بعد عدة مسيرات شعبية طالبت مجلس النواب بإصدار قانون حمل وحيازة الأسلحة دون أن يستمع لها أحد، عاد الجميع اليوم يشكو ويتذمر من حوادث العنف التي صاحبت حمى الانتخابات.. بل إن نفس الوجوه التي صدت عن مطالب المسيرات الشعبية نراها اليوم تزايد في حديثها عن العنف، وأمن الانتخابات، كما لو أنها لم تكن تتوقع حدثاً كالذي وقع في الجوف! والنصر يتعزز بالتأكيد بسبب وقوف المجتمع الدولي كله وراء "إسرائيل" في حربها التدميرية ضد لبنان ومع ذلك اضطر للبحث عن مخرج يحفظ ماء وجه "إسرائيل" ويسعى لتحقيق أهدافها من خلال الشرعية الدولية وقرار مجلس الأمن رقم (1701) الذي عزز ما تعتبره "إسرائيل" مكاسب لها في القرار (1559) بخصوص نزع سلاح المقاومة.. إذاً نحن أمام انتصار انتزعناه من صمود أسطوري أمام آلة حرب متطورة وفتاكة، رغم أننا لم نحرر شبراً واحداً من أرضنا ولم نستعد أسرانا بعد، وكما قيل فالنصر صبر ساعة وهذا أكثر ما ينطبق على الحرب الأخيرة. والسؤال الطبيعي الآن هو ماذا بعد ما اعتبرناه انتصاراً؟ هل هناك جولة ثانية من الحرب كما يروج "الإسرائيليون" الذين شعروا بمهانة كبيرة مما حدث لجيشهم؟ أم سيلقي المجتمع الدولي بثقله على لبنان لتنفيذ قرارات مجلس الأمن؟ الحقيقة أن المشهد يوحي بحالة حذر لدى جميع الأطراف السياسية اللبنانية وكذلك الإقليمية والدولية، إذ يبدو أن أحداً ليس على استعداد للمخاطرة بمواقف سياسية وميدانية غير مدروسة.. فالحكومة اللبنانية تجد نفسها في موقف لا تحسد عليه بين قناعاتها أو بالأحرى قناعات غالبية أعضائها الذين ينتمون لتيار (14آذار) وبين متطلبات تماسك الصف الوطني في هذا الظرف الحساس، حيث لا تستطيع الحكومة أن تتغافل عن أن أهم أولوياتها الآن تتمثل في إعادة إعمار لبنان وضمان عدم اندلاع الحرب من جديد وتوزيع الجيش اللبناني مع قوات (اليونيفيل) في الجنوب.. أما نزع سلاح حزب الله فليس واردا بالتأكيد في هذه المرحلة، وهي مسألة تدرك حتى الأممالمتحدة مدى حساسيتها وما قد تجره على لبنان من صراعات، إضافة إلى أنها لا تريد الدخول في صراع مباشر مع حزب الله، ولذلك أعلن كوفي أنان أمين عام الأممالمتحدة أن نزع سلاح حزب الله لا يدخل ضمن مهام (اليونيفيل)، والأكيد أنه أعلن ذلك باتفاق مع الدول الكبرى الراعية للقرار الدولي الأخير. صحيح أن حزب الله خرج سالماً معافى من الحرب رغم الثمن الفادح الذي دفعه من أرواح شبابه وهذا ما سيجعله قادراً على الصمود مجدداً في وجه أية ضغوط دولية، لكنه بالمقابل لم ينفِ مسؤوليته عما حدث، فأمينه العام السيد حسن نصرالله كان من الشجاعة بحيث قال بوضوح إنه لو كان يعلم عواقب عملية أسر الجنديين "الإسرائيليين" لما أقدم عليها، وهذه شجاعة محسوبة له بلا شك كعادته، رغم أنه قال في حوار سابق أثناء الحرب إن مخطط ضرب الحزب جاهز ومعد من قبل وإنه كان ينتظر الذريعة لذلك، إلا أنه كما يبدو، وكما قال مؤخراً، لم يكن يتوقع ولو واحداً في المائة الرد "الإسرائيلي" على عملية أسر الجنديين. والأكيد أن حزب الله نفسه كان مستعداً هو الآخر لمثل هذه المواجهة بدليل صموده ونجاحه في وقف الزحف "الإسرائيلي" إلى درجة أنهك فيها الجيش المعتدي من دون أن يبدو عليه هو نفسه أي إرهاق أو إنهاك، بل أبدى قدرة هائلة على إخفاء هذا الإرهاق والإنهاك.. لكن ماذا عن لبنان نفسه الذي دفع ثمنا باهظا من بنيته التحتية واستقراره السياسي الذي أتاح له في السنوات الأخيرة استعادة مكانته السياحية والاستثمارية، وكان موعودا هذا العام بموسم سياحي ممتاز يعوضه عن خسائر موسم العام الماضي الناتجة عن اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري؟ "إسرائيل" هي الأخرى تعيش أزمة مكتومة متصاعدة الأنين، فهي لم تتعود على الهزيمة وأكثر من ذلك لم تتعود على قصف مدنها، ف"الإسرائيليون" لا يطيقون ذلك ولا يحتملونه، وهو يعني ببساطة أن نظريات الأمن الخاصة بهم قد اهتزت بشكل كامل، فبعد الخطر الذي شكلته العمليات الاستشهادية لفلسطينيي الأراضي المحتلة جاءت صواريخ حزب الله لتؤكد لسكان هذا الكيان الذين قلما شعروا بالأمن أنه لا أمن طالما كانت حكوماتهم تصر على استمرار احتلالها أراضي شعوب أخرى وانتهاكها لحقوق شعب آخر ومعاملته بعنصرية بغيظة.. قد يكون من الصعب نزع الثقة عن الحكومة "الإسرائيلية" الحالية التي قام تحالفها على أساس أوثق مما عرفته أية حكومات "إسرائيلية" سابقة، لكن هزيمتها العسكرية كانت قاسية بما قد يدفع باتجاه تطورات داخلية مستقبلية باتجاه التصويت للأحزاب "الإسرائيلية" الأكثر مرونة تجاه عملية السلام بعد أن فشلت حكومة (شارون) العسكري المتشدد وخليفته (أولمرت) المدني المتصلب في فرض الأمن بقوة السلاح وبالجدار الأسمنتي الذي ثبت أن اختراقه ممكن من وراء الحدود، بل ثبت أن سياسات (شارون) وتعامله المهين مع السلطة الوطنية الفلسطينية كانا أحد الأسباب المباشرة لفوز حماس بالأغلبية في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وبدلا من أن يتعلم "الإسرائيليون" من أخطاء هذه السياسات الرعناء أخذوا يكررون الخطأ باعتقالهم رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني ونصف أعضاء حكومة حماس. لم تعد الأمور في المنطقة مدعاة للقلق كما كانت عليه عند بداية الحرب وتبشير وزيرة الخارجية الأمريكية بشرق أوسط جديد، والظاهر أنها ستسير باتجاه تهدئة تتبعها تسويات مؤقتة تكرس الهدوء وتتيح ل"إسرائيل" إعادة حساباتها من جديد، وتعيد لواشنطن كذلك إعادة ترتيب ملفاتها هي الأخرى مع إيران وسوريا وفي العراقولبنان، وحتى ذلك الحين الذي لن يكون قريبا سيظل سلاح حزب الله في يده وإمكانات المواجهة بينه وبين "إسرائيل" قائمة، خاصة إذا بقيت هذه الأخيرة متمسكة باحتلالها لمزارع شبعا.