ما حدث يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001م يفهمه عموم الناس بأنه كارثة إنسانية، لكن الوجه الآخر للحدث يقول أنه كارثة سياسية تضع آلاف علامات الاستفهام أمام البيت الأبيض أولاً، ثم أمام المجتمع الدولي برمته. ربما كان السؤال الذي لم ينل حظه من الجدل بعد 11 سبتمبر هو: لماذا انتقى الإرهابيون الولاياتالمتحدةالأمريكية خلافاً لأكثر من 150 دولة في العالم!؟ ولماذا ترعرع تنظيم القاعدة في أحضان افغانستان وليست غيرها من بلدان العالم؟ لاشك أن سعي الولاياتالمتحدة لربط الإرهاب بالعالم الإسلامي في مراحل مختلفة أعقبت كارثة سبتمبر لم يكن إلا دفعاً بالمسئوليات بعيداًَ عن أروقة البيت الأبيض، وسياسات إداراته المتعاقبة التي خلفت بمرور الوقت موقعاً مشحوناً بالانفعال الشديد لدى الكثير من شعوب العالم، والذي ما لبثت أن حملته الجماعات المتطرفة مبرراً لإضفاء المشروعية على دعواتها وممارساتها وترويجها لثقافة العنف. إن استهداف الولاياتالمتحدة بهجمات سبتمبر من قبل تنظيم إسلامي متطرف فكرياً لم يكن استهدافاً لأمة مسيحية أو يهودية، إذ أن الولاياتالمتحدة ليست بالوطن الوحيد للنصارى واليهود، فبعض دول أوروبا تمثل أهدافاً أسهل بجميع معايير المقارنة، وهو ما يؤكد أن الإرهابيين استهدفوا دولة لطالما حملوها مسئولية ما يحدث في بقاع مختلفة من العالم.. إلا أن هؤلاء الذين يكنون العداء الشديد للسلوك السياسي الأمريكي، ويصفونه بالظالم المتجبر، ويتهمونه بالمسئولية عن إبادة أبرياء، لم يبتعدوا هم أنفسهم عن تمثيل ذات الممارسات التي يدّعون أنهم يجاهدون ضدها.. فهاجموا مناطق مدنية، وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ بين آلاف الآمنين الذين لم يكونوا ذات يوم وراء صنع قرار دعم إسرائيل والدفاع عن جرائمها الإبادية، ولا عن الحرب على العراق والحصار الاقتصادي الذي فرض على شعبه، ولا عن ضرب السودان وليبيا والفتن والحروب الداخلية لعدد من شعوب الأرض التي كانت الإدارة الأمريكية لها اليد الطولى فيها!! الانتقام الخبيث الذي مارسته الخلايا الإرهابية، وقوة التعاطف الإنساني مع ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحجم الغضب والرفض أتاح ذلك كله أمام الإدارة الأمريكية فرصة غانمة لاستثمار تلك الانفعالات في ستر الكارثة السياسية للإدارة الامريكية التي ألقت الشعب الأمريكي في أتون عنف دموي ما كان لأحد منهم يفكر بمثله إطلاقاً في ظل ثمالته بالتعبئة الديمقراطية، والترويج الإعلامي السياسي المنمق باتجاهات ومفاهيم مغلوطة طالما ظلت جوقة توجيه القرار السياسي الأمريكي تمرر أوهامها وتحرف تفسيراتها. ولكن احتضان افغانستان لتنظيم بحجم القاعدة يُحمُّل الولاياتالمتحدة مسئولية أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها لأن هذه الدولة الموصوفة ب«العظمى» والتي تهيمن على السياسة الدولية من مشارق الأرض إلى مغاربها تركت الشعوب الفقيرة والمتخلفة فريسة لتنظيمات إرهابية ذات إمكانات مادية هائلة لا تجاريها أجهزة حكم تلك الدولة المغلوبة على أمرها بإمكاناتها، ورغم قدرة الولاياتالمتحدة ومعها الدول الكبرى على مساعدة هذه الشعوب ومكافحة فقرها وجهلها وتخلفها التنموي إلا أن السياسات الدولية ظلت تتجة نحو مزيد من احتكار الثروات والتكنولوجيا والاقتصاد. إن الفجوة التي وجدت الشعوب الفقيرة نفسها على أحد أطرافها، وتفصلها عن غيرها من الشعوب، ضاعفت من الإحساس بالظلم والاضطهاد الإنساني، وعززت القناعة لدى الكثير من الشباب في البلدان الفقيرة بعدم أهمية الحياة التي يعيشون في كنفها.. وهو الإحساس الذي استغلته قيادات الجماعات الدينية المتطرفة، ووجهته لخدمة أهدافها العدوانية وترجمة نقمتها على الوجود الإنساني من خلال تجنيد هؤلاء ضمن الخلايا الإرهابية. عندما تراجع اليوم حسابات الحادي عشر من سبتمبر تكتشف أن البيت الأبيض لم يستفد كثيراً من دروس تلك الكارثة، فبعد أربع سنوات من هجمات سبتمبر يجد الأمريكيون والعالم معهم أنفسهم أمام آلام موجعة، ودمار هائل خلّفه إعصار كاترينا الذي قتل الآلآف وكبّد الولاياتالمتحدة خسائر تقدر ب 125 مليار دولار أمريكي، فيما كان رجل الكاوبوي تائهاً عنهم في العراق. الولاياتالمتحدة التي رفضت التوقيع على المعاهدة الدولية الخاصة بالاحتباس الحراري، والتي نشرت جيوشها في مختلف بقاع الأرض لتشعل حرباً هنا، وتحتل بلداً هناك.. وشغلت كل موظفيها في جمع المعلومات الأمنية والتجسسية احياناً، وتحت مختلف العناوين.. اكتشفت على حين غرة أنها عاجزة عن إنقاذ شعبها من الهلاك أو توفير الطعام والماء، أو تحمل اتفاقات تقديم الرعاية الطبية، لأن كل شيء من إمكاناتها البشرية والمادية بات خارج حدودها الجغرافية.. يغوص في المستنقع الدموي العراقي، وتداعيات الرهان «الديمقراطي» الأمريكي الفاشل الذي أكد للعالم أن امريكا لا تمنح الديمقراطية والحرية لأحد مادامت عقلية «الكاوبوي» هي التي تحكمها! الفاجعتان مؤلمتان لكل من يحمل في داخله ذرة إحساس إنساني.. لكن الذي يؤلم أكثر أن تسخر دولة عظمى مثل أمريكا كل إمكاناتها التقنية المتطورة، والبشرية المؤهلة من أجل إشعال حروب، وفتن، ونزاعات، وممارسة هيمنة ابتزازية في بقاع مختلفة من العالم وتنسى مسئولياتها الوطنية إزاء شعبها حتى لو كانوا من فئة الأمريكيين السود!؟ فيا ترى هل سيأتي يوم على البيت الأبيض ينزع كل الذين فيه قبعات «الكاوبوي»!؟.