أسهل أنواع الكتابات وأكثرها رواجاً تلك التي تكتب بمفردات من قواميس الشتائم والمبالغات، وترى في كل شيء مشكلة بالغة التعقيد تكاد تعصف بالجميع وتحتاج إلى ثورة عارمة من أجل تجاوزها وتخطّي أسبابها ومسبباتها.. هذه الكتابات هي الأكثر استحساناً وقبولاً عند بعض الناشرين والقراء، وبالتالي فكل مقال أو موضوع لا يتحدث عن كومة مشكلات، ولا يسلح بالمفردات النارية والنابية لا يُنظر إليه وهو أبرد من الثلج، وكثيراً ما يُهمل أو يُؤخر إلى وقت الضرورة لملء فراغ في الصفحات أو في وقت القارئ. يستطيع الكاتب أي كاتب أن يحشد أكثر من مشكلة في مقال واحد ويستمر على هذا الحال زمناً طويلاً، ولن تنفد «شوالات» المشاكل، ولن تنفد مفردات الشتائم والتجريح. ويستطيع أن يجمع في مقال واحد العشرات من المشاكل المحلية ويضفي عليها تعقيداً وخطورة تغرق البلد في بحر بلا قرار فيما لو كانت حاصلة بالفعل كما يراها هو وفي زمن قياسي في سرعة الغرق. ويستطيع في ذات الوقت أن يحدد أسبابها، وأسماء من تسببوا في حدوثها ولو لم يكن متأكداً من ذلك، لكنه يستطيع أن يفعل هذا، ويكيل أطناناً من الأوهام والكذب والشتائم واللعنات وأشياء أخرى من ذات القاموس، ويخلص في النهاية إلى استحالة الحلول في ظل الظروف المصاحبة لهذه المشكلات، ويترك الجميع في حيرة من أمرهم عن حقيقة ما يحدث، ويترك انطباعاً عن البعض أنه الأكثر جرأة وشجاعة والأكثر معرفة ووعياً في كل الجوانب والسياسات. المؤسف والمحزن في هذا الوضع هو أن تقاس أهمية الكتابات وأفضليتها بمقياس يعتمد عدد المشكلات في المقال الواحد، ودرجة تعقيدها، وسوء المفردات المستخدمة معياراً لجودتها وأحقيتها في النشر والقراءة. وهذا من شأنه تأكيد هذا المقياس على المدى البعيد، وإغفال الرسالة الحقيقية للكلمة وللكتابة وأهميتها في خلق الوعي السليم وتهذيب الأخلاق، بدلاً من تفريغ العقد والأحقاد وتعميم حالات التشاؤم والقلق وتسويق ثقافة الشتائم واللعنات وإظهار العداوات بعد افتعالها أو اختلاقها كما تختلق المشكلات وترمى على الغير أسباباً ونتائج ومسؤولية عامة. من الخطأ أن تختزل رسالة الكتابة في صراع المفردات والتراشق بأسباب المشكلات، وتجسيد حالات التشاؤم والتفاؤل عند أطراف الصراع لتثبيت صورة واحدة للوضع غير قابلة للتغير والتحول في ظل المتغيرات التي قد تحدث. هذا الاختزال يجعلنا نقرأ في أوقات كثيرة مقالات ملغومة إن صح التعبير أكثر مما نقرأ كتابات تخدم الفكر والثقافة والمعرفة والوعي. ومع كل هذا فإن هذه الكتابات هي السمة البارزة لواقع يراد له أن يتأصل فكراً وثقافة ووعياً لخلق مزيد من المشكلات وزيادة تعقيدها وبقاء الأجواء مشحونة بالتناقضات، عامرة بالفوضى تحت مظلة ديمقراطية فهمت على غير حقيقتها وأسيء العمل بقواعدها وأدبياتها، وبذلك سوف تكون نتائج هذا الفهم والعمل والممارسة سيئة في المحصلة والمضمون؛ فقط لأن أهم وسيلة ديمقراطية للتعبير عن الآراء والمواقف، وأهم وسيلة لخلق الثقافة والوعي السليمين البناءين قد أسيء فهمها واستخدامها لتحقيق الأهداف المنشودة، وهي وسيلة الكتابة أولاً وأخيراً. إن مسألة استحسان لغة المشاكل ومفردات التجريح هي سبب ونتيجة، فهي سبب لثقافة اختلاق المشكلات وافتعالها، وثقافة الشتائم السائدة عند البعض، وهي نتيجة لثقافة من هذا النوع سبقتها ورسمت خطوط تشكلها بناء على الفكر الذي استقت منه هذه الثقافة مفرداتها وأساليب الحديث والكتابة والتعاطي مع الغير. وعلى هذا سوف يتم تناقل أو توارث هذه الثقافة ما لم يتم تصحيح المفاهيم قبل أن تتأصل حتى يمكن تناقل أو توارث ثقافة سليمة المفاهيم، مهذبة الألفاظ والمفردات، تبني لا تهدم.