في هذا العصر رجلاً منهم، يملك القدرة على النهوض بالأمة في كل مجالاتها، فلماذا لا يُسَمُوه ل (الأمة)؟! وإلى متى سيخفونه عنها؟! يتبع.. الهوامش والمراجع: (1) د. محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، فبراير 1996، ص 16. (2) الحدائق الوردية في سير أئمة الزيدية لحُميد بن أحمد المحلي، وُلد سنة 582ه، كان من أصحاب الإمام عبدالله بن حمزة، وتوفي سنة 652ه وهو يقاتل إلى جانب الإمام أحمد بن الحسين. (3) نقلاً عن: علي محمد زيد، معتزاة اليمن: دولة الهادي وفكره، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط 1، 1981، ص 63. (4) نفسه، ص 95. (5) مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي (المجموعة الفاخرة) بتحقيق: علي أحمد الرازحي، دار الحكمة اليمانية، صنعاء، ط1، 2000، ص 539. (6) علي محمد زيد، مرجع سابق، ص 92. وأحالها إلى (سيرة الهادي) ل علي بن محمد بن عبيدالله العلوي. (7) المجموعة الفاخرة، مرجع سابق، ص 524 – 525. (8) انظر: علي محمد زيد، مرجع سابق، ص 191، هامش رقم 5. (9) للمزيد انظر: عماد الدين بن إدريس، روضة الأخبار ونزهة الأسمار في حوادث اليمن الكبار والحصون والأمصار، تحقيق: محمد علي الأكوع، الهيئة العامة للكتاب، صنعاء، 1995. * نقلا عن صحيفة الناس الأسبوعية