هناك مثلٌ مُلهِمٌ معروف يلخص قصة الفقر والتأهيل وتعويم الفقراء ليسبحوا في الحد الأدنى على مياه الكفاف وفقاً للدعاء المأثور «اللهم اجعل رزقنا في يومنا» وهو الستر الذي طالما لهجت به ألسُن أهلنا، واعتبروه غاية المنى.. لأن الغنى قد يُبطر من لا يحمد النعمة، والفقر قد يؤدي إلى الكفر لدى من يجحد القسمة ولا يتوسل الأسباب وفقاً لما عبّر عنه الحكيم اليمني علي بن زايد: «أمسيت من فقر ليلة.. سارق وزاني وكذّاب» أما المثل المقصود فيقول: «بدلاً عن أن تمنح الجائع الفقير سمكة كل يوم علّمه كيف يصطاد السمك». إن السمكة الصّدقة قد تنقطع لأي سببٍ من الأسباب، ناهيك عمّا تحمله من مذلة الطلب، لأن الطالب مرتهن للمطلوب، والأمر لا يخلو من كلمةٍ نابية أو نظرة ناهرة أو اعتذارٍ جاف، مما يغص به الحلق، ويسمم البدن، فالبلاش يجيب العمى والطراش، كما يقول المثل اليمني. ولم يأت من فراغ قول الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: «لو تمثل الفقر في رجل لقتلته» لأنه كما قال الشاعر ابن الأحنف:- يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها وتراه مبغوضاً وليس بمذنبٍ ويرى العداوة لا يرى أسبابها حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة خضعت لديه وحرّكت أذنابها وإذا رأت يوماً فقيراً عابراً نبحت عليه وكشّرت أنيابها ماعليش.. طال الاستشهاد، لأنني من محبي الشعر، وأنسى أن كل الناس ليسوا مثلي. وبعيداً عن الكلاب وطباعها، والغنى والفقر وخواصهما، فربّ غني في غاية الشقاء وله معدة مفتة كالثريد، لا يستطيع بها حتى هضم العصيد، وربّ فقير تمر به سويعات من الهناء، وله معدة كالحديد، يهضم بها اللحم القديد. وكان الشيخ الشعراوي رحمه الله يقول: «إن عدل الله في الأرزاق لا يشبهه عدل لكماله وشموله؛ ولكن الناس لا يعلمون». الشاهد هو أن وطننا السعيد، قد حاز من الفقر ما ليس عليه مزيد رغم أن شعبنا شعبٌ عامل، لا يتأفف من أي شغل، وقد عرف الدنيا بالهجرة، ويقنع بالقليل، وتتكدس الخبرات لديه فوق الخبرات، وبحاره ممتدة، وعزائمه مشتدة، ولكن ثمة لعنة تجعل منا شعباً بحمد الله يمشي إلى الوراء.!!. هل هو الفساد الذي أزكم أنوف العالمين؟! هل هو القات الذي أضاع أوقات العاملين؟! هل هو الاستبلاد، أم الوقوع في براثن القول بلا فعل؟! «كَبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» فمقتُ الله إذا حلّ بقوم وضعهم في موضع أهل بيزنطة يتقاتلون حول أيهما الأسبق وجوداً البيضة أم الدجاجة؛ بينما عاصمتهم تُستباح، ووجودهم في الرياح؟!!. عنّ لي اليوم أن أعرض جانباً من تجربة البنجلاديشي المسلم محمد يونس الحاصل على جائزة نوبل العام الماضي ومؤسس بنك «جرامين» للأرصدة الصغيرة؛ وذلك في حربه التي لا تكلّ على الفقر والتي أوجبت احترام وتقدير العالم والعلماء «إنما يخشى الله من عباده العلماء» وما لكم ولنضاحي الكلام الذين «يبيعون الماء بحارة السقّايين» يقول يونس: إن كل البشر من دون أي استثناء، ومن دون اعتبار لعوامل الزمن والجغرافيا والحدود السياسية واختلاف التقاليد والبيئات وغيرها، جميعهم مديرو أعمال بشكل أو بآخر، وذلك بحكم طبيعتهم البشرية نفسها، والاختلاف يعود إلى طبيعة المجتمعات البشرية نفسها، لا إلى طبيعة البشر «يعني يمكن إصلاحه ومقدور عليه». ويحكي عن العنصر الضعيف الفاقد للثقة في قدراته وهنّ النساء فيقول: كن يرفضن الاقتراض لأنهن لا يعرفن إدارة المال، ومع مضي السنوات بلغ عدد المالكين لأسهم بنك جراين 7.5 ملايين شخص؛ تشكل النساء نسبة ?97 منهم، وقد سيطرن على مجلس الإدارة وهن يحكمن 2500 فرع عدد موظفيها 27 ألفاً. ويحكي يونس تجربة تحويل الشحاتين إلى منتجين «عددهم مائة ألف» قلنا لهم: إنكم طالما تقومون بالدوران في الشوارع وعلى البيوت؛ فلماذا لا تحملون معكم بعض البضائع للبيع، ولا بأس أن تستمروا في طلب الإحسان؟!.. فأقرضنا كل واحد بين 15 إلى 20 دولاراً، وتركنا حرية اختيار ما يريد بيعه. وقد تحول اليوم 10 آلاف منهم إلى مديري أعمال بدوام كامل، وكفّوا عن طلب الإحسان، وقد انفتحت أمامهم أبواب أخرى كانت فئات من المجتمع بأمس الحاجة لمن ينوب عنها في تنفيذها مثل متطلبات النساء المتحجبات في البيوت مما شكل موارد إضافية، والبقية في الطريق. بنك «جراين» يذهب إلى الفقراء ولا يطلب منهم أية ضمانات، وقروضه لا تتجاوز مائة دولار، ونسبة سداد القروض 99 ? في هذه المرحلة.. فلنأخذ الحكمة من بنجلاديش وليس من الصين.