يتلفت شباب الثورة ويقلّب كل منهم نظره في وجوه المحيطين به الذين يرتبط بهم بمعرفة متينة امتدت لأكثر من عام ثوري بامتياز، لكن كلا منهم يكاد -اليوم- ينكر الآخر، ويسألُ كل صاحبه: هل هذه هي الثورة التي خرجنا من أجلها وأقسمنا على تحقيق أهدافها وتعاهدنا على الوفاء لها..!؟ أو كأن كلا منهم يسأل صاحبه: هل هذا أنت الذي أعرفه أم أنت شخص آخر تلبس وجه صديقي ورفيق درب الثورة!؟ وترتسم على وجوه الجميع حيرة اللحظات الأولى التي ترتسم على وجه من تعرض للتو لحيلة ماكرة.. لا يريدون أن يصدقوا أنهم وقعوا ضحية تلك الحيلة، فيلجؤون لعدم التصديق ويسلّون أنفسهم بالحيرة -بعض الوقت- بحثاً عن مبرر يقنع دواخلهم بخلاف الواقع، لكنهم يعجزون عن إيجاد مبرر للهروب من الواقع الواضح.. وإذن: إنها الحقيقة المريرة.. بالفعل، لقد تعرضنا لحيرة ماكرة!! نعم، حدث هذا، لكننا ما زلنا هنا، وما زال في الوقت متسع طالما أنه ما زال في قلب الثورة نبض. لا يمر يوم إلا ويكون فيه أكثر من فعالية ثورية، ما بين مسيرة أو وقفة احتجاجية أو غير ذلك، وتتردد الشعارات المدوية، لكن دويها أشبه بصدى يتقمص شخصية الصوت لكنه -في الحقيقة- ليس صوتا. ويتداعى الحوثيون وحلفاؤهم ممن ائتلفوا تحت لافتة «جبهة إنقاذ الثورة»، لكن مسيراتهم ليست أفضل حالا من السابقة، إذ لا ينظمّ إلى تلك المسيرات غير الداعين لها، وتتردد فيها الشعارات المنفرة بما تتضمن من مضامين تتحاشى بقايا النظام وتستهدف المكونات الثورية الأخرى، تاركة لدى الناس انطباعا بأنها لا تريد أكثر من الكيد السياسي بالأطراف الأخرى. وامتداداً إعلامياً للمرحلة الثورية تقوم قناة «سهيل» وقناة «يمن شباب» بتغطية موجزة لتلك الفعاليات الأولى التي تدعو إليها اللجنة التنظيمية، فيما تحظى المسيرات الأخرى بتغطية من قنوات الحوثيين وبعض الصحف التي لها أهداف خاصة من التغطية تشبه الأهداف الخاصة للمسيرة ذاتها. ولا شيء يبدو حقيقيا على أرض الواقع. والناس الذين تمر بهم هذه المسيرات يقفون على جوانب الطرق والشوارع ينظرون إليها ويوصلونها بأعينهم من طرف الشارع إلى الطرف الآخر، ولا فرق عندهم بين هذه المسيرات وبين السيارات التي يقضون بقية وقتهم يوصلونها بأعينهم من طرف الشارع إلى الطرف الآخر -بتعبير أحد الأدباء وهو يصف أشخاصا جالسين على الرصيف يلصقون أعينهم بكل سيارة قادمة ويحركون رؤوسهم مع حركتها حتى تختفي عن الأنظار، وكلما أوصلوا سيارة عادوا لإيصال أخرى!! وليس الإعلام وحده هو الذي لم يعد يتعاطى بجدية مع هذه المسيرات والفعاليات، بل جميع المعنيين بالعملية السياسية، والغريب أن هذه الأطراف التي تقيم وزنا لهذه المسيرات يقف في مقدمتها أولئك الذين دعوا للخروج فيها. وإذا كانت الأطراف المشاركة في تنظيم هذه المسيرة أو تلك لا تنظر إلى مسيرتها بجدية، فمن باب أولى أن لا ينظر إليها الرئيس هادي، ومن بعده الأطراف الخارجية. وكأن الجميع يعرف أنه لا شيء حقيقي على الأرض!! هل يلتفت الرئيس ورعاة المبادرة قبل فوات الأوان؟ نحو خمسة أشهر منذ التغيير السياسي في قمة هرم السلطة وشباب الثورة يرتقبون ثمرة هذا التغيير، لكن الطرف المعول عليه والأطراف الخارجية الراعية لعملية الانتقال السياسي استعذبوا صمت الثورة ونسوا أن هناك ثورة، ثم تمادوا حتى أرادوا أن ينسوا الشارع اليمني نفسه ويمحوا من ذهنه شيء اسمه ثورة. يوم بعد آخر، والاحتقان في الشارع الثوري يزداد. ومن بين الجلبة الثورية الروتينية غير الهادفة إلى شيء ومن خلف هذا اللاشيء اليومي الصاخب، يبدو هناك أمل حقيقي يقترب بهدوء ويوشك أن يكسر جدار الصمت، متخذا من مواقع التواصل الاجتماعي منطلقا لموجة ثورية قادمة. لم يلعب الفيس بوك دورا في بداية الثورة اليمنية كالدور الذي لعبه في الثورة التونسية، فالثورة المصرية، إلا أنه لعب دورا كبيرا أثناء الثورة، وها هو يمثل ساحة انطلاق لموجة ثورية قادمة من حيث لا يتوقع النظام الجديد والأطراف الراعية للمبادرة الخليجية ومعهم الساسة المعتقون المنفصلون عن جيل الشباب ووسائله وأدواته. وعادة هؤلاء أن لا يكترثوا لما يعتمل في هذا الوسائل الحديثة، على نحو ما حدث في مصر. وفي فيلم وثائقي عن الثورة المصرية قالت فقرة كانت تتحدث عن بدايات الثورة المصرية: وحين عبرت السفارة الأمريكية بالقاهرة لمبارك عن قلقها مما يعتمل على صفحات الفيسبوك، كان الوقت قد فات!! يطرح هاشم الأبارة سؤالا موجزا: من منكم مستعد لثورة جديدة؟ فتأتي إجابات التأييد، ويلفت الانتباه بعض التعليقات كهذا التعليق الذي يؤيد الدعوة إلى ثورة جديدة، ويضيف: «كل واحد يدفع من جيبه». لقد اعتاد شباب الثورة على اللافتات والكاميرات ومكبرات صوت وغيرها من الخدمات والمتطلبات، والآن يفكرون: كيف لهذه الموجة الثورية أن تنجح من غير ذلك كله؟ وربما يجول هذا الأمر في خواطر بعضهم ويشكل عائقا دونهم ودون البداية كما يشير التعليق السابق. وبعض المعلقين على مثل هذه الأطروحات الداعية لموجة جديدة من الثورة يندبون حظ ثورتهم الأولى. وذلك -كما يبدو- نوع من جلد الذات عقابا على وهن الثورة خلال الفترة الماضية، وتقريعا لها وتحميسا حتى تستعد لما هو آت. ساعة الصفر.. مسألة وقت ويكتب «حيدر الزيادي» على صفحته أنه «ليس المهم أن تطيح الثورة بنظام ليحل محله نظام آخر ربما يكون أكثر ديكتاتورية وتسلطاً، ولكن المهم أنها أطاحت بالأصنام من عقولنا وتفكيرنا وحطمت قيود الرهبة والخوف من نفوسنا وأذكت فينا معاني الحرية والكرامة وحب الوطن. أما قضية سقوط الأصنام البشرية المصطنعة بعد ذلك فهي مسألة وقت لا أقل ولا أكثر». كم يحتاج الأمر من الوقت إذن؟ لا أحد يعرف على وجه التحديد، لكن «هاني مبارك» يعتقد أن الانفجار قريب جدا، فيقول: «قربت ساعة الصفر»، متمنيا في أسلوب استفهامي: «هل تكون مع هلال رمضان»؟ ويجيبه آخر بكلمة واحدة: «حانت»!! ويوجه طاهر نعمان المقرمي خطابه إلى القائمين على عملية التحول السياسي: «ثورة الشعب باقيةٌ ما بقى نبض شعب.. فاحذروا الجمر تحت الرماد.. لا يغرنكم صمته»!! الظاهري على الانترنت ويتوج تلك المشارك والتعليقات السابقة الدكتور محمد الظاهري بتقديمه استقالته من المجلس الوطني لقوى الثورة، وتأتي التعليقات الكثيفة جميعها مؤيدة له. أطروحات الفيس.. تفسير واحد تلك نماذج من شيء لا يعد ولا يحصى من مؤشرات احتقان في ساحات الحرية والتغيير. وتلفت هذه الأطروحات نظر «حمدي الفقيه» الذي يقف أمامها محاولا أن يجد لها تفسيرا، وكأنه قد وقع على التفسير الصحيح الذي عبر عنه بقوله: «حالة اليأس والقنوط والنكد لدى المفسبكين الثوار هذه الأيام مؤشر لغد أفضل». وكل ذلك يقول إن الغليان لم يصل -بعد- إلى منتهاه، وأن هذا النوع من الحديث مع الذات أو مع الآخرين يعبر عن مرحلة في هذا الغليان قد تكون الأخيرة. وعندما تصل درجة الغليان إلى النهاية، وذلك أمر أصبح قريبا -على ما يبدو- وعلى مرمى أيام أو أسابيع، فإن الموجة الثانية ستندلع مجنونة بلا عقل، عمياء بلا حسابات، فقيرة بلا إمكانيات، وعمى الثورة هو قمة إبصارها، وجنون الثورة هو عين العقل، وفقرها هو كل الغنى. وساعتها ستنتفض السفارات وسينتفض النظام، ولكن: سيكون الوقت قد فات!! من يرسم البداية.. يرسم النهاية هناك من يتفق ومضامين هذه الأسطر، ليس لأنها تتحدث عن شيء غير واقعي، بل لأنهم لا يريدون أن يكون هذا واقعيا، وإذا كان هؤلاء لا يعترفون بالثورة حتى اليوم ولا يريدون أن يطلق عليها ثورة، فكيف بموجة ثورية لا تزال أملاً يلوح في الأفق!؟ وهناك من يقف في الجهة المقابلة ويشعر بالرضا، ليس لأنها تتحدث عن شيء ملموس، بل لأن هذا ما يريدونه أن يحدث. وهناك من هم في قلب الثورة ومن ناشطيها تتضارب بدواخلهم المشاعر، فهم يتمنون موجة ثانية تتوج نجاحات الأولى، ويخافون -في ذات الوقت- أن تطمس هذه الموجة وجوههم وترسم مكانها وجوه آخرين ينازعونهم المكانة والشاشات الفضية وذكر التاريخ. والواقع القادم هو الذي سيحسم الأمر، وسيحقق إرادة واحدة من هذه الإرادات، هي إرادة قوة الثورة التي خرجت مطلع العام الفائت للإطاحة بالنظام العائلي وإقامة دولة مدنية ديمقراطية.