الحقيقة والوهم.. ثنائية خاض معها محمود درويش حربه الطويلة ليعود.. عاد، ولكنها عودة مشروطة بالإقلاع الأبدي عن كتابة الشعر..!! لنتصور الحياة عندما تصبح مرافعات يومية لإثبات الحق والإصرار على البقاء.. لنتصورها تحدياً عن عقيدة بحتمية استيقاظ العدالة، وثبات على ممارسة فعل الحياة بطموح الخلود وتجذير الإنسان مشدوداً إلى حكايات صباه، ومستقبله المرهون بالتضحية. إذن كم هي مثيرة تلك الحياة التي عاشها رجل كهذا وهو يقرأ للعالم «يوميات جرح فلسطيني» أو يرسل كل يوم إلى عدوه برقياتإهانة وتخويف..!! كانت القضية الفلسطينية مع محمود درويش مشروعاً متواصلاً للفضح وإثبات الحجج.. كان يزجي إلى ساحة المعركة ويصب على الأطلال والخرائب بواعث رائعة تذكي قرار الصمود وتأكيد حق العودة.. كانت المقاومة مع محمود درويش خلاصاً سائغاً من تنازلات غريبة لا مقابل لها. وكان الإيمان بصلابة الإرادة هو عزاءه الوحيد من مفاوضات يفتق العدو أعمالها باستفحال الطيش الغادر واللقاء لم يتنه بعد. القصيدة الدرويشية قصيدة مؤذية، مقلقة وصفتها الصهيونية ب«القصيدة المجنونة» ونزولها بين يدي المتلقين يشكل طارئاً خطيراً يشغل حيزاً من تفكير العقل السياسي الإسرائيلي. لم تكن الحداثة لدى محمود درويش متنفساً آخر لهموم يعيشها الأديب، ولم تكن صياغة متسامحة لقالب شعري يحمل سمات الجديد الثائر على القديم فحسب، وإنما كانت جبهة أوكلت إليها الإرادة الفلسطينية مهاماً كثيرة منها تذكير أنظمة العالم بحقيقة المأساة وسرد تاريخها منذ البداية إلى جانب ممارسة خطاب منطقي يضع الصلف الإسرائيلي أمام خيار وحيد هو حتمية الخسران وإن طال الزمن. وفي بؤرة النص الدرويشي يجد الإنسان الفلسطيني حقوقه التي منحته إياها إنسانيته وأحقيته بالنيل ممن يغتصبها بل وتوبيخه بالقول: إذن سجل.. برأس الصفحة الأولى أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي حذارِ.. حذارِ.. من جوعي ومن غضبي! واليوم يغادر محمود درويش الحياة تاركاً للأحياء من العرب مهمة الوصول إلى نقطة البداية الصحيحة، داعماً إياهم بإرث معنوي دائم البقاء في مساحة الصراع الحقيقي لتحرير الأرض والإنسان.. وليت فرقاء السياسة يعملون بمقتضاه.!!