- نزار العبادي القصور الواضح في آليات تكوين المشهد الثقافي والفكري والمدني اليمني قاد إلى فشل في الوصول إلى كيان نخبوي يتصدر ساحة الوعي ، بل إن التشتت أصبح الهوية الأوضح.. ولابد من أسباب لذلك! الادباء منقسمون على أنفسهم ،والنقابات تواصل انشطاراتها وتشظيها ،وأقلام الكتاب تتخندق خلف عشرات السواتر السياسية والفكرية.. وما أن يولد كيان جديد حتى يفرخ اليوم التالي كيانات أخرى ،حتى لم يعد بوسع أحد الإشارة بالبنان إلى تكوين بعينه بوصفه صيغة نخبوية. للأسف الشديد أن هذا اللون من التشظي لم يلد اعتباطاً بل أن ايادٍ كثيرة متورطة في صناعته سواء كانت في السلطة أم المعارضة ،أم ممن يحسبون أنفسهم مستقلين.. رغم أنه واقع لايخدم مصلحة أحد بل أضر كثيراً باليمن وهويتها الثقافية ،وأدوارها الانسانية. وبتقديري أن نخب الوعي والكلمة تتحمل المسئولية الأولى قبل أيّة جهة أخرى لأنها لم تحترم الأطر التي يناط بها العمل داخلها.. فانزلقت إلى سوح الحزبية ،والمصالح ،والحروب غير الشريفة التي لاتجعل الوطن غاية أولى.. لكن في كثير من الأحيان نجد أن هذه النخب هي نفسها ضحية سوء تقديرات صناع القرار هنا أو هناك ممن بأيديهم صنع طقوس البرد والحر والصحو والعواصف. النخب الثقافية والفكرية والاعلامية الموصوفة بالرزانة والاعتدال ،وتحكيم المنطق لم تعد نخباً تناسب أذواق صناع القرارات ،لأنها صعبة المراس والانقياد لأهوائهم وأمزجتهم المتقلبة ،لذلك أصبح هناك توجه لدعم العصبيات التي تعمل ببعد واحد إما ترى فيه الأمور كلها إيجاباً وإما تراها سلباً دونما افتراض وجود الحالتين معاً. ومن هنا كان الدعم السخي المقدم للعصبيات ،مع المظلات التي يتفيأ تحتها ،والظهور التي يستندون إليها كانت كلها كفيلة بتمكين هذه العصبيات من سرقة أضواء الساحة ،وبالتالي حجب النخب الحقيقية صاحبة المبادئ والمواقف والرأي السديد.. وفي أغلب الاحيان لم يكن الوازع من صنع هذه العصبيات أكثر من مخاض صراع حزبي ،وسباق على النفوذ.. وهو الأمر الذي مايلبث أن يرتد على صناعه حين تختل بعض المعادلات ،أو يستشري نفوذ وفساد هذه العصبيات فتتحول إلى كيانات مسعورة تلتهم اسيادها ،وتتمرد على قوانين اللعبة ،وتساوم حتى على مصالح الوطن العامة. اليوم ترفع هؤلاء «العصبيات» شعاراً وحيداً وهو «ادكمه يعرفك» هكذا يقولون وهكذا يعلمون الآخرين أن المنافع لاتكتسب بجهد بل تنتزع بفتنة.. فالنقابات تستغل ظروف احزابها التي صنعتها لتتمرد عليها في لحظات ضعفها.. والمنظمات تفعل الشيء نفسه.. والإعلام يحتفظ بالفضائح والأسرار متحيناً الوقت المناسب للتهديد والابتزاز بها.. فمن كان مع حزب حاكم سربها إلى زميل في المعارضة ،ومن كان في المعارضة أرسلها عبر البريد الالكتروني لزميل في الحزب الحاكم.. والكل يخدم مصالح الكل مادامت ملة الفساد واحدة ،وغايات الانتهازيين معروفة.. ومادام هؤلاء كانوا صناعة صدفة حزبية وليس خبرات متراكمة وقناعات مبدئية. اليوم نحن جميعاً ندفع ثمن هذا اللون من الفساد.. لأن الشرفاء المخلصين لايحسنون خوض معارك فلول الرذيلة.. ليس فقط لأنهم لايجيدون تداول الالفاظ البذىئة ،أو فبركة الافتراءات والاكاذيب بل أيضاً لأنهم لايمتلكون الامكانات المادية ،والدعم المعنوي للقيام بذلك أو درء التضليل والتشويه الذي يصيبهم أو يصيب وطنهم ،أو يمس قيمهم التي يحترمونها.. ويقدسونها.. وبتلك الطريقة احترقت مئات الاقلام الشريفة وتم إقصاء مئات المخلصين وخسرت اليمن جهوداً نقية من شأنها أن تخدم الفرد والمجتمع والدولة. أعتقد أن اليمن اليوم بأمس الحاجة لمساعدة النخب الحقيقية بالعودة إلى واجهات الاحداث.. وهذا لن يحدث مالم يتوقف الجميع عن تغذية الكيانات العصبية التي تخلق الفتن وتضلل الرأي العام ،وتصنع الأوهام ،وتحول الساحة الوطنية إلى محض فقاعات خاوية لاتحتمل مواجهة أصغر التحديات التي قد تعترض مسيرة البلد.