في مختلف تجارب العالم الديمقراطية تفرض الحسابات التعددية بافتراض بلورة مناخ تنافسي يتفاضل أقطابه بالأداء الأحسن، والمبادرة الأجدى.. إلاّ أن تجربتنا الديمقراطية شذت عن ذلك الافتراض لسبب أو لآخر.. عندما نتجاوز سبعة عشر عاماً من عمر التجربة اليمنية، وتتعدى الولادات الصحفية قدراتنا في إحصاء الأرقام فإن المنطق يقول: إننا اقتربنا من سن النضوج، لكن الواقع يقول: إننا قبلنا الحياة بالصيغ النمطية التي ابتدعناها على الصعيد الحزبي والإعلامي على حدٍ سواء، فلا الأحزاب قادرة على التجديد ودغدغة الساحة بمبادرة نوعية ، ولا الإعلام قادر على التحرر من أطر الانتماء الحزبي، واجتذاب الساحة الشعبية بتجربة تترجم حال أفرادها، وتواسي معاناتهم. غالباً ما يفتح المثقفون أبواب الجدل في هذا الشأن، وعندما يتأملون التجارب المرافقة للديمقراطية يكتشفون أن العدوى قد طالت حتى المجتمع المدني، بحيث باتت المنظمات تقلد بعضها البعض، وتستنسخ حتى نفس الخطابات والبيانات التي تصوغها في مختلف المناسبات. إلاّ أن النخب الثقافية عادة ماتخلص إلى حقيقة مهمة، وهي أن هيمنة قيادات تقليدية على مؤسسات المجتمع الحزبية والإعلامية والمدنية، ولفترات طويلة هو السبب الرئيس الذي قتل روح الحياة في المجتمع وحول كل شيء إلى ممارسة نمطية نستنسخ فيها اليوم تفكير وأداء ما قبل سبعة عشر عاماً.. وربما أكثر. وتبدو هذه الهيمنة واضحة من خلال تقوقع القيادات الحزبية في مراكزها، وتبادل الأدوار داخل نفس الدائرة وبنفس الأدوات أو الأشخاص، وبنفس العقليات وأنماط العمل، وبالتالي فإن واقعاً كهذا انعكس سلباً على مؤسسات الإعلام أيضاً التي باتت تكرر نفس الخطاب وتقوقع داخلها نفس الكادر المرتبط بتلك القيادات المخضرمة. وفي الحقيقة كان بإمكان الإعلام أن يدفع دوائر السياسة للتغيير لو - فقط - استطاع البعض المغامرة، والانفراد بتجربة إعلامية جديدة تعمل لأجل اليمن واليمنيين وليس لأجل الحزب أو المسؤول الحكومي.. ومن هنا كان إخفاق الوسط الإعلامي في تجربة التجديد عاملاً مهماً في تكريس الحالة النمطية في الحراك المجتمعي. ولكن مع هذا هناك من يؤكد أن الإعلام لن يتطور في القريب العاجل طالما وأن إمكاناته المادية مرتبطة بنفس القيادات التقليدية المخضرمة، وما لم ينجح الإعلام في تحرير نفسه من التمويل التبعي فإنه لن يتحرر رأيه إطلاقاً مهما أدعى البعض عكس ذلك.. لأننا نعلم أن من يقودون المطالبات بالحريات الإعلامية عاجزون إلى أبعد الحدود عن توجيه أدنى انتقاد إلى الجهات التي يتبعون لها، والمسئولة عن مدهم بالتمويلات.. ومن هنا فإن الإعلام مطالب بالتفكير ملياً عن بدائل تمويلية، أو عن طريقة معينة للتمويل الذاتي، والتحول من مؤسسة استهلاكية إلى مؤسسة إنتاجية، وحينذاك فإننا نتوقع أن يعمل ذلك على خلق ساحة سياسية خلاقة ومنتجة ومتجددة في توجهاتها.