هناك فقط عدد قليل جداً من طلبة الثانوية العامة من سمع أباه أو أمه أو كليهما يرددان على مسامعه منذ مراحل طفولته المبكرة : إن في داخله يسكن ملاكاً من الطهر والنقاء في تعامله مع الآخرين،يؤهله أن يكون طبيباً.. فإذا ماحصل الطالب على المعدل الذي يسمح له الالتحاق بكلية الطب داخل البلاد أو خارجها وجد نفسه مهيئاً نفسياً وتربوياً وعلمياً للاختيار السليم فتعيش الأفكار التي سمعها من أبويه في ذهنه،تكبر معه وتنضج معه وتتخرج معه،فإذا ما وجد نفسه في يوم من الأيام طبيباً،فهو ذلك الطبيب الملتزم،الذي يتمنى لو يستطيع أن لا يتقاضى أجراً من المريض،بل يتمنى لو يستطيع توفير قيمة العلاج للمريض.. بل يتمنى لو يذهب أبعد من ذلك في أن يبحث بنفسه عن أولئك المرضى الذين لا يستطيعون الوصول إلى المؤسسات الصحية،فيكون في خدمتهم حيثما كانوا.. وهو في ذلك لا يشعر أنه يتكلف مشقة أو أنه قد قدم فضلاً لأحد أو أنه قد ارتقى بالمهنة بحيث كادت «أي مهنة الطب» من شدة نقائها وصفائها أن تفقد آدميتها لتصبح مهنة ملائكية،تذكرنا بما كان عليه الأولون من رواد الطب منذ عهد «أبو قراط وجالينوس وابن سيناء والفارابي وغيرهم».. مثل هذا الطبيب الذي أتحدث عنه،ليس مستحيلاً أن نجد مثله، وليس مستحيلاً أن تصنع الأمة نماذج قريبة الشبه من هذا النموذج.. ولكن السؤال هو: هل جربت الأمة أن تصنع مثل هذا النموذج ففشلت أن تصنع مثله؟ فقررت أن تكف عن هذه المحاولة بعد أن ثبت لها استحالة أن يوجد أطباء بأخلاق ملائكية..؟! لا أكون مغالياً إذا قلت إن هناك بعض الأطباء لم يجدوا من يؤهلهم أو يعدهم لأن يكونوا أطباء ممتازين علماً والتزاماً وأخلاقاً ومع ذلك ليسوا بعيدين عن صورة النموذج. وقد وصلوا إلى ماوصلوا إليه بعناية سماوية وليس بفضل توجيه المجتمع ولا بفضل توجيه أو تلقين الآباء والأمهات.. ولا بفضل الاختيار الموفق من قبل الجامعات أو المدارس لمن يصلح أن يكون طبيباً ومن لا يصلح إلاَّ أن يكون سمساراً أو تاجر خردوات أو بائع قات أو أواني مستعملة . إن الغالبية العظمى من الأطباء الذين نراهم يتسكعون في أروقة المستشفيات والمؤسسات الصحية أو يلهثون خلف «المطوفين» الذين يبيعون ويشترون بالمرضى،يعاملونهم كما لوكانوا قطعاناً من الماشية يحسبونها بعدد الرؤوس التي تصل إلى العيادات الخاصة أولئك الأطباء،ليسوا أطباء،إنهم تهمة باطلة على الأطباء. إنهم يشبهون شجرة لا تمنح ظلالاً ولا تعطي ثمراً وليس فيها غير الشوك أو اللحاء الجاف،وعندما يجتمع جهل الطبيب من الناحية العلمية وسوء خلقه فقد اجتمع الشر كله في يد واحدة.