منطق المركزية الأوروبية الذي استنفد أغراضه وأثبت تهافته مازال يطل برأسه من جديد في بعض الأدبيات العربية، وخاصة تلك المخطوفة بالتأورب حد الثمالة، وهؤلاء النفر من العرب المتأوربين بالمعنى السلبي للكلمة لا يتورعون عن إعادة إنتاج أدبيات المركزية الأوروبية بصورة فاقعة ودونما استقراء لكامل التصحيحات المعرفية والمنهجية التي تمت في العقل الأوروبي ذاته. فالمعروف أن كثرة كاثرة من علماء أوروبا ومستشرقيها ومستعربيها توقفوا ملياً أمام الجناية التاريخية التي ارتكبها منظروا المركزية الأوروبية، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر “ لويس ماسينيون “ الذي توقّف مديداً أمام الإسهامات النصّية متعددة الدلالات “ ميتافورا “ عند المتصوفة، وكان أول من حقق أبرز النصوص في هذا الجانب كاشفاً عن أبعادها الواسعة في البيان والبديع وفلسفة الجمال، ومنهم أيضاً “ جوستاف لوبون” رجل التاريخ والديانات والسيكولوجيا الذي كتب تاريخ الحضارة الإسلامية مسلطاً الضوء على مآثر تلك الحضارة ودورها البارز في إخراج أوروبا القرون الوسطى من ظلامات الكهانة الدنيوية المقيتة، ومفرداً في ذات الوقت أبواباً واسعة للملحمة الحضارية الأندلسية، ومنهم أيضاً الفيلسوف المعاصر “روجيه جارودي “ الذي دخل الإسلام بعد رحلة إبحار طويل في الشك الديكارتي، ومعرفة فلسفية عقلية برهانية، وسباحة قصوى في المنطق الرياضي الجبري حتى إنه اعتبر في ستينيات القرن المنصرم أحد كبار منظري الماركسية الفلسفية، مثله مثل الإيطالي الكبير “ انطونيو غرامشي “ مؤسس اليسار الماركسي الإيطالي. غير أن جارودي وغرامشي لم يتساوقا فقط في مناشئهما الفلسفية المادية، بل أيضاً في مصائرهما فقد تخلّى جارودي عن اليسار الفرنسي طواعية ، فيما اتهمت الأممية اليسارية الاستالينية انطونيو غرامشي بالانحراف، وهكذا انفتح باب واسع لكوكبة من الأسماء المفكرة في تيار اليسار ممن انشقوا عن أحزابهم وتخلّوا عن ميكانيكية المنطق البرهاني الجبري . واصل جارودي دراساته الدؤوبة للآداب المشرقية، ثم تابع نقده لليسار الاستاليني، وصولاً إلى تعريته للإمبريالية المتوحشة، واعتباره الإسلام مخرجاً حقيقياً للبشرية المعذبة . في الآداب ذات المنشأ الأوروبي والتي أسهمت في فضح العقل المركزي والعنجهية النابعة من نجاحات الثورة الصناعية والمرحلة البرجوازية وحتى الاستعمارات لكثرة كاثرة من بلدان الجنوب في العالم .