صار من المؤكد اليوم أن شارعنا هذا قد صار من زمرة المنحوسين "والمنحوس منحوس ولو علقوا فوق رأسه فانوس". فما إن وصل الحفار إلى ساحته، حتى حوله إلى أخاديد لا يختلف بعضها عن تلك التي أقيمت أو حفرت لأصحاب الأخدود وبعد أيام عجاف من الدق فوق الصخر المحاذي لبيوت أهل الحي ظن الناس أن بيوتهم لن تنجو من شدة الاهتزاز، ترك الحفار الحي بعد أن غير معالم الشارع وحوله إلى سائلة من النيس والحجارة والصخور الناتئة والقبور المستطيلة.. أي والله هكذا فعل "الحفارون" ثم لاذوا بالاختفاء دون أن يكملوا عملهم، تركوا الأنابيب في الشارع والقبور فاتحة فاهها لالتهام أي جسم يقترب منها إنساناً كان أم حيون أو دابة من أي نوع، أما المركبات والموتورات فقد بقيت مفزوعة ترقب من بعيد لا تجرؤ على الاقتراب، حتى لا يلتهمها قبر من تلك القبور المفتوحة، أو تجد نفسها محصورة فوق أكوام الحجارة أو غارقة فوق أكوام النيس والتراب المبلول بماء الأمطار أو المتدفق من القصب المكسورة. وقد كثر كلام الناس حول هروب الحفار والحفارين.. منهم من يزعم أن المقاول قد أصيب بالذعر والفزع من شدة ما لاقاه من صعوبات وعراقيل فجيبه صار مخزوقاً لم يعد قادراً على الاحتفاظ بأية عملة من أي نوع، سواء كانت ورقية أو معدنية، وأنه صار يرى كوابيس في المنام على هيئة رجال لهم أنياب زرقاء يريدون إيذاءه، وعندما ظن أن ناب الدقاق أقوى من أنيابهم باعتباره مصنوعاً من الفولاذ وجدهم يلتهمون بسهولة سن الدقاق الفولاذية كما يلتهم القط السمين نقناقاً من النقانق الغليظة، فأصيب الرجل من جراء ذلك الكابوس بذعر أفقده صوابه وأدخله في حالة نفسية جعلته بتخبط في قراراته، فما إن يبدأ العمل في مكان معين حتى يجد نفسه يريد الانتقال إلى مكان آخر بسبب كثرة الهواجس والأوهام التي صارت جزءاً من حياته. لكن آخرين يزعمون أن ضجيج الحفار أو الدقاق قد أفقد العمال والمهندسين قدرتهم على التوازن فبقوا يتعاملون مع واجباتهم بشيء من اللا مبالاة، يتصرفون كما لو كانوا أطفالاً يلهون فوق معدات يحسبونها مجرد "لعب" جاؤوا بها لتسليتهم. أما الفريق الثالث فيزعمون أن الدقاق أو الحفار اكتسرت سنته لأن الصخر كان أقوى من الفولاذ، وعندما أدرك المقاول والمهندسون أن هناك صخراً أقوى من الفولاذ قرروا أن يخترعوا حفاراً محلياً يصنعون أسنانه من صخور بلادنا حتى يتغلبوا على هذه المشكلة التي جعلتهم يبدون أمام الناس كما لو كانوا لا يلتزمون بعهود ولا اتفاقات ولا يحترمون حق الناس في أن يكونوا سبباً في إقلاق راحتهم وتنغيص حياتهم، ثم يؤكد أصحاب هذا الرأي أن ترك الشوارع مفتوحة هكذا يشكل خطراً جسيماً على الأطفال والبهائم والقطط المذعورة بسبب مطاردة الأطفال لها بعد أن وجدوها تختبئ منهم في تلك الأنفاق الصخرية. وهناك فريق من الناس يزعم أن المال السائب يعلم السرقة، فإذا كانت لا توجد جهة حازمة، مخلصة ومؤهلة، تمثل الدولة في متابعة تنفيذ المشاريع العامة، فإنه لا يرجى من أي مقاول أن يتقي الله في تنفيذ ما أوكل إليه من أعمال، ومن أراد أن يتأكد مما يقول هذا الفريق الأخير فليزر شارعنا وينظر القصب البلاستيكية كيف صار بعضها يفترش الصخر بدلاً من النيس الناعم وتغطى بأكوام الحجارة والنيس، وذلك بعد هطول أمطار غزيرة، جرفت معها ما كان قد فرش لها (أي القصب). وما كان لذلك أن يحدث لولا التباطؤ وسلحفية الحركة وعدم الحرص على الإتقان، ومن شاء التأكد فليتأكد بنفسه، فليتفضل من يهمه الأمر وليبدأ من رأس الشارع عند مسجد الهادي شرق المجلية ويتفقد أحوال القصب المدفونة وأحوال تلك القبور في وسط الشارع ويرى أحوال الناس وهم يشقون طريقهم بصعوبة منذ طلوع الحفار حتى اختفائه في آخر أيامه قبل أن ينجز مهمته. إن ما أصاب رؤوسنا من صداع وأعصابنا من تلف أثناء وجود الحفار أو الدقاق ليس له ما يبرره إلا من أجل إنجاز عمل وتحقيق مصلحة للناس، وما دام العمل لم ينجز فقد دفع الناس ثمناً باهظاً دون مقابل.