كم كنا نتمنى أن يكون الناخب العربي على غرار مايتمتع به الناخب الأوروبي من وعي ورزانة وحسم في اتخاذ القرار عند التصويت ، وكيف ولمن ينبغي أن يدلي بصوته .. الا أن ثمة مفارقة كبيرة بين الناخب العربي والناخب الأوروبي الذي يذهب إلى صندوق الاقتراع وهو بمنأى عن أية قيود اجتماعية واقتصادية يمكن أن تحول بينه وبين التصويت الحر والنزيه .. ونظرة سريعة إلى الانتخابات الأخيرة التي جرت في انكلترا للفوز بمقاعد المجالس المحلية لرأينا مدى الوعي الذي تتمتع به جماهير الناخبين وخاصة في مثل هذه الاستحقاقات المتصلة بمصير البلاد ومستقبله ، فالبريطانيون منذ سنوات وهم يخرجون في مظاهرات حاشدة معترضين ومستنكرين سياسة السيد توني بلير ولاسيما منها سياسته الخارجية تجاه العراق وتحالفه الأعمى مع سياسة الولاياتالمتحدة الخاصة بالعراق ومنطقة الشرق الأوسط ، فلما رأى هذا الناخب أن خطواته تلك التي عبر بها عن رفضه واستنكاره لم تجد نفعاً انتظر إلى الوقت المناسب الذي يعرف فيه كيف يقاضي هذا المسؤول الذي لم يصغ إلى صوت احتجاجه ورفضه للسياسات الخاطئة بحق الشعوب والأوطان الأخرى.لقد أسفرت الأيام الأولى للانتخابات عن خسران حزب العمال بزعامة توني بلير عن 211 مقعداً ، فيما فاز المحافظون برئاسة ديفيد كاميرون ب 236 مقعداً بهذه المجالس وكانت اخر النتائج قد أظهرت نكسة أخرى لحزب العمال في الأحياء اللندنية القديمة خاصة تلك الأحياء التي كان يسيطر عليها منذ سبعينات القرن المنصرم وكانت تعتبر من معاقله الكبيرة ، وبالرغم من كل هذا الفوز الكاسح لحزب المحافظين وفازوا بأكثر من 200 مقعد الا أن فوزهم لايعتبر كاملاً في نظر المراقبين فإنهم قد اخفقوا بإحراز أي مقعد بالمدن العمالية الكبيرة في شمال البلاد مثل مانشستر ونيوكاسل وليفربول وهي من المعاقل التقليدية لحزب العمال وغيره من الديمقراطيين الليبراليين .. هذا وتجدر الاشارة هنا إلى أن حزب النائب المفصول من حزب العمال «جورج غالوي» سيفوز في أحياء المهاجرين وعلى اثر هذا الخسران المبين لتوني بلير وحزبه فقد سارع الرجل لإنقاذ مايمكن انقاذه من سمعة حزبه وسياسته الخاطئة فاجرى تعديلاً وزارياً كبيراً هو الأول من نوعه شمل أهم وأخطر الوزارات في حكومته وهي الداخلية والخارجية والدفاع ، وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على أن أمثال هؤلاء الحكام لديهم قدر من احترام أصوات الناخبين وأن هناك مراعاة لصوت هذا الناخب ، وبالرغم من أن هذه المراعاة قد تأتي متأخرة إلا أن مثل هذا السلوك يعبر عن مدى الالتزام والاحترام لقواعد اللعبة الديمقراطية وصندوق الاقتراع هذا الذي تجمع عليه كل القوى بالمجتمع واحترام نتائجه أياً كانت.ومعيار هذا الاحترام الجماعي للصندوق بعيد عن كل زيف وزور واستقوى تجاهه بالمال أو الجاه أو أي مركز اجتماعي أو رسمي وهذا الاجماع لاحترام هذا الصندوق ونتائجه هو الذي رسخ وأثرى تجاربهم الديمقراطية على هذا النحو المشرف ، وهو نفس التوجه الذي حدث في فرنسا قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بالولاياتالمتحدةالأمريكية فقد كان رئيس مجلس الوزراء قد أصدر عدة قرارات تحد من حقوق المهاجرين إلى فرنسا آنذاك فخرجت جماهير الشعب الفرنسي إلى الشوارع معترضة وشاجبة تلك القرارات ولكن دون أي استجابة من قبل حكومة «جوسبان» فانتظرت تلك الجموع إلى أن جاء موعد الانتخابات لتسقط تلك الحكومة سقوطاً أذهل مراقبي العالم ، ويبدو لي إن «توني بلير» يحاول أن يستدرك أمر تلافيه لاخطائه الكبيرة ولكن بعد فوات الأوان ، ولربما أنه قد ظن وبعض الظن اثم من أن تلك الجماهير من الشعب البريطاني التي كانت تخرج تستنكر سياسته الخارجية كان يتصور خطأ من أن هناك أيادي خارجية هي التي تحرك توجهاتها بواسطة أمثال جورج غالوي وخلافه ناسياً أو متناسياً مستوى الوعي الراقي الذي يتمتع به الشعب البريطاني تجاه قضاياه الداخلية وكذا تجاه قضايا البلدان والشعوب الأجنبية.وبعد فإن الناخب العربي إلى جانب القيود المشارة إليها آنفاً محكوم بكم هائل من الموروثات الخاطئة تجاه الديمقراطية بل إن بعض الحركات الإسلامية كانت إلى وقت قريب تجاهد بالقول في أن هذه الديمقراطية ماهي الا كفر ومروق عن الدين ، ومع مرور الأيام والتطورات الاقليمية والدولية دفعت بها إلى التسليم والاعتراف بها ولا أحد يدري أو يعلم ما اذا كان هذا الموقف عملاً تكتيكياً أم قناعة استراتيجية في نشاطها وعملها السياسي.أعود إلى موضوع الكيفية التي يمارس بها الناخب الأوروبي حقوقه الديمقراطية فالديمقراطية لدى الناخب أو المواطن الأوروبي ليست عملاً موسمياً يؤدى أثناء الانتخابات التشريعية أو المجالس المحلية وانما هي عمل يومي وسلوك على كافة المستويات الرسمية والشعبية بدءاً من الطريق العام وعند صعود المرء على الحافلة التي ستقله إلى مقر عمله أو جامعته أو أي وجهة كانت ، ومن زار أو يزور بلدان أوروبا سيلاحظ أن كل واحد يأتي إلى محطة أو موقف الحافلات يقف ثم يأتي الذي يليه ليقف خلفه مباشرة وهكذا حتى ترى أن الطابور ، اخذ يستقيم وأن لايجوز بأي حال من الأحوال لأي كائن من كان أن يتجاوزه ذات مرة كنت قد أتيت لاحدى البقالات لشراء بعض الأشياء فإذا بمواطن انجليزي يأتي ليقف موازياً لي لم يتجاوزني وانما رأت البائعة أنه لربما قد أخل بقوام الطابور وإذا بها تناديه بلطف وحرج سيدي احترم الطابور واذا به يعتذر ليعود إلى الخلف.هذا على المستوى الشعبي ونفس الأمر يسري على الطلاب بعد تخرجهم واعطائهم فرصاً للعمل حسب ووفق التخصصات وكذا الأمر فيما يتصل بالعاطلين عن العمل وحق الأولوية للمسجلين الأوائل .. وبعبارة أخرى فإن الاعتراف بالآخر وبحقوقه كاملة كمواطن ليست في اطار مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية وحسب وانما تبدأ من يوم ولادة المرء ومايمنحه المجلس البلدي من حقوق لهذا المولود وفقاً لظروفه وظروف أبويه الاجتماعية. عزيزي القارئ ومادمنا بصدد أمور السياسة وعلم السياسة فإني أستسمحك عذراً للاطالة لاقتباس ماتيسر لي من سطور من كتاب علم السياسة لمؤلفه د/حسن صعب وقد توسعنا بعض الشيء في تطور علم السياسة عند المسلمين في العصر الوسيط لأن فكرنا السياسي المعاصر يستقى من منهلين رئيسيين الفكر السياسي الإسلامي والفكر المسيحي السياسي الوسيط، الذي يصل في نفس الوقت بينهما وبين الفكر السياسي الحديث ، نعني بذلك الخط الفلسفي السياسي اليوناني فقد أدى تعرف الفلاسفة المسلمين إلى روائع أفلاطون وأرسطو إلى نشوء الفلسفة المدنية الإسلامية ونستطيع أن نقول أن القديس أوغسطين تأثر بالأفلطونية وان القديس توما ودانتي تأثرا في فلسفتهما السياسية بالأرسطوطالية وتأثر الاثنان بالفلسفة الإسلامية فالافلاطونية والارسطوطالية هما تراث مشترك بين الفكر السياسي الوسيط الإسلامي والمسيحي وبين كل منهما والفكر السياسي الحديث .. ويشيد القديس «توما» بفلسفة ارسطو بنفس الحماس الذي رأيناه عند ابن رشد فيقول في تعليقه على كتاب «السياسات» لارسطو: «بما أن أهم علم هو ذلك الذي يتناول أنبل الأشياء واكملها فلابد أن تكون السياسة أهم العلوم العملية وان تكون حجر الزاوية في جميع هذه العلوم لأنه يتناول الخير الأسمى والأنبل في الشئون الإنسانية ولذلك يقول الفيلسوف «أرسطو» في الباب العاشر من كتاب «الأخلاق» «إن الفلسفة التي تتناول الشئون الإنسانية تجد كمالها في السياسة» ويتطرق بعد ذلك إلى اقرار المنهج الذي وضعه ارسطو لعلم السياسة فيقول «إن العلوم النظرية تدرس كلاً من الكليات وتتم معرفتها له بملاحظة أجزاء هذا الكل ومبادئه فتلقي ضوءاً على الأفعال والتغييرات الحادثة في هذا الكل ويدرس «علم السياسة» ايضاً مبادئ المدينة ومختلف أجزائها فيزيد معرفتنا بها ويلقي ضوءاً على عناصرها وتغيراتها وبما انه علم عملي فإنه يبين لنا كيفية السير بهذه العناصر في طريق الكمال ، لأن هذا ضروري في كل علم عملي وقد أثارت معاودة اكتشاف التراث الفلسفي والعلمي اليوناني في أوروبا عن طريق ترجمة المؤلفات العربية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر مايعرف في تاريخها الفكري «بالنهضة الصغيرة» ثم كان الاكتشاف المباشر لهذا التراث مبعث مايعرف «بالنهضة الأوروبية» في القرنين الخامس عشر والسادس عشر .. انتهى الاقتباس. وخلاصة الموضوع الذي لايسمح الوقت ولا الحيز نقله كاملاً خلاصته أن تجارب الشعوب بمختلف علوم السياسة والفكر تجارب مشتركة واذا كان العرب قد استفادوا من ترجمة أفكار وعلوم وفلسفة اليونان وافادوا فيما بعد أوروبا والكثير من شعوب العالم فان العالم اليوم يستفيد من تجارب أوروبا ولاضير في ذلك فالعالم يتداول العلوم كل العلوم فلا ينبغي أن تدعي أية أمة الحقيقة لوحدها..والله الموفق.